التعليق الرياضي وسؤال الحياد الإعلامي
حميدة الجازي *
لم يعد التعليق الرياضي مجرد مرافقة صوتية لمجريات اللعب ولما يحدث داخل رقعة الملعب، أو وسيلة لإضفاء الحماس على الأحداث، بل أصبح فاعلا أساسيا في تشكيل الوعي الجماعي وبناء تمثلات الجمهور حول الفرق والمباريات وحتى اللاعبين. فالمعلق الرياضي، بحكم موقعه «الرمزي» ودوره «الوسيط» بين الحدث، أي «المباراة»، والمتلقي، يساهم في «صناعة المعنى» ويوجه «الإدراك العام» وبناء «السرديات»، سواء من خلال اللغة المستعملة أو نبرة الصوت أو طريقة تقديم الوقائع.
وانطلاقا من هذا الوعي بدور الإعلام ومسؤوليته، تبرز أهمية مساءلة الخطاب التعليقي في المباريات الكبرى، خاصة تلك التي تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة. وفي هذا الإطار، تندرج هذه القراءة النقدية لأسلوب الصحفي الرياضي «عصام الشوالي» في التعليق خلال المباراة النهائية لكأس العرب التي جمعت المنتخب المغربي بنظيره الأردني، بوصفها محاولة لرصد بعض مظاهر «الاختلال» في الممارسة الإعلامية، بعيدا عن الشخصنة والذاتية والعاطفة، وأقرب إلى منطق النقد المهني المبني على قواعد وأسس علمية.
إبراز غير متوازن في الحضور الرمزي
من بين الملاحظات الأولى التي يمكن تسجيلها هو التكرار اللافت لاسم المنتخب الأردني مقارنة بالمنتخب المغربي. وفي تحليل الخطاب الإعلامي، لا يعتبر التكرار مجرد خيار لغوي بريء، بل يعد آلية إبراز ترفع من حضور طرف معين في وعي المتلقي دون غيره. هذا النمط من التناول يسهم في خلق مركزية رمزية لفريق واحد، ويوجه متابعة المشاهد ضمن زاوية إدراكية محددة، حتى وإن بدت العبارات في ظاهرها وصفية وغير مباشرة.
التأطير القيمي بدل
التحليل الرياضي
وفي نقطة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، يتجلى شكل آخر من أشكال الانزياح المهني في اعتماد وتبني توصيفات ذات حمولة عاطفية وقيمية، من قبيل «النشامى لا يستسلمون» أو أن الأردن «يلعب بروح عالية». هذا النوع من الخطاب يخرج عن إطار التحليل الرياضي القائم على المعطيات التقنية، ويدخل مجال الشحن الوجداني، حيث يمنح فريقا بعينه صفات الصمود والتحدي، دون أن يحظى الطرف الآخر بتوصيف مواز. وهو ما يعرف في الدراسات الإعلامية بالتأطير القيمي، الذي يوجه التعاطف ويؤثر في التلقي.
ازدواجية المعايير في التقييم
كما يظهر الاختلال في القاموس اللغوي المستخدم لوصف مجريات اللعب؛ فقد وسمت محاولات المنتخب الأردني بعبارات إيجابية مثل الإصرار والشراسة والشخصية القوية، بينما قدمت أفعال المنتخب المغربي بمفردات توحي بالتراجع أو التوتر أو ارتكاب الأخطاء، أو بعبارات محايدة خالية من أي شحنة إيجابية، رغم تشابه السياقات التكتيكية في كثير من اللحظات. هذا ما يعرف بالتقييم غير المتناظر، حيث يتم الحكم على أفعال متشابهة بمعايير مختلفة، وهو ما يخل بمبدأ الإنصاف الإعلامي.
لغة الاحتمال وصناعة التوقع
ومن آليات التأثير الدقيقة كذلك طريقة تقديم الفرص والاحتمالات؛ فعند الهجمات المرتدة للمنتخب الأردني، استعمل «الشوالي» لغة اليقين والحتمية، مثل «الهدف قادم» أو «الأردن قريب جدا»، في حين قدمت فرص المنتخب المغربي بلغة الاحتمال والشك، من قبيل «ربما» أو «قد يفعل شيئا». هذا التفاوت في الصياغة لا يقتصر على الوصف، بل يسهم في صناعة توقع عاطفي لدى المشاهد، ويوجه انفعاله بشكل غير واع.
النبرة الصوتية كرسالة مضمرة
ولا يقل البعد الصوتي أهمية عن البعد اللغوي في التعليق الرياضي؛ فقد لوحظ وجود اختلاف واضح في نبرة الصوت وحدته وسرعة الإيقاع بين فرص المنتخب الأردني ونظيره المغربي، حيث ارتفعت الحدة وتسارع الأداء الصوتي عند فرص الأول، مقابل نبرة أكثر هدوءا وتحفظا عند فرص الثاني. هذا الشكل من التأثير يعرف في علوم التواصل بالانحياز شبه اللغوي، وهو من أخطر أشكال التأثير، لأنه يعمل خارج وعي المتلقي.
انتقائية في بناء السرد الإعلامي
إلى جانب ذلك، برزت انتقائية واضحة في المعلومات المقدمة، حيث تم التركيز على دوافع المنتخب الأردني وروحه وتاريخه ومعاناته، مقابل تقليص الحديث عن نقاط قوة المنتخب المغربي أو تنظيمه التكتيكي أو أسباب تفوقه في فترات من المباراة. هذا الأسلوب لا يقوم على تحريف الوقائع، بل على اختيار ما يتم إبرازه وما يتم تهميشه، وهو ما يعرف بالانحياز الانتقائي.
خلاصة: الإعلام الرياضي ومسؤولية الإنصاف
تخلص هذه القراءة إلى أن الانحياز في التعليق الرياضي لا يكون دائما مباشرا أو معلنا، بل يتشكل من خلال تراكم أساليب دقيقة، مثل التكرار، والتأطير القيمي، وازدواجية التقييم، ولغة الاحتمال، والنبرة الصوتية، وانتقاء المعلومات. وعندما تتقاطع هذه العناصر، يتحول التعليق من ممارسة إعلامية هدفها نقل الحدث إلى موقف وجداني يوجه التلقي ويؤثر في الوعي الجماعي.
وهو ما يعيد طرح سؤال الحياد والمسؤولية في الإعلام الرياضي، ويدعو، وبشكل واضح لا يقبل الشك، إلى تعزيز ثقافة نقدية داخل المؤسسات الإعلامية، تضع نصب عينيها المهنية والإنصاف واحترام المتلقي في صلب الممارسة الإعلامية، بما يخدم الرياضة ويرسخ إعلاما جادا في مستوى تطلعات الجمهور، دون نسيان أن التعليق الرياضي تحكمه قواعد وأخلاقيات مهنة الصحافة. فأهمية هذا النقاش تتجاوز الخلافات العابرة بين جماهير الفرق، لأنه يرتبط بجوهر ما تؤطره المواثيق المهنية الدولية التي تعتبر احترام الحقيقة وحق الجمهور في معرفة الوقائع أولوية أولى في العمل الصحافي. فقد أكدت مبادئ الاتحاد الدولي للصحافيين، منذ إعلان بوردو، أن احترام الحقيقة وحق الجمهور فيها هو واجب الصحافي الأول، مع الالتزام بعدم حجب المعطيات الأساسية وتقديم الوقائع على نحو منصف، كما ربط نص الميثاق العالمي لأخلاقيات الصحافيين الصادر عن الاتحاد نفسه رسالة الصحافة بحق الجميع في الولوج إلى المعلومات والأفكار، وجعل مسؤولية الصحافي تجاه الجمهور مقدمة على غيرها من الاعتبارات.
وفي ذات السياق، تلتقي المدونات المهنية المقارنة، ومنها مبادئ أخلاقيات الصحافة لدى جمعية الصحافيين المحترفين، على نقطة أساسية تتجلى في الإنصاف والدقة والمساءلة، باعتبارها قواعد تضمن نزاهة السرد الإعلامي وتحد من التلاعب العاطفي بالمتلقي. ومن ثم، فإن التعليق الرياضي، حتى وهو يبث عبر قناة عربية عابرة للحدود، مطالب باحترام التوازن والحياد، نظرا لتعدد المرجعيات الوطنية للجمهور وتباين حساسياته.
* باحثة في سلك الدكتوراه، تخصص علوم الترجمة والإعلام والتواصل
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة.
الكاتب : حميدة الجازي * - بتاريخ : 23/12/2025


