الجامعات المتحضرة منارات العلم وركائز الحضارة الإنسانية

عبد السلام أندلوسي
التحقت في يناير 1993، كموظف برئاسة جامعة عبد المالك السعدي، وقد كانت تسمى حينها بالعمادة. اشتغلت إلى جانب كل رؤساء الجامعة الذين تعاقبوا على تدبير شؤونها. بدءا من فضيلة الدكتور محمد القبلي، المؤسس، والفاضل الجليل سعد الداودي، والمهندس الخلوق البروفيسور مصطفى بنونة، والاقتصادي الخبير البروفيسور حذيفة أمزيان، والراحل العالم الخلوق البروفيسور محمد الرامي، والمتواضع الإنسان البشوش، البروفيسور بوشتى المموني.
تدرجت في كل أسلاك الوظيفة، تعلمت وعلمت، واستمعت، وكابدت وناضلت، وتكونت وكونت، وأصغيت، وساهمت إلى جانب جميع الأساتذة الفضلاء المشار إليهم أعلاه، من موقعي كمسؤول عن العلاقات مع وسائل الإعلام، في قسم التواصل، وكمسؤول عن نشرة جامعة عبد المالك السعدي، في تطوير هذا المؤسسة الجامعية التي أعطى انطلاقة تأسيسها المرحوم الحسن الثاني عام 1989. اشتغلنا سوية وفق منطق التعاون والتشارك والاحترام المتبادل.
تلا ذلك، مرحلة الالتحاق بهيئة الأساتذة، التي أدركت فيها عوالم أخرى، لعل من أهمها وأبرزها، أن من يختار هذا المسار، فهو بالتأكيد قد اختار الاستثمار في تكوين أبناء الشعب، تكوينا يقودهم بكل تلقائية وسلاسة إلى أن يلتحقوا بسوق الشغل، أو أن يتدرجوا في أحد أسلاك العلم الذي يقودهم إلى تبوء أكبر المواقع العلمية أو أهمها. بعد سنين من العمل الدؤوب، بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة، شاءت الأقدار أن أنتقل إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل، خلال موسمنا الجامعي هذا الذي أفلت شمس مغيبه. فهمت أشياء وغابت عني أخرى. لكني وجدتني أساق نحو ضرورة صياغة بعض الأسطر التي نضجت أمرها بعد تبادل النقاش والأفكار، في الآونة الأخيرة، عبر مختلف الوسائل والطرق، الواقعية والافتراضية، مع عدد من الزملاء الأساتذة الأجلاء من طنجة وتطوان وفاس ومكناس والدرالبيضاء والرباط. وهي في الحقيقة أسطر لا تعني مؤسسة جامعية دون أخرى، بقدر ما تهم سياقا معينا، أجمع كل الزملاء، أعلاه، الذين تقاسمت معهم النقاش والأفكار، أنها تخيم بظلالها على غالبية المؤسسات الجامعية في المغرب.
مؤسسات طلائعية
خلافا لما يريد البعض أن يرسخه في مخلية الجمهور المتلقي، فإن المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح لا تزال قادرة على لعب دور طلائعي في خدمة متطلبات المجتمع. أكثر من ذلك، أستطيع القول إنها قادرة، في بعض الحالات، أن تتجاوز دور المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المحدود.
تزداد أهمية هذه الفرضية، حينما يسير الاتجاه بها نحو تجاوز منطق العلوم، والعلوم التقنيات، ليشمل مجال الآداب العلوم الإنسانية، وعلوم الدين. وتبعا لذلك، تجد بعض الرؤى شرعيتها للترديد والتداول والنقاش الجاد والمسؤول. من بين هذه الرؤى القول بتعمد تهميش هذه النوعية من المؤسسات، حتى لا نقول استهدافها، بغرض إثقال كفة مولود جديد يشق طريقه سنة بعد أخرى، يتقمص دور المنقذ القادر على استيعاب شرائح كبيرة من أبناء الشعب، ممن لا يجدون أمامهم إلا هذه المؤسسات الجامعية.
وعلى النقيض من ذلك، تزخر هذه النوعية من المؤسسات الجامعية بمجموعة من التكوينات التي تنتج، سنويا، كوادر قادرة على الانخراط السلس في سوق الشغل. يشرف على إدارتها أساتذة من خيرة ما أنتجته الجامعة المغربية، أساتذة تخرجوا من رحم الوعي بضرورة المساهمة في المشروع المجتمعي الذي يجعل من جميع مكونات الأمة المغربية، كل من موقع مجاله، مطالبا بالانخراط الفعلي والجاد في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والتنموي والديمقراطي، الذي يستحضر تحديات المرحلة، ويتجاوز منطق الأنا والإقصاء والتهميش، بل وكما يحدث في أحايين كثيرة، الانتقاد والمعارضة من أجلهما، وليس من أجل التعاون والتطوير والتجويد والتثمين.
أزمة الأخلاقيات
لقد برزت في السنوات الأخيرة، ببعض المؤسسات الجامعية، ممارسات تنم عن وجود أدوات وآليات تناهض، وتستهدف، بل وتنخرط في “خلايا”، كما هو جار الآن، ببعض هذه المؤسسات، تعمل لفائدة استئصال كل رغبة في تحديث الهندسة البيداغوجية الخاصة بهذه المؤسسات الجامعية، وكل محاولات النهوض بالبحث العلمي والدفع به إلى أن يصبح سلطة مؤثرة وفاعلا إيجابيا في كل أوراش التنمية الكبرى التي تشهدها البلاد، ما يؤكد وجود عديد الأزمات التي إذا كان الواقع يقول بضرورة تشخيص مبكر لها، فإن واحدة منها لا تحتاج إلى ذلك. بل تتطلب، اللحظة، تناول الدواء للحد من اتساع رقعتها.
فالجامعة يُفترض أن تُكرّس القيم النبيلة وتجسد نموذجًا مصغرًا للمجتمع الديمقراطي القائم على الاحترام والتنوع والمشاركة. غير أن الواقع في بعض المؤسسات الجامعية يشهد تراجعًا مقلقًا في هذه القيم، لاسيما على مستوى الأخلاقيات المهنية، والممارسة الديمقراطية، والعمل التشاركي بين مختلف مكونات المؤسسة الجامعية.
تتمثل الأخلاقيات الجامعية في النزاهة، والاحترام المتبادل، والعدالة، وروح المسؤولية، لكن هذه المبادئ باتت تعاني من التهميش أو التحايل، وتتجلى مظاهر هذا التردي في انتشار الممارسات الانتهازية، وتفشي المحسوبية في التسيير، وغياب الشفافية في التقييم، بل وامتداد مظاهر التنمر والتحقير بين الزملاء والطلبة. ويؤدي هذا الانحراف إلى بيئة جامعية سامة تنفر العقول الجادة وتُضعف الثقة داخل المؤسسة. فيكفي أن تفكر في إنجاز مشروع، أو تطأ إحدى خطواتك مرحلة النجاح أو التتويج، حتى تتحرك ضدك كل أصناف الاستهداف، المعلنة والمضمرة. ليس لسبب إلا للنيل من أي رغبة في إنتاج الأفكار، التي تعتبر الجامعة مشتلا حقيقيا لها.
الجامعة موطن الحوار الشفاف والتشاور الديمقراطي
الجامعي، ليس بمدرس، وإن كانت مهنة التدريس هي التي أنتجته، إنما الجامعي في المقام الأول، منتج للأفكار، والجامعة هي الفضاء الطبيعي لذلك، وإذا كان ذلك غير متاح فيها، فبالتأكيد تستطيع أن تحمل أي اسم آخر إلا أن تكون جامعة. إذ ما سميت كذلك إلا لأنها الفضاء الوحيد الأوحد القادر على أن يتجاوز منطق التشتت، بغرض إنتاج المعرفة، وتكوين الكفاءات، والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتدعيم حرية الفكر والإنتاج والإبداع والتعبير. هي فضاء تتجسد فيه بشكل سلس مبادئ الحرية، والتعددية العلمية والفكرية، والتشاركية. هي ملك عام، تعود ملكيتها للمجتمع. وليس لأي كان، كيفما كان نوعه أو شكله أو قدره، أن يسمح لنفسه بالتصرف عبر أحد مواقعه، كما لو كانت إرثا له. إنها باختصار شديد: فضاء للحوار الشفاف والتشاور الديمقراطي.
لكن الواقع الذي لا يمكن تجاوزه أبدا، هو أنه في زوايا الجامعة، حيث تمرّ السنوات وتتغير الوجوه، يبقى بعض الأساتذة كالثوابت، لا يتبدّلون ولا يتوانون، مهما غابت الأضواء، ومهما شحّ التقدير. ومن بين هؤلاء، يبرز أستاذٌ لا يعرف الكلل، يفتح قلبه قبل قاعة درسه، ويمنح من علمه وخبرته ما يفوق كل ما يُطلب منه. تراه حريصًا على الطلبة، يرافقهم في مسيرتهم، يصحّح أخطاءهم، يرفع من معنوياتهم، ويفتح أمامهم أبواب الأمل.
حضور هذا الأستاذ، لا يكمن فقط في إلقاء المحاضرات، بل من أجل صناعة الإنسان. كم من طالب ضلّ الطريق فاحتواه، وكم من باحث فقد الحافز فأعاده، وكم من خريج ناجح اليوم، تتلمذ على يديه. قد لا يرفع اسمه في لافتات الاحتفالات، لكن أخلاقه الرفيعة، تظل راسخة في القلوب. وقد لا تكتب الصحف عنه، لكن عقول الأجيال التي تخرجت على يديه ستظل تتذكره إلى الأبد. قد يتحرك البعض لأجل نسف مجهوداته الصادقة، لكن دعوات محبيه من طلبة، أبناء الشعب، على الخصوص، ترافقه وتجعل عين الرحمة والمحبة الإلهية تحرسه.
الجامعة منارة العلم وركيزة الحضارة الإنسانية
الجامعات المتحضرة والمتقدمة هي منارات العلم وركائز الحضارة الإنسانية، حيث تتجسد فيها أرقى صور العقل البشري من ابتكار، وتفكير نقدي، وانفتاح ثقافي. إنها لا تقتصر على تلقين المعارف فحسب، بل تؤسس لعقلية البحث، وتزرع في طلبتها روح المسؤولية والمواطنة الكونية. في هذه الجامعات، تُحترم قيم الحرية الأكاديمية، ولا تحارب ممن هم مطالبون بالمساهمة فيها. ويُحتفى بالاختلاف، ولا تتشكل فيها “خلايا” تعمل من أجل شيطنة كل مبادرة خلاقة تفرضها روح العصر. ويُحتضن الإبداع دون قيود، ولا يعمل من أجل توثيقه كملكية خاصة بطرف. إنها بيئات تحتضن التنوع، وتُشجع الحوار، وتسعى باستمرار إلى ربط المعرفة النظرية بالواقع العملي، مما يجعلها محركات رئيسية للتنمية الشاملة وبناء المستقبل. فكلما ارتقت الجامعة، ارتقى معها الإنسان والمجتمع. وكلما انتشرت فيها مظاهر البلقنة المتشبعة بروح الأنا، والنيل من سمعة الآخر، ظلما وعدوانا، إلا وساهمت في تخريب المجتمع، وكلما استندت فيها سلطة اتخاذ القرار، على شائعات مصطنعة، وعلى بقايا أجسام غريبة، وتافهة، إلا وكانت نكالا على البلاد والعباد.
الكاتب : عبد السلام أندلوسي - بتاريخ : 05/08/2025