الجزائر: كرة القدم أفيون الشعب

محمد بادرة
عبر التاريخ لم تدخر السلطات الإعلامية والسياسية جهودها لأجل ضبط المجتمع وتسخير النخب لخدمتها وخدمة مصالح الحاكمين والمتحكمين، وعليه فإنها توظف الكثير من الوسائل والأدوات لتحقيق هذه المآرب من القوة الأمنية إلى النفوذ المالي إلى المنابر الإعلامية وكل وسائل التواصل الإعلامي الحديث لكونها على حد قول بولو فرير (أداة القهر)، وتمثل إحدى الأدوات التي تسعى الأنظمة والمؤسسات الحاكمة من خلالها إلى (تضليل عقول الناس)و(تطويع الجماهير لأهداف خاصة).
اليوم حصل اندغام والتحام وفناء تام بين وسائل التواصل الإعلامي الحديث مع المجال الرياضي وكرة القدم خصوصا حتى تمكنت من الاستحواذ على البيوت وعلى الشارع والمقاهي والصالونات وكل الأماكن العمومية والخاصة والحميمية، وهو أشبه بالغزو الأفيوني الذي يتسلل بطريقة كيميائية إلى العقول والأذهان ويؤثر فيها سلبا وكأنه تخدير سحري حتى قيل إنه لو أتيحت لكارل ماركس حياة أخرى جديدة لغير مقولته الشهيرة (الدين أفيون الشعوب) لتصبح (الكرة أفيون الشعوب) أو (أفيون الناس)، بعد أن تحولت لعبة كرة القدم إلى أفيون جديد ومخدر شديد التأثير على العقل والسلوك، ففي حالة الانتصار على الخصم الرياضي تذكى «المشاعر القومية» وتحيا «الهويات الوطنية» على «أنغام» وشعارات «الألتراس»، أما في حالة الهزيمة فتنكس «الاحتفالات» وينقلب الشارع إلى موجات من الاحتجاج والغضب والصراخ، وكأن مفهوم الدولة الجديد مع هذا الانتشار الأفيوني لكرة القدم لا يكون فقط بالأرض والشعب والعلم والسلطة الواحدة بل ينضاف إليها وجود فريق وطني قوي لكرة القدم يحقق الانتصارات وينشر «السعادة» والفرح الجماعي ويخلق ما يمكن وصفه بالقومية الرياضية أو(القومية الاحتفالية ) على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي.
في هذا السياق الجنوني وهذا الانتشار الأفيوني لكرة القدم لجأت المؤسسات الحاكمة في الجزائر مدنييها وعسكرييها إلى استغلال كرة القدم لتوجيه مشاعر الناس ورؤاهم وأفكارهم عن الوطن والوطنية، فوظفت واستغلت وسائل الإعلام بجميع أصنافها وشجعتها ومولتها لأجل تكثيف عرض البرامج والفقرات الرياضية التي تهم فرقها الرياضية والوطنية مسخرة بعض الأسماء الرياضية أو بعض «المعلقين» الرياضيين ونجوم كرة القدم لأغراض دعائية سمجة وفجة، وذلك رغبة في تحقيق غايات سياسية داخلية أو خدمة أهداف جيو- سياسية خارجية.. ولهذا « تجتهد» كل القنوات التلفزية لتقديم برامج رياضية يومية وأسبوعية تنفث منها سموم الكراهية ومشاعر الحقد تجاه الأشقاء والجيران وتنوب فيه عن المؤسسة الحاكمة أو بالأحرى المؤسسة العسكرية في تغذية (مقومات الهوية) في بلد لم يستقر على هوية تمنح الشرعية التمثيلية للسلطة؟؟؟
لقد حولت المؤسسات الحاكمة في الجزائر لعبة كرة القدم إلى أداة للتلاعب يتلاعب بها الحاكمون السياسيون لتوجيه مشاعر الناس العاديين كما غيرت وسائلهم الإعلامية الصورة الإيجابية والاحتفالية للرياضة، وأصبحت تذكي بها مشاعر الكراهية ضد الأشقاء والجيران فيشحنون وينفخون هواء الكرة بثاني أوكسيد الكربون لتلويت العلاقات الإنسانية والأخوية بين شعوب المنطقة، كما يحولون العشب الأخضر للملعب إلى حلبة «للهجوم» و»المراوغة» و»المناورة» و»القصف» و»التسديد» بقواميس لغوية بذيئة خارجة عن أخلاق الرياضة ومشاعر الأخوة والإنسانية.. إنهم يفسدون الرياضة كطقس احتفالي وفرحة جماعية فحولوها إلى نشاط لا إنساني لا تسمع فيها إلا قواميس السب والقذف و الإهانة ضد الجار أو الشقيق.
وعلى سبيل المثال كيف يمكن للعقل أن يتصور «محللين» رياضيين تحللوا من الثقافة الرياضية ويستغلون الأنشطة الرياضية قصد تعميق الانقسامات بين الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري؟؟ وكيف يسمح لهم الضمير «الرياضي» -مثلا- بإحضار دمية الأسد في برنامج رياضي مفتوح والاستهزاء كناية أو نكاية بإخوانهم المغاربة (أسود الأطلس)؟؟ وكيف تسمح لهم مشاعرهم «القومية» و»الدينية» أن يمارسوا تلك السادية العنيدة على المشاهد الجزائري كي لا تقوم قائمة للأخوة والتضامن بين شعوب المنطقة؟؟؟
لقد حولوا المقابلات الرياضية لفريقهم الوطني إلى سيناريوهات للمؤامرة، وحولوا الانتصارات الرياضية إلى «احتفالات قومية» نكاية بالشقيق وليس اعتبارا للفريق (كأس إفريقيا 2019) التي أقيمت في مصر.
لقد «حولوا» هذه الكأس الإفريقية (2019) إلى «رافعة» سياسية واجتماعية وثقافية لا رياضية، واستعملوا الرياضة وكرة القدم وسيلة لمواجهة الشدائد أو لتخفيف الاحتقان الاجتماعي أو للدعاية لغايات سياسية محسوبة مما حول الرياضة وكرة القدم في مفهومهم إلى حلبة للتباري السياسي حيث تكون حدود الأخلاق غير واضحة، إنهم حولوا كرة القدم إلى أفيون حقيقي خدروا به الشعب الجزائري وأنسوه تاريخه وجغرافيته وقيمه وأخلاقه.
إن التناقضات الداخلية في النظام السياسي والاجتماعي الجزائري كبيرة ومتزايدة كما أن أوضاع الحياة غير المتوازنة في الجزائر يعيشها الملايين من الناس، وبالتالي فمن الصعب تماما بالنسبة للشعب الجزائري أن يفهم كيف أن الثروة الطاقية تدر على الدولة ومؤسساتها عشرات الملايير من الدولارات، وبين الفقر المدقع الذي يفترس الفقراء والمرضى وغالبية المواطنين، وكذلك يصعب على الكثيرين أن يفهموا كيف ينتج نظام اقتصادي ثروة مالية هائلة وتصرف على المؤسسات الإعلامية والرياضية والأمنية والعسكرية، وفي نفس الوقت يعجز فيه هذا النظام عن توفير التغطية الصحية والتعليم الكافي، وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية الأساسية؟؟؟ لهذا تعمل وسائل الإعلام المظللة على تشويش أو تجاهل هذه الخدمات الأساسية للمواطن لكن ضغط الاحتياجات الحيوية غير الملباة يتصاعد والوعي يتزايد إلا أنهم بأفيون الكرة يسعون إلى طمسه عبر طقوس الصخب الإعلامي الرياضي المضلل للحقائق والوقائع، والساعي إلى توسيع الهوة بين الشعوب، عكس الرسالة الإنسانية التي تقوم عليه الرياضة وكرة القدم خصوصا !!!! (النازية هي التي استخدمت كرة القدم والرياضة عموما في أوربا لأغراض غير إنسانية)…
إن التضليل الإعلامي لحكام الجزائر والتلاعب بالكرة لتوجيه مشاعر الناس وعقولهم أصبح مفضوحا لغاية حجب واقع الاختلالات الاجتماعية والأمراض السياسية المتوارثة، منذ عهد الاستعمار، مما أفرز طبيعة سياسية مريضة لا تقوى على تقديم النفع العام فتلجأ الدولة ومؤسساتها الحاكمة إلى توجيه العقول لحجب واقع السيطرة والاستغلال.
الكاتب : محمد بادرة - بتاريخ : 03/02/2024