الحرية بين الآباء والأبناء أو صراع الإرادات

عزيز الحلاج
مالايختلف فيه اثنان، أن “الحرية” قيمة إنسانية، تعني التخلص بالمعنى الواسع للكلمة، من الخوف، من الخجل، من عدم المبادرة،من اللامسؤولية، من التردد، من الخنوع والخضوع.. وبكلمة واحدة من العقد النفسية والاجتماعية في سبيل تأكيد الذات وفرض الوجود.
وقد نُظر إلى مفهوم الحرية من وجوه متعددة في أوساط الفقهاء والفلاسفة وأهل القانون والاجتماع وعلم النفس.. و عموما بين الآباء والشباب. والحرية حريات، وفي كل زمن وفي كل مكان، ما انفكت مطلبا عزيزا أوضرورة حياتية، بل قد تصل إلى حد التضحية بالنفس والنفيس.
ويختلف مفهوم الحرية بين الآباء والأبناء، في إطار مايعرف بصراع الأجيال، أي الاختلاف في السن والرؤية والثقافة والذوق والسلوك..وبكلمة واحدة الاختلاف في الإرادة.
وللشباب إرادة تدفعهم لأن يمارسوا الحرية، كما يرونها من غير امتثال لمثال. فعلى المستوى اللغوي، يُلزمون ما لا يلزم في المحادثات أو الكتابة. وفي الأغنية”الأغنية الشبابية”، يتوسلون الكلمات السوقية أو البسيطة أوالمبتذلة واللحن السريع والخفيف جدا محل القصائد المغنات ذات موضوع أووحدة الموضوع والجوق والإعداد البطيئ وأهمية المطرب. وفي الفن، يجترئون على كل المواضيع بما فيها الطابوهات، من غير علم أو دراسة أو فهم.وفي السياسة على المستوى المحلي أو الوطني، يعزفون، لأن لا أحد من السياسيين حسب لهم حسابا فجالسهم واستمع إلى آرائهم، مشاغلهم وقضاياهم وتصوراتهم، أو تنازل عن منصبه طواعية أو بالانتخاب النزيه ليفسح الطريق أمامهم، بدعوى أنهم متواكلون وسلبيون وتعوزهم الأهلية والخبرة للتصرف واتخاذ قرارات صائبة. وعلى صعيد السلوك الفعلي، فعل الشباب بالجسد الأفاعيل، إذ لبسوا سراويل قصيرة أو متدلية، أو مقطعة أو مرشوشة بصباغة أو بالية،أو لفوا الخصر بقميص، أو ألقوا على الكتف جاكيط، أوظهروا عراة بلباس لصيق بالجسد،أو طلوا أجسادهم بأصباغ تجعل الناس لايتفطنون إلى أنها لباس خادع، وبدَّلوا في تسريحة شعرالرأس أو الشنب وأبدعوا في قصه أوإطالته أوصباغته، بألوان مختلفة، وجعلوا الأقراط في الأذنين والشفتين والحاجبين والأنف والخواتم في الإبهام والسبابة والوسطى، في البطن والظهور والأدرع، واستعملوا النظارات المختلفة الألوان والطرابيش الشمسية مقلوبة والسماعات والهواتف النقالة والطابليت..، ورأوا في التدخين بأشكاله حياة ونباهة في كل مكان حتى في الأوتوبيس والقطار والطاكسي والمرافق العمومية والبيت ، ولايعيون من مضغ العلك، صامتين أو متكلمين، ويختالون ويترنحون، وقد يمشون مشية من سرى التأنث من نفسه إلى جسمه، وينتعلون ثيابا شفافة وأحذية بمقاس وألوان فاقعة، ويتبجحون بأنها ماركة مسجلة أو غالية الثمن وأنها من صنع غربي..ويتواصلون برموز وإشارات أو كلمات يقرأونها من اليسار إلى اليمين.. وفي الأزقة، وفي الفضاء الطلق، وفي الحدائق العمومية، حيث النساء رفقة أطفالهن، يتجمهرون أو يمارسون حركات رياضية على أجهزة مخصصة أصلا للأطفال لا يعبأون بأن تتكسر أو تتلف، وفي الشواطئ، يزعجون المصطافين..بلعب الكرة أو استعراض العضلات، والرقص جماعة على إيقاع موسيقى صاخبة، وفي الشوارع أو بوسيلة نقل بعد أكل الأكلات الخفيفة، يرمون البقايا من غير اكتراث هنا أو هناك، وقد ينطلقون بسرعة جنونية بكلاكسونات مثيرة، يتلذذون بنظرات المارة المرتعبة أو الداهشة أو المستغربة..أو المستنكرة، وفي فصول الدراسة،يعتبرون أنفسهم في سجن..يوسخون جدراناتها بكتابات تشي بمكبوت دفين ويحطمون مراحضها ويهرقون مياهها.. ويكسرون مقاعدها وزجاجها، ولا يقفون لرجل تعليم أو تربية بالمرة بل ينظرون بحدة، ويردون بصلافة، ويغشون من غير مبالاة، ويغمغمون ويتوعدون، وقد يلوحون بالأيدي وقد يرخون العنان لحناجرهم في إضراب بحرم الجامعة أو أي مكان من غير ترخيص، لترديد شعارات مسكوكة، سياسية أو رياضية،يستعذبون الهرج والمرج، ينكتون، يقهقهون، يتهكمون من بعضهم البعض ومن غيرهم عجائز أو فتيات، بل حتى من أنفسهم، يتأففون من العادات والتقاليد والقانون، ويضربون بالدين والأعراف عرض الحائط.
ولايملك الآباء بطبيعة الحال، إلا أن يقفوا مذهولين ممتعضين متذمرين متأسفين، أمام سلوكات الشباب القولية والفعلية التي يمارسونها باسم “الحرية”، والتي لاتماشي فلسفتهم في الحياة التي يعضون عليه بالنواجذ، ويخلصون لها أيما إخلاص، لايتصورون أن تداس تصوراتهم والقيم أمام أعينهم،لايتحملون كبوات الشباب ولا هفواتهم ولا نزقهم، لذلك هم يلعنونهم همسا وجهارا في الأسواق والبيوت وووسائل النقل.. بقولهم” هذا “جيل قمش ما يحشم ما يرمش”، وأنهم “تسعة رهط”، وأنهم العفاريت ولا هُمَ”، وأنهم”ما يطيّر ربي”، وأنهم “الشر المستطير”، وأنهم الشياطين الزرق”، وأن “ولاد عبد الواحد كلهم واحد”،..وأنهم”منين ما داز الخيط يتبعو المخيط .وزاد الطين بلة، وقوع الشباب بين براثن مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت والقنوات الفضائية وغيرها من التقنيات الموظفة، وتقليعات المدنية التي تشكل تهديدا عليهم بغسل أدمغتهم أو غزوعقولهم من خلال زعزعة المعتقد وتحقير الهوية والانتماء واللغة والتراث، وفتح الشهية نحو بلاد الغربة كحاضنة “تعرف قدرهم” و”تستجيب لمتطلباتهم” وهكذا أمسوا غرباء عن أنفسهم وفي بلدهم وبين أهليهم، مدمنين، مجانين ..منغلقين على أنفسهم.
على أنه لا بد من التمييز بين شباب يضيع في غير نفع، بسبب الآباء الذين لاعبوا ودللوا ، أو تشددوا في تربيتهم لأنهم يرغبون أن يكونوا على شاكلتهم أو خيرا منهم أوانشغلوا عنهم، لسبب تافه أو وجيه، فلم يؤدبوا ولم يراقبوا ولم يتنبهوا للتأثيرات التي هزت أو قد تهز نفسياتهم و تخلخل يقينياتهم،وشباب يشرّف -فعلا-وجوده، لكده وعطاءاته وطموحاته، وتمتعه بروح وثابة وطاقة فياضة إيجابية بفضل تلقي تنشئة صحيحة، عملت على فتح أعينه وفتق مواهبه وشرع أبواب الخلق والابتكار في وجهه لينهض بنفسه ومجتمعه، شباب أخذ قسطه من رعاية الآباء، فنشأ على الحب والاحترام، على المطالعة والبحث والمدارسة، وحضور معارض الفن والاقتصاد ومنتديات الابتكار وحلقات السياسة والعلم ..، شباب له استعداد قبلي وبعدي لتحمل المسؤولية والانخراط في المجتمع والاندماج فيه، شباب يمتلك رؤية صحيحة تجاه أنفسهم ومحيطهم وبلدهم والإنسان والكون ، شباب يمتلك عزيمة وحرية، ليست بالضرورة هي التمرد لأجل التمرد، بل هي فن التمرد،أي السعي نحو التميز لإثبات ذات حرة بسلوك مختلف حد الاجتراء على إرادة الآباء، بوعي أنهم الحاضر وأنهم المستقبل، وأنهم غير مستعدين ليكونوا نسخة طبق الأصل للسلف، وهو سلوك يتطلب طبعا، يقتضي تفهما واستيعابا وتقويما بالعلم ومجادلة بالتي هي أحسن،لا بالتعنيف والإفحام والحرمان بصنوفه ..، ما يفسر منطق بعض الآباء الذين لم يربوا أبناءهم بتربيتهم ووفق ثقافتهم وأخلاقهم وذوقهم ولباقتهم..إدراكا منهم أن زمانهم مضى وانقضى، والزمن الذي يحيى فيه الشباب، له قانونه الداخلي وشروطه وحدوده..وسلموا مشعل الثقة بسلاسة،واكتفوا بالنقد البناء ما دعت الضرورة، والتجاوب والتفاعل قدرالإمكان.
الكاتب : عزيز الحلاج - بتاريخ : 24/07/2019