الدرس الملكي البليغ..

اسماعيل الحلوتي

خلافا لما ذهب إليه الكثيرون من كون التقرير المرتقب عن أسباب تعثر مشاريع البرنامج التنموي الضخم «الحسيمة منارة المتوسط» لن يأتي بأي جديد مفيد، لتعودهم على أن تقارير لجن تقصي الحقائق في عديد القضايا، كثيرا ما تنتهي بركنها في الرفوف، أو ترقية المفسدين أحيانا… فقد أبى ملك البلاد محمد السادس فور تسلمه يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2017 تقريرا عن نتائج التحريات والتحقيقات التي قام بها المجلس الأعلى للحسابات، من خلال تقارير المفتشيتين العامتين للمالية والإدارة الترابية، إلا أن يدحض كل المزاعم ويزلزل الأرض من تحت أقدام المشككين والنخب السياسية والمسؤولين بمختلف القطاعات، عبر قرار تاريخي غير مسبوق، اتخذ فيه حزمة من التدابير والعقوبات في حق وزراء ومسؤولين سامين بلغ عددهم 24 شخصا. مما خلف ارتياحا واسعا وتجاوبا كبيرا لدى عموم المواطنين، وحظي باهتمام شديد في الإعلام الوطني والأجنبي ومواقع التواصل الاجتماعي…
فبناء على تحديد المسؤوليات حول عدم الوفاء بالالتزامات والتقصير وغياب مبادرات ملموسة من لدن المتدخلين المعنيين. والتزاما بمهامه الدستورية، باعتباره الساهر على حقوق المواطنين وصيانة مصالحهم، وتفعيلا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، قرر الملك إعفاء ثلاثة وزراء وكاتب دولة من الحكومة الحالية، المدير العام للمكتب الوطني للكهرباء والماء، وتبليغ عدم رضاه عن أربعة وزراء وكاتبة دولة في الحكومة السابقة، وعدم إسناد أي مهمة رسمية لهم مستقبلا. وأصدر تعليماته لرئيس الحكومة العثماني، باتخاذ ما يلزم من إجراءات في حق 14 مسؤلا إداريا آخرين.
وبذلك يكون الملك أعطى نموذجا يحتذى به في روح المواطنة وتقدير المسؤولية واحترام مقتضيات الوثيقة الدستورية، إلى جانب التزامه بما تعهد به في خطابيه الأخيرين. فبمناسبة الذكرى 18 لاعتلاء العرش قال: «وإذا تخلف المسؤولون عن القيام بواجبهم، وتركوا قضايا الوطن والمواطنين عرضة للضياع، فإن مهامي الدستورية تلزمني بضمان أمن البلاد واستقرارها، وصيانة مصالح الناس وحقوقهم وحرياتهم». إذ أكد على أن هناك برامج للتنمية البشرية والترابية، ظلت دون مستوى طموحاته، جراء ضعف التعاون وغياب البعد الوطني والاستراتيجي، فضلا عن تدني مستوى الإدارة العمومية من حيث الحكامة والنجاعة وجودة الخدمات، واستمرار العقليات عاجزة عن التطور والابتكار والتنفيذ. كما عبر بشدة عن فقدانه الثقة في عدد من السياسيين وعدم اقتناعه بالطريقة التي تمارس بها السياسة، مما جعله ينتفض قائلا: «كفى. واتقوا الله في وطنكم، إما أن تقوموا بمهامكم كاملة وإما أن تنسحبوا، فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون».
وإثر ترؤسه افتتاح الدورة التشريعية الأولى للبرلمان يوم 13 أكتوبر 2017، عاد للتذكير بما وقف عليه من تحديات تواجه تطور النموذج التنموي، وما يعتور الإدارة بكل مستوياتها والمجالس المنتخبة والجماعات الترابية من تجاوزات واختلالات. رافضا القيام بالنقد من أجل النقد وترك الأمور على حالها دون الحرص على معالجة الأوضاع وتقويم الاعوجاجات، معلنا عن بداية مرحلة حاسمة تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومعبرا عن رغبته الأكيدة في التغيير وإعطاء العبرة لمن تسول له نفسه التقصير في القيام بمسؤوليته المهنية والوطنية والتلاعب بمصالح المواطنين… وساءه كثيرا أن تظل احتجاجات أبناء الشعب المتصاعدة مجرد صيحات في وديان سحيقة.
فقد لقن الملك الوزراء وكافة المسؤولين الموظفين درسا بليغا ليس فقط في البيداغوجية الدستورية، بل حتى في الغيرة الوطنية والالتزام بالوعود. وكما أراد لردة فعله أن تكون زلزالا سياسيا، فعل ذلك بغير تردد، لإيمانه الشديد بأن الوفاء بالعهد خلق نبيل، يتسم به النساء والرجال المخلصون. وأنه من أبرز المكارم التي حث الإسلام المؤمنين على التحلي بها. فمتى عرف المغرب إقالات بهذا الحجم؟. والحق تعالى يقول في الآية 34 من سورة الإسراء: «وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولا»، وفي الآية 27 من سورة الأنفال: «يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون». وقال عليه الصلاة والسلام: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له». أفلا يخشى الوزراء وكبار الموظفين عذاب الله ووخز الضمير، ولا يستحيون من أدائهم اليمين الدستورية أمام الملك وما يحظون به من رواتب ضخمة وامتيازات؟
فقرار الإعفاء، كان أول الغيث الذي سيعطي مجلس الأعلى للحسابات قوته في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ويعيد للمواطنين الثقة في انطلاق عهد جديد تسري القوانين فيه على الجميع بدون تمييز أو استثناء، ويعبر عن الإرادة الملكية في مواصلة الكفاح والإصلاح، والقطع مع زمن التغاضي عن المفسدين والمتهاونين، والانتقال إلى مرحلة الصرامة وعدم الإفلات من العقاب، حتى يدرك الجميع أن المسؤولية العمومية ذات أبعاد أخلاقية وقانونية، تفرض على الأحزاب السياسية الابتعاد عن المحسوبية في اختيار مرشحيها للاستحاقاقات الانتخابية والمناصب السامية، واتخاذ المسؤولين كافة الاحتياطات اللازمة في أداء مهامهم بكامل الجودة والجدية. فهل يعتبر القائمون على تدبير شؤوننا من هذا الزلزال، ويعملون على تفادي الاختلالات التي من شأنها تعطيل المشاريع التنموية؟ وهل يعقل أن تسجل حصيلة عام 2016 إنجاز 5 مشاريع فقط من 644 مشروعا مبرمجا؟ ثم كيف أخطأ الزلزال إصابة رئيس الحكومة السابق، باعتباره المسؤول الأول؟
الكرة اليوم في مربع السياسيين والمسؤولين، وأمل المغاربة كبير في أن تتوالى قطرات الغيث، تكون فيها القرارات أكثر جرأة، كمحاكمة المقصرين وحرمانهم من أي تعويض، وأن تتضاعف جهود الشرفاء لإحداث نهضة تنموية حقيقية، بمحاربة الفساد وتشجيع الاستثمار وتقليص نسب الفقر والأمية والبطالة والحد من الفوارق الطبقية والمجالية، وإصلاح التعليم والصحة ومراجعة الأنظمة الضريبية والحماية الاجتماعية، ونهج سياسات عمومية تستجيب للتطلعات الشعبية…

الكاتب : اسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 30/10/2017