الديمقراطية الإدارية

فتح الله رمضاني

الديمقراطية لا تعني في صورتها المطلقة و الخالصة، غير سلطة الشعب، حكم الشعب، أي أنها بهذا المعنى، آلية لتنظيم الحكم في الدولة، ورسم شكل من أشكال الحكم فيها، بصورة تتأسس على احترام و تصريف الإرادة الشعبية، لكن هل اختزال الديمقراطية في هذا التصور المطلق كاف لتحقق الشرط الديمقراطي؟ وهل هي عبارة عن مجموعة تدابير و تقنيات و آليات مجردة من الفكرة؟
الأصل أن الديمقراطية ليست تصورا مطلقا وكفى، ولن تكون حتى ولو حاولت بعض التيارات الفكرية و الايدلوجية جعلها كذلك، لأنها وببساطة، مجموعة من القيم، فهي كتصور عام، مجموعة من المبادئ، التي توجهها وتستتبعها، فلا تكون ديمقراطية حقيقية، إلا إذا احترمت تلك المبادئ، ومع غيابها تغيب الديمقراطية، و تصبح عبارة عن إجراءات و تدابير ميكانيكية، روتينية، رتيبة، لا هدف منها، ولا غايات.
بمعنى أن الديمقراطية، شكل من أشكال الحكم، مؤسس على قيم و مبادئ إنسانية ضرورية، تجعل منها آلية لتدبير و إدارة الشعب، الحامل و المؤمن بتلك المبادئ، وبصورة تحترم إرادته.
ولأنه لا وجود لنظام حكم كامل، فالنماذج الديمقراطية، نماذج عرفت و ستعرف عمليات تحديث و تطوير مستدامة، من أجل تطوير بنياتها و علاقات مؤسساتها، وطبيعة السلطة فيها، و ذلك بهدف تكريس احترام إرادة الشعب و خدمته وتدبير شؤونه، إذ يمكن اعتبار الديمقراطية هكذا ، مسلسلا لتأهيل نموذج حكم الدول، وطريقة إدارة شؤون الناس فيها.
ولعل تتبع مسارات الديمقراطيات العريقة في العالم، يوضح أنها كانت مسارات للتأهيل، اشتغلت وبشكل متواز على مستويين اثنين، المستوى السياسي المهتم بشكل الدولة، أي شكل الحكم، و المستوى الإداري، المهتم بطريقة إدارة شؤون المواطنين وخدمتهم، ليؤدي هذا التأهيل بالإضافة إلى تطوير آليات إعمال المبادئ الموجودة، إلى ظهور مبادئ جديدة، كمفهوم الجهوية، واللامركزية، واللاتمركز، والتي شكلت إطارا لآليات جديدة من أجل تدبير شؤون الناس، على اعتبار اختلاف الخصوصيات والانتظارات و الحاجيات بين أقاليم و جهات الدولة الواحدة.
في المغرب، كان دستور 2011، نقطة تحول مهمة، في نموذج الحكم بالمغرب، وهي النقطة التي انضافت إلى كأس التغيير بالبلد، الذي كانت أولى قطراته حكومة التناوب التي قادها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حيث أتى دستور فاتح يوليوز بالعديد من المستجدات، على مستوى أدوار مؤسسات الدولة، وعلى مستوى فرض احترام الحقوق والحريات، مما رسم صورة جديدة للنموذج الديمقراطي السياسي بالبلد، أما على المستوى الديمقراطي الإداري، فإن المغرب تجربة رائدة بين دول الجوار و الإقليم، في مسار التأسيس للجهوية المتقدمة، التي لا تعني غير تنازل السلطة المركزية، عن بعض صلاحياتها لفائدة مصالح جهوية، من أجل تقريب الإدارة وخدماتها إلى المواطنين، ومن أجل تكريس العدالة المجالية.
هذه التجربة التي يجب أن تبلغ مداها، وتحقق مبتغاها، لا يمكن أن تتحقق إلا بتحقق إرادة حقيقية في إدراك تغيير جوهري في تنظيم هياكل الدولة، وفي علاقات الأجهزة المركزية بالمصالح اللاممركزة، كما كان الشأن مع دستور 2011 الذي ضبط وحدد وميز بين السلطات و طبيعة الأجهزة على مستوى المركز، وهو التغيير المرتبط نجاحه بمدى تدعيم مسلسل اللاتمركز الإداري، والذي لا يعني إلا التفكير في بنية إدارية لا مركزية، بشكل تتأسس فيه على تجاوز وضعية تمركز الاختصاصات و السلط التقريرية و الوسائل المادية و البشرية على مستوى الإدارات المركزية، لفائدة المصالح اللاممركزة للقطاعات الوزارية، وهو ما يفرض الانخراط في إعداد منهجية واضحة لتحقيق إدارة لا ممركزة داخل جميع القطاعات الوزارية، بحيث يتم تحديد مجالات تدخل و اختصاص الإدارات المركزية، وخلق مصالح لاممركزة على المستوى الجهوي و الإقليمي، مع تحديد مجالات اختصاصاتها و سلطاتها و علاقتها بالإدارات المركزية، والأهم تمكينها من المساهمة في إعداد برامج عمل الدولة على مستوى الجهة.
فالديمقراطية السياسية تمثل واحد للديمقراطية، وهو تمثل منقوص، ومشروط عند جل المفكرين بضرورة مصاحبته لديمقراطية اجتماعية، أساسها العدالة الاجتماعية، و هو ما لا يمكن إدراكه إلا بتحقق شرط الديمقراطية الإدارية، كآلية قرب لإدارة أمور المواطنين و احتياجاتهم و مواردهم المحلية، وكل هذا من أجل تسهيل ولوجهم إلى الخدمة العمومية.

الكاتب : فتح الله رمضاني - بتاريخ : 11/10/2017