«الشعبوية » في السياسة الجنائية او « شعبوية العقاب»2-1

الأستاذ : محمد احداف *

في كتابه المنشور سنة 2005 عن دار النشر هاشيت بباريز تحت عنوان :»إرادة العقاب :مقالة حول « الشعبوية الجزائية « la volonté de punir ,essai pour le populisme pénale ).(جعلالقاضي الفرنسي دينيس سالاس Denis Salas ، من أطروحته المركزية ؛ رصدا للتطور القمعي للمجتمع، وصاغها تحت عنوان «الشعبوية الجزائية «.يهدف سالاس من طرح هذا المفهوم الى التعبير عن خلل في العدالة الجنائية ، بالتوجه تدريجيا نحو فلسفة جنائية مسكونة بهوس أمني .تميل نحو التشدد في العقاب ،تجتاح فئات الشعب كما تغوي نخبه الفكرية والسياسية على الخصوص .
وفي سنة 2006 وضع الكندي بيير لالاند pierre lalande كتابا في نفس الموضوع عنونه ب : التشدد العقابي في زمن الشعبوية . «la sévérité pénale à l’heure du populisme»، رصد فيه من جهته تأثير وسائل الإعلام على المفاهيم والآراء الشعبية ، في زمن تعتمد فيه السياسات العمومية أكثر فأكثر على البحث عن دعم لها في أوساط الرأي العام ، ويبحث فيه المشرعون وواضعي السياسات والقضاء وغيرهم من مهنيي النظام القضائي على استطلاعات الرأي العام لإضفاء الشرعية على قوانين أكثر صرامة ، زاعمين أنها سوف تمكن المجتمع من الحماية بشكل أفضل .
تناسلت الكتابات في الموضوع ، بعد ذلك ، في كندا وأمريكا، وفي بريطانيا وأماكن أخرى .
يرصد سالاس تناميا في الميل نحو إرادة العقاب ،على حساب مقومات العدالة الجنائيةكما كرستهاالمدارس االجنائية المختلفة ؛ من المدرسة الوضعية و مدرسة الدفاع الاجتماعي إلى رصيد الدفاع الاجتماعي الجديد .هذه المقومات التي كانت ترمي إلى إعادة تأهيل الجناة،وتفريد العقاب ،وسيادة القانون .
ويعتبر أن الإفراط التشريعي في المسائل الجنائية هو من الأعراض الرئيسية لهذه الظاهرة . وفي سعيه إلى الكشف عن جذور هذه «الشعبوية الجزائية « . يطرح فرضية ،ضغط وثقل الرأي العام ،والدور الذي تلعبه وسائل الإعلام عبر النقاشات الواسعة حول انعدام الأمن ، وشغل الرأي العام بتقارير مستفيضة عن الجرائم .
يبحث سالاس في الجذور التاريخية للظاهرة ، ويقدم مقارنةعابرة للحدودلهذه الظاهرة .

في المصطلح وتحديد المفهوم :
كلمة «الشعبوية «، في الفرنسية populisme ، كلمة حديثة ، استحدثت سنة 1929 حسب ميشيل بوري Michel Porret ( أستاذ التاريخ الحديث في جامعة جنيف، أوردها في مقالة تحت عنوان : الشعبوية الجزائية ضد دولة القانون، بتاريخ : 17 يوليوز 1912 ) . كان المصطلح قد وضع لتحديد ملامح مدرسة أدبية حديثة « تصف حياة عامة الناس « . ( والأدب الشعبوي هو الأدب الاستهلاكي الذي يتملق غرائز الجماهير وحاجاتهم السطحية )، تقول الروائية المصرية سارة كرم.
بدأ المفهوم يتطور لوصف الأهمية الاجتماعية والسياسية الممنوحة للطبقات الشعبية ضد نخب الدولة . ثم استعمل ضد الديمقراطية التمثيلية .والشعبوية هي منهج بلاغي تقوم شرعيته على التماهي مع الشعب ، وعلى خطاب معادي للنخبوية . يعتبر هذا المنهج السكان «كثلة متجانسة «باستثناء فئات من الأفراد .
تزدهر الثقافة السياسية للشعبوية بسبب إنعدام الثقة في المؤسسات الديمقراطية ، وانتشار اليأس الاجتماعي ، لذلك تدعو إلى العودة الطبيعية إلى «السلطة العليا للشعب « شاهرة شعار : « الشعب يريد …»، قبل أن تصب في دعم الاستبداد بطرح تطور « الجريمة المستحكمة» و» تفشي انعدام الأمن « و»البطالة التي يفاقمها العمال الأجانب»…وقد تجلت بهذه المواصفات في الحركة النازية و في الفاشية .
ينسب الشعبوي العلل الاجتماعية إلى الديمقراطية التمثلية «المروضة والمدجنة «من قبل «دوائر المال «، وإلى النخبة السياسية التي تحافظ على امتيازاتها .
لقد اجتاحت الشعبوية مختلف مناحي الفكر السياسي ، وتحولت إلى ايديولوجيا صنعت لها مكانا بارزا في» السياسة الجنائية « المعاصرة . فتحت وطأة الإخبار المغرضة ، تثير الإيديولوجية «الشعبوية « في المجال الجنائي الخوف الاجتماعي ،و تشهرالتشدد في العقاب أداة لمواجهته . ولا تتردد في ركوب معاناة الضحايا من أجل «الأمن» وتحقيق غاياتها السياسية .
إن «الشعبوية الجزائية» تستهدف بشكل مغرض التأثير في رأي الضحية ، وتحريضها ضد المؤسسات العقابية ،التي تمثل سيادة القانون ،وهي تبني بذلك خيالا جماعيا بعدم الأمان الاجتماعي …هذه الخيال الذي يتغدى عليه وجودها .
والخطاب الشعبوي ديماغوجي ، يمتطي المخاوف الاجتماعية الأكثر هشاشة ، لتغذية طموحه السياسي في مواجهة الديمقراطية بمكتسباتها الحقوقية .
مظاهر»الشعبوية «في السياسة الجنائية الحديثة .
يتسائل دينيس سالاس في كتابه «إرادة العقاب…» عن مستقبل الديمقراطية في مواجهة « الشعبوية الجزائية « المتنامية. فخطاب التشدد العقابي يغزو المجتمعات الديقراطية ، ويدفع بها على نحو متزايد في طريق القمع والإرهاب، وتطور الجريمة العابرة للحدود الوطنية وانتشار الجنوح . لذلك تشهد هذه المجتمعات طلبا متزايدا على الأمن و الحماية ، وتبدي استعدادا متزايدا للتضحية بالمزيد من الحقوق والحريات العامة في سبيل ذلك .
ينتقد دينيس سالاس في هذا الكتاب رد الفعل الزائد و المبالغ فيه على الجريمة . هذا الرد الذي يفسد « الشرعية والكفاءة «حسب قوله . ولا يتجاهل الأشكال الجديدة للجريمة ولا يطعن في طلب الأمن الذي تدفع إليه .
يطلق سالاس على هذا التوجه اسم»الشعبوية الجزائية»، ويعني به «كل خطاب يدعو للعقاب نيابة عن الضحايا ،وضد المؤسسات غير المؤهلة» .
كتاب سالاس نشر في سنة 2005 ، وقد كتب في سياق مابعد أحداث 11 سبتمبر 2011 بأمريكا، وما صاحبه من تنامي الإحساس بإنعدام الأمان .
و»الشعبوية الجزائية « التي يدينها الكاتب تتموضع في المقام الأول في سياق العولمة ، وصعود دور وسائل الإعلام التي حولت موضوع العدالة من الإهتمامبالجاني إلىمغازلة الضحية .
لقد كانت ظاهرة التخفيف من « قسوة الجزاء « خلال القرون الأخيرة ظاهرة معروفة تماما من قبل مؤرخي الحقوق. و هذه الظاهرة أخذت ، ولمدة طويلة بشكل إجمالي ، كظاهرة كمية – حسب ميشيل فوكو: كمية أقل من الفظاظة ، كمية أقل من الألم ، لين أكثر ، احترام أكبر ، و « إنسانية « أكثر . قبل هذه التحولات التي اقترنت بانتقال في الغرض الذي ترمي إليه العملية العقابية بالذات . ( ميشيل فوكو : المراقبة و المعاقبة – ولادة السجن – ترجمة علي مقلد 1990 مركز الإنماء العربي ،لبنان . ص 57 ) .
لقد تشدد الخطاب حول الجريمة في الغرب ،خصوصا منذ الثمانينات . وانتشر بانتشار التيار الشعبوي في معظم الديمقراطيات ، وعلى الأخص في الولايات المتحدة ، بإعلان برامج من قبيل « الحرب على الجريمة « تلتها «الحرب على المخدرات « التي أطلقها رؤساء أمريكا المتعاقبون ، كل ذلك أدى إلى زيادة في استخدام العقوبات الحبسية بالإضافة إلى زيادة مدد العقوبات ، وفي كثير من الحالات أدى إلى تدهور في ظروف السجون .
هيمنة الشعبوية على الخطاب السياسي بأمريكا :
طالب العديد من السياسين بفرض عقوبات أكثر صرامة على الإطلاق ، مركزين على الردع المزعوم للعقاب . ولكن ذلك ثم من منظور اهتمامهم السياسي . لقد تم إطلاق هذا الاتجاه الحديث في الولايات المتحدة أثناء الحملة الانتخابية للرئاسيات عام 1964 ، وتواثر خلال الأربعين عاما التالية. فمنذ ذلك التاريخ لم تخل برامج المرشحين (خصوصا من الجمهوريين ) من هذه المشكلة.
كانت الحملة الإنتخابية للرئيس نكسون تحت شعار «القانون والنظام « كما إبتدعه سابقه الجمهوري سنة 1964 . وخلالها هاجم سياسة الرئيس الديمقراطي جونسون المنتهية ولايته ، والمرشح الديمقراطي ايبير همفري . كما هاجم المحكمة الأمريكية العليا. متهما الجهات الثلاث بالتسامح مع الجريمة . وعند توليته الرئاسة سنة 1969 نفذ نيكسون العديد من السياسات التي أدت إلى بدء نهج جديد أطلق عليهتسمية « الحرب على الجريمة «. وفي الواقع ، بدلا من اعتماد سياسات تعالج الأسباب الاجتماعية للجريمة، مثل الفقر وضعف التعليم .تعهد نيكسون بالتركيز على الأعراض. فعلى سبيل المثال، شن حملة ضد الجريمة المنظمة بتوسيع نطاق استخدام تدابير قوية ، بما في ذلك : التنصت على الأشخاص المشتبه في انتمائهم إلى منظمة إجرامية. (ومن سخرية القدر أن يسقط بفضيحة تنصت على خصومه في فضيحة ووترغيت ) .
في الحقيقية كانت ستينيات القرن الماضي بأمريكا تعرف متناقضات، من وجهة نظر السياسة الجنائية ، فبينما شهدت ذروة ممارسة سياسات إعادة التأهيل الليبرالية ، وتطورها بسرعة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية . نجد في نفس الوقت انتشار سلسلة من السياسات العقابية الشديدة المحافظة، والتي أدت إلى النمو السريع للساكنة السجنية بدوافع «شعبوية « موروثة عن السياسين المحافظين لسنوات الستينات، وستطبع الشعبوية التوجه السجني لمدة أربعين سنة التالية .

 

محام بهيئة الرباط*

الكاتب : الأستاذ : محمد احداف * - بتاريخ : 20/04/2020