الضرورات السوسيولوجية
عبد السلام المساوي
الإجراءات والترتيبات التي اتخذتها الدولة قاسية فعلا، ولكنها ناتجة عن الضرورة ، ولا يبرر قسوتها إلا ضرورتها، لأنه الحل الوحيد أمام غياب علاجات سريعة وأمصال شافية.
العزل أو الحجر الصحي صعب لأن الكائن البشري مجبول على التواصل ، وعندما تتخذ إجراءات تحد من هذا التواصل، يحرم الإنسان من بعده الاجتماعي . هناك بعض الأفراد يتمردون وهناك أيضا الضرورات السوسيولوجية للعيش، ما يدفع البعض إلى عدم الامتثال. يجب أن نقر بأنه في بعض المناطق حدثت صعوبات ، لكننا كمجتمع، هناك الطيع وهناك العصي، والعصيان معطى تاريخي، وتاريخ التمردات طويل في هذا الباب. إذن مسألة الامتثال تطرح بدورها أمرين هما: الضرورة الاجتماعية للخروج ثم الضرورة البشرية للتواصل وهو ما يجعل الامتثال صعبا لدى بعض الفئات .
المجتمع إذن في حرج وخاصة الفئات الهشة ، ولكن هناك بالمقابل الوضعية الصعبة أمام رجال الدولة الذين يسهرون على احترام هذه الإجراءات . الطرفان إذن في وضعية صعبة وحرجة ، ولذلك أعتقد أنه رغم كل التفسيرات والتحذيرات وتجند فئات عديدة لتوجيه النصح ، ما زالت هناك أشكال من عدم الامتثال لكنها بدأت تستوعب الأمر تدريجيا ، وهذا راجع لكون ما يحدث غير مألوف وجديد ، وثانيا الأخبار الواردة عن الوفيات والإصابات قد تجعلهم يتمثلون ذلك داخليا تدريجيا ما سيساهم في رفع الوعي بخطورة الوضع . كل الأطراف غير مريحة لأننا في محنة جماعية .
إن الانضباط للاحتجاز المشروع داخل البيوت واجب وطني ، ولكن الأمل في استرجاع الحقوق الأساسية للانسان وعلى رأسها الحرية واجب إنساني وضرورة اجتماعية . بطبيعة الحال هناك حجر صحي مريح في الأحياء الراقية ، وهناك حجر باذخ في المناطق الأكثر رقيا، إلا أن الأغلبية الساحقة من المواطنين يعيشون في علب سردين ، وعلبة فوق علبة ، تغطي منزلا بحي شعبي آيل للسقوط . هؤلاء يعيشون قساوة الحجر ومرارة الحؤول بينهم وبين نشاطاتهم الهامشية التي كانت تساعدهم على البقاء على قيد الحياة ، وليس عيش الحياة .
كثيرون من شباب هذه الأحياء هم من يدخلون في مناوشات مع رجال السلطة، بحيث إن المخازنية يجدون صعوبات في تنزيل القرارات الحكومية الصارمة، من أجل تطويق الوباء داخل متاهات الأزقة والدروب الضيقة في كل المدن، يفرض التزام البيوت والخروج للضرورة بترخيص، أو منع التجول ولو بترخيص بعد السادسة مساء ، أو الاستعمال الاجباري للكمامات الطبية.
إن رأس الدرب لم يكن يوما هو الخارج بالنسبة لهذه الأحياء الشديدة الاكتظاظ، ولكن البيت هو الدرب، وحتى الدار الواحدة التي تضم في طابق _ بما في ذلك السطح _ عشرات الأسر يعيش أفرادها مختلطين ذائبين في هموم بعضهم البعض. والواقع، حسب معايير الحجر الصحي أن مثل هذا الاختلاط كذلك خطر، ولكن المأساة هي أننا لا يمكن أن نضع وسط كل دار مخزني يمنع حليمة من طلب الملح من جارتها السعدية، أو ينهار أطفال بالمعطي عندما يعانقون أطفال بالبشير، اننا إزاء تمزق مؤلم : فالناس الذين يختنقون بالحجر الصحي بفعل الاكتظاظ والفقر، هم الذين قد يبددون فرص إنهائه دون أن يكون فعلهم هذا عن سبق إصرار وترصد .
إن هذا التهديد بالضبط هو الذي يجعل حسابات الدولة معقدة ورؤيتها للمستقبل القريب مرتبكة ، فها هي تتخذ القرارات الاستباقية والصائبة ، وها هي تتراجع بجرأة عن قناعات معلنة من قبل تبين أنها خاطئة ، من مثل القول بعدم جدوى وضع الكمامات من طرف الجميع ، فتم التراجع عن ذلك ، أو مثل الاعتقاد أن الحجر الصحي وحده كفيل بمحاصرة الفيروس دون اللجوء إلى التحاليل المختبرية السريعة والواسعة ، وتم تدارك جزء من ذلك ، إلا أن كل هذا يصطدم بواقع مغربي لا يرتفع : هناك كفاءات على مستوى عال من تدبير الأزمات ، وهناك أجهزة مدربة وجاهزة لتنزيل القرارات السياسية الاستثنائية الصعبة ، وهناك إبداع لحلول مستعجلة لمعضلات اجتماعية واقتصادية للتخفيف من آثار الجائحة المدمرة، ولكن هناك واقع سوسيولوجي معقد ، وخصاص اجتماعي مهول واحتقان مزمن يخاف الجميع من آثار ضغط الجائحة عليه ، وهناك موارد جد جد محدودة. رغم كل ما قلت ، فإنني مع: أن نبقى في الدار . فقساوة الانعزال أهون من فداحة خسارة من نحب ، ومن تهديد استقرار بلادنا. يجب أن ننضبط اليوم ، لتكون عندنا الفرصة غدا لتصحيح المسار ، والعمل على أن يتشارك الجميع كمغاربة في تقاسم الحلو والمر ، وكي يتم ذلك لا بد أولا أن نبقى على قيد الحياة ، وهذه هي معركة الجميع في هذه الساعة .
قدمنا في الشهر الفارط صورا أدهشت العالم كله . استطعنا أن نفهم معنى وماهية ومغزى الحجر المنزلي ، واستوعبت أغلبيتنا أنه لمصلحة الناس وأنه الحل الأساس ، إن لم يكن الوحيد للقضاء على الفيروس أو على الأقل للحد من خسائره المدمرة.
طبعا لم تكن الصورة وردية بالكامل ، رأينا أناسا يرفضون الاقتناع أن الحجر المنزلي في صالحهم ، لعلهم كانوا سببا رئيسيا في التمديد، لعل العديد منا يشعر نحوهم بغيظ شديد في هاته الأثناء . لا مفر من كظم الغيظ ولا مفر من الاقتناع أنه لا بأس، وأنه لا داعي لجلدهم أكثر مما تجلدهم الحياة اللعينة التي لم تتح لهم فرصة الفهم السليم والعادي دون إيذاء النفس ودون إيذاء الناس، لنقل لأنفسنا على سبيل العزاء فيهم أنهم سيقتنعون هذه المرة بسبب هذا الشهر الإضافي أن الأمور جد وليست هزلا، وأنهم إذا واصلوا الاستهتار سيفرضون على البلد تمديدا لهذا التوقف وهذا الركود، وأنهم سيكونون في طليعة المتضررين فقط لا غير.
لنكن في مستوى التحدي مرة أخرى، ولنحافظ على على المكتسبات، ولنعاهد أنفسنا جميعا أن نلتقي في العشرين من ماي المقبل دون حاجة لأي تمديد إضافي، لنقل لأنفسنا اننا قادرون على فعل ذلك ، ولنفعله حقا.
الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 08/05/2020