العالم وحقوق الإنسان

عائشة زكري

 

يحتفل العالم، في عاشر دجنبر من كل سنة، بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تم إخراجه إلى حيز الوجود سنة 1948، حيث اعتبر المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم .
هذا الإعلان الذي مهد لاعتماد عدد كبير من المعاهدات الدولية من أجل صيانة كرامة الإنسان، ووضع حد للأعمال الهمجية التي أثارت غضب الضمير الإنساني نتيجة لما عاشه العالم خلال الحرب العالمية الثانية من تقتيل وتشريد وتهجير لآلاف من البشر الأبرياء.
وعقد الأمل انطلاقا من هذا التاريخ على بناء عالم جديد يتمتع فيه البشر بالحرية والكرامة والمساواة وبكل الحقوق الضرورية والأساسية، والتي من الطبيعي أن يعيشها الإنسان والتي نص عليها هذا الإعلان انطلاقا من المقدمة إلى آخر مادة فيه ( 30 مادة ) .
لكن أليس من الطبيعي الآن أن يتساءل كل واحد منا: أين وصلت حقوق الإنسان في العالم ؟ هل تقدمت الإنسانية في هذا المجال خطوات جريئة إلى الأمام ؟ هل استطاع الإنسان أن يحصن تلك المجهودات التي بذلها طوال هذه السنوات من أجل الحفاظ على إنسانية الإنسان ؟ أم بالعكس تراجع خطوات كبيرة نحو الخلف ؟
لا شك أن مشروعية هذه التساؤلات تزكيها الأحداث البشعة التي يعيشها الشرق الأوسط اليوم في غزة وفي الضفة وفي كل الأراضي الفلسطينية المسلوبة .
لقد أصبحت أرواح البشر هناك رخيصة وبدون أي معيار إنساني،يقصفون،يضربون، يقتلون، يهجرون، ينكل بهم وكأنهم لا ينتمون إلى بني البشر .
لكن ما يحز في النفس هو موقف وسلوك الأغلبية الساحقة من الدول الغربية، الدول التي تتبجح وتتغنى وتتشدق بحقوق الإنسان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إنجلترا، فرنسا، ألمانيا وغيرهم من الدول التي تدور في فلكهم وتستفيد منهم اقتصاديا وسياسيا، لدرجة أنهم منعوا شعوبهم، في بداية الأزمة، من الخروج إلى الشارع للتظاهر والتعبير عن رفضها لهذه الحرب القذرة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، لكن مع ذلك تحدتهم هذه الشعوب وخرجت معبرة عن رفضها لتلك الوحشية العمياء .
وحينما أتأمل جيدا في موقف هذه الدول الغربية ( الحكومات بالخصوص) يتبين لي أن هؤلاء لا يستطيعون امتلاك رؤية موضوعية لهذا الواقع، لأنهم مستلبون فكريا بواسطة أساطير الصهيونية العالمية التي اخترقت مخيالهم الجمعي، وهي أساطير فضحها كثير من المفكرين الغربيين أنفسهم، خاصة أولئك الذين انفتحت بصيرتهم وزالت الغشاوة عن أبصارهم وتحرروا واستطاعوا امتلاك النظرة الموضوعية الصحيحة لما يقع في العالم، ولنا في المفكر الفرنسي الأصل روجي كارودي مثالا راسخا من خلال كتابه المشهور (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ) .
ولننظر إلى دولة انجلترا، كلنا يعرف أنها الأم المرضعة لدولة إسرائيل، فهي التي خلقتها انطلاقا من وعد بلفور المشؤوم في بداية القرن العشرين، حيث اختارت أرض فلسطين كمكان لاستيطان اليهود ومضت في عملها ودعايتها إلى أن استطاعت الإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948 وعملت على تهجير السكان الأصليين أي الفلسطينيين .
من يومها والصراع قائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن أصحاب الأرض الأصليين لا يمكن لهم أبدا أن يتخلوا عن أرضهم وموطنهم الأصلي، من هنا يأتي الدعم الدائم والمستمر من طرف بريطانيا لبني إسرائيل.
أما دولة الولايات المتحدة الأمريكية فالغشاوة التي تعمي بصيرتها أعمق وأكبر، فحينما نتمعن في تاريخها نجد أن هناك تشابها كبيرا بين الاثنتين، فإذا كان اليهود دخلاء عل الأرض الفلسطينية فإن أغلب سكان الولايات المتحدة هم دخلاء أيضا على تلك الأرض، والتاريخ يشهد على الاستيطان الأوربي لأمريكا في بداية القرن 16 من طرف انجلترا وفرنسا وإسبانيا وهولندا، هذا الاستيطان الذي غير حياة وسلالات وثقافة شعوب القارة الأمريكية برمتها، وقضى على السكان الأصليين لهذه المنطقة من العالم (الهنود الحمر) .
إنه تاريخ متشابه ومسار متشابه أيضا عملا على طمس الوعي الحقيقي لدى أولئك الأمريكيين، وأعني الحكام وليس الشعوب .
أما فرنسا وألمانيا فهما دولتان استعماريتان بامتياز، ولذلك لم تستطيعا لحد الآن التخلص من ماضيهما الاستعماري، من هنا ينظران إلى باقي دول العالم، خاصة دول الجنوب، والدول العربية والإسلامية، على أنهم دول لا يجب أن تتطور ولا يجب أن تحصل على التنمية والحرية، ولذلك تعملان على سد الطريق أمامهم كلما حاولت التحرر والحصول على أبسط الحقوق، وذلك من أجل أن تبقى خادمة لها ، تدور في مدارها وتخدم مصالحها .
إن التخلص من شوائب الفكر الاستعماري يحتاج إلى العمل على الذات وإعادة بنائها من جديد بالقيم الإنسانية النبيلة والتخلص من الفردانية والأنانية والمصالح الضيقة والخاصة، إن الكونية، ذلك المبدأ النبيل الذي بنيت بواسطته حقوق الإنسان صعب تشربه وهضمه من طرف أولئك الغربيين، على الرغم من أنهم هم أنفسهم الذين نادوا به، لكن وكما يقال دائما الطبع يغلب التطبع أحيانا .
ولنتذكر ما وقع خلال جائحة كوفيد من تعرض بعض الدول الغربية الكبرى للقافلات التي كانت تحمل الأدوات الطبية، وكيف نهبتها، وحولت طريقها نحو بلدانهم رغم أنها لم تكن موجهة إليهم بل إلى بلدان أخرى أكثر هشاشة وفقرا .
عار ثم عار على جبين الإنسانية أن يظل الشعب الفلسطيني لحد اليوم يرزح تحت وطأة الاستعمار الغاشم، عار ثم عار أن يظل محروما من أرضه، من حريته، عار ثم عار أن يتعرض لحرب إبادة جماعية أمام أعين ومرأى العالم، إن ما يقع في غزة والضفة هو أبشع مما وقع في هيروشيما وناكازاكي .
لقد حان الوقت للمناداة بتغيير النظام العالمي الحالي لأنه نظام فاسد فاشل يقوم على الطغيان والاستبداد وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة وكل الذين لا يتمكنون من الهرب والاحتماء من نيران القنابل والدبابات الصهيونية .
بالأمس القريب، يوم الخميس 08/12/2023، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض ضد مشروع تقدمت به دولة الإمارات العربية المتحدة للمطالبة بوقف للنار إنساني في غزة، وامتنعت حليفتها بريطانيا عن التصويت ،بينما صوتت باقي الدول (13دولة) لصالحه بما فيها دولة فرنسا التي حصل تقدم إيجابي في موقفها تجاه القضية تحت ضغط الشارع بطبيعة الحال .
فهل يعقل أن يتغلب صوت واحد على 13 صوتا ؟ إن هذا السلوك لا يمت للإنسانية ولا للضمير ولا للعقل بصلة، إنه منطق القوة الضاربة وهو منطق همجي وحشي آن الأوان لتجاوزه .
إزاء كل هذا، هل ما زال هناك مجال للحديث عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؟ وعن المواثيق الدولية ؟ أم أنها أصبحت مجرد شعارات فارغة من المعنى ومن الدلالة ؟
ثم ما موقف الدول العربية والإسلامية من كل هذا ؟ هل استطاعت القيام بعمل ما لإيقاف هذا العدوان الغاشم ؟ إنه سؤال صعب ومؤلم أيضا ؟ أتمزق غيضا وألما حينما أطرحه على نفسي، ولا أستطيع إيجاد مخرج له، ثم أعيد صياغته بشكل آخر: هل كان في إمكانهم العمل أكثر مما عملوا ؟ ثم لماذا موقف الشعوب هو أكثر راديكالية من موقف الحكام ؟
لكن أحتار حينما يخطر بذهني تساؤل آخر يتعلق بموازين القوى في العالم، كيف يمكن تغييرها باعتبارها موازين غير عادلة ؟ وهو ما أشرت إليه في إطار إشكالية النظام العالمي الحالي.
نعم إن المنطق الإنساني والعقلاني يقتضي التغيير ويوجبه ويفرضه، والعبث والهمجية هي الاستمرار في هذا الوضع والسكوت عنه، والمسؤولية تقع على الجميع شعوبا وحكومات وأحزابا وجمعيات ومؤسسات حقوقية من أجل القضية، قضية الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.

الكاتب : عائشة زكري - بتاريخ : 12/12/2023

التعليقات مغلقة.