العجز حين ينطق: بنكيران نموذجًا للرداءة السياسية والأخلاقية

n إيمان الرازي (*)
حين يتقمص العجز هيئة رجل دولة سابق، ويُرفع صوت الحنجرة في غياب المنطق والاتزان، نُفاجأ بخطاب أجوف، رديء، يتنكر لأبسط أبجديات الأدب السياسي، ويُغلف بالهذيان شخصنةً لا تليق لا بموقع سابق ولا بسن متقدم. عبد الإله بنكيران، الذي أُخرج من الباب الصغير ذات مساء سياسي بئيس، لم يتوقف منذ تلك اللحظة عن تقيّؤ الضغينة ضد من تبقى له من خصوم وهميين أو مفترضين، في محاولة يائسة لفرض وجوده من خلال خطاب شعبوي هجين، أكل عليه الزمن وشرب، ولم يعد يصلح حتى لمسارح الهزل السياسي، فما بالك بساحةٍ يفترض أنها للمواقف لا للمناكفات الرخيصة.
وحين تجرأ هذا الرجل على الأخ عبد الحميد جماهري، الكاتب المرموق والصحافي الذي خبر السياسة والمبادئ وخاض معارك الكلمة في زمن التردي والانبطاح، فإنه لا يفضح سوى ذاته، ويقدم للناس مرة أخرى البرهان الدامغ على خوائه الفكري، ونزعته الانتقامية المريضة، وحنينه المرضي إلى أضواءٍ خَبَت، لن تعود، مهما صرخ ونافق وتوسل الجماهير الكليلة. ما الذي يزعج بنكيران في جماهري؟ هل لأنه لا يسبح في مستنقع الحقد الأيديولوجي نفسه؟ أم لأنه من قلةٍ لا تزال تكتب بشرف ولا تسترزق من الدين ولا من المصحف ولا من شعارات الشريعة المطاطية؟ أم لأنه يكتب ما لا يستطيع هو أن ينطقه حتى في خلواته المليئة بالحسرة؟ الحقيقة أن بنكيران لا يحتمل أن يرى أمامه مثقفا مستقلا، لا يركع، لا يتزلف، ولا يبايع مرشدًا سياسيًّا باسم لله والدين.
بنكيران، الذي لم نسمع له يومًا دفاعًا صريحًا عن الفقراء إلا بمقدار ما يسمح له باجترار خطاب شعبي فضفاض، كان ولا يزال رأس حربة الردة السياسية في مغرب ما بعد 2011. حملته الجماهير إلى قمة الحكم، فخدعها كما خدع نفسه، ثم انهار، ولم يغفر لأحد أنه كشف زيفه. يريد من المثقفين أن يكونوا فقهاء سلاطين في محرابه، يوزعون على حزبه صكوك الغفران، ويبررون بؤسه الفكري وقذارته السياسية، ولكن عبد الحميد جماهري ليس من هذا الصنف، ولن يكون.
ما قاله بنكيران في حق الأخ جماهري ليس إلا انحدارًا أخلاقيًّا يعكس مقدار الضيق الذي أصبح يسكن الرجل كلما سمع باسم من بقي له ضمير وجرأة وصدق في زمن الكذب المقدس. هو تهجم لا يعبر عن رأي، بل عن حالة انهيار داخلي، نفساني، لرجل خسر المعركة السياسية، ولم يجد له موطئ قدم في سجلات الشرف الوطني، فبدأ يطلق النار عشوائيًّا على كل من لا يشبهه. ولن يشبهه أحد، لأنه هو وحده من اختار السقوط إلى هذا القاع من الرداءة.
لن نقول له اخجل، فهو لا يعرف للخجل معنًى. ولن نقول له ترفّع، فهو لا يعرف للترفع سبيلاً. هو الذي امتهن الكلام الرخيص، والهجوم الأرعن، والوعيد الصبياني، بدل تقديم أي نقد رصين أو موقف موزون. بل هو ذاته من باع كرامته حين باع الوطن لصندوق النقد، وتنازل عن الكرامة باسم الإصلاح، وجعل من الحكامة خطابًا فارغًا يخفي وراءه شهوة السلطة والانتقام من التاريخ. ما يؤلم بنكيران أن من ينتقده اليوم ليس خصمًا سياسيًّا بل مثقف لا يُشترى، ولا يُباع، ولا يُرهب.
لكن الأدهى من كل ذلك، أن بنكيران وهو يتقيأ أوصافًا نابية في حق جماهري، إنما يعيد إنتاج منطق الاستبداد الديني نفسه: تكفير المعارض، تشويه المختلف، إلباس المخالف تهمة الأخلاق والدين، وتحريض الجماهير البسيطة على الفكر والمثقفين، وكأن لسان حاله يقول: من ليس معي، فهو عدو لله ولرسوله! وهنا لا يعود كلام بنكيران زلة لسان، بل يصبح مشروعًا تخريبيًّا حقيقيًّا للوعي العام، وإرهابًا رمزيًّا ضد العقل النقدي الذي ظل دائمًا الحصن الأخير أمام زحف الرداءة والانحطاط.
جماهري الذي أعرفه لا يحتاج لمن يدافع عنه، فهو بمقالاته ومواقفه وحضوره الأخلاقي أقوى من أي نباح سياسي عابر. ما يحتاجه المغاربة هو أن يصمت بنكيران، أو أن يتواضع على الأقل، أن يعترف بأنه كان فشلاً سياسيًّا مدويًّا، وأنه لم يترك وراءه سوى الفتات والمرارة، وأن الزمن تجاوز خطابه كما تجاوز تلك الشعارات الجوفاء التي كان يلوّح بها ذات فجر سياسي مغشوش. أما وقد عاد، فإنه لا يعود بسياسة، بل بكلام السوق، وأسلوب العرّافين، وشتائم لا تليق برجل يُفترض أنه مثّل يومًا حكومة وطن.
كلما تكلم بنكيران، انفضح أكثر. وكلما هاجم مثقفًا، كَشف عن جهله وعن عقده القديمة المتجددة. وكلما حاول أن يظهر بمظهر الزاهد المناضل، ارتطم بخيبة ذكاء الناس الذين حفظوا سيرته، وخبروا تناقضاته، وتعلموا من ماضيه ألا يثقوا فيه أبدًا. هذا الرجل عار على السياسة، وعار على الأخلاق، وعار على المغرب أن يظل يحتمل هذا القدر من القبح في مشهده العام. والمشكلة أن أقصى ما يستطيع فعله الآن، وهو على حافة النسيان، أن يهاجم من لا يملك إلا القلم، في محاولة يائسة لصناعة عدو افتراضي يمنحه وهْمًا زائفًا بأن له مكانة، أو بأن هناك من يخشاه.
لكن الحقيقة المرة، التي لا يريد أن يفهمها عبد الإله بنكيران، أنه أصبح الآن ظاهرة من الماضي، وأن محاولة اغتيال شخصية مثل الأخ عبد الحميد جماهري لن تعيده إلى الواجهة، بل ستدفع به أكثر نحو الهامش حيث يليق به أن يدفن صراخه، وأن يواجه حقيقته: لقد كنتَ مجرد فاصل هزلي في زمن مرتبك، وخرجتَ منه
كما دخلتَ، خالي الوفاض، مكشوفا ومفضوحا.
(*)مناضلة اتحادية ونقابية وأستاذة جامعية
الكاتب : n إيمان الرازي (*) - بتاريخ : 21/06/2025