العفو في النظام الدستوري والقانوني

عبد الكبير طبيح

 

قال أحد الفلاسفة عن العفو، لا أذكر أين قرأت ذلك:
“إذا كان العفو عادلا فالقانون سيء. وإذا كان القانون عادلا فالعفو هو انتهاك للقانون”.
في الحالة الأولى يجب إلغاء القانون وفي الحالة الثانية يجب استبعاد العفو.
غير أنه عندما نغادر عالم و فضاء بعض الآراء الفلسفية ونتلمس بأيدينا الواقع المعيش الذي يحيط بنا، يمكن أن نقول عن العفو بأنه:
تلك الرحمة التي تأتي من دون أن ينتظرها القابع في السجن الذي أخرجه المجتمع من بين أفراده بسبب جرم ارتكبه. فهو بريق الضوء الذي يخترق فجأة ظلمة الزمن. بدون موعد، وبالخصوص بدون وسيط.
فالعفو بهذا المعني هو خط تواصل مباشر بين من يمنحه وبين من يستفيد منه.
***********
يقدم العفو في جل دساتير الدول الديمقراطية الحديثة كحق “prérogative ” لرئيس الدولة، وليس لا كسلطة ولا إمكانية ولا كالتزام. ويعرف بعض الفقهاء مصطلح ” Prérogative ” ب:
PREROGATIVE DEFINITION
Dictionnaire juridique
Une prérogative est un privilège ou un avantage lié à une fonction ou à une situation définie par la Loi، par un acte règlementaire ou par une convention.
فالعفو بهذا المفهوم يطرح على من يريد البحث فيه إشكالات مركبة تتجاوز آثارها الإفراج عن محكوم عليه من السجن كيف ما كانت العقوبة التي أوقف تنفيذها ذلك العفو.
ولكن لإزاحة نوع من الغبار الذي قد يضبب علينا الصورة عند تناول هذا الموضوع ذي الطبيعة الخاصة ولكي نتفق منذ البدء على الموضوع الذي نتكلم عنه من جهة. وأن الذي نتكلم عنه يخرج عن المنطق القانوني الحرفي من جهة أخرى. من المفيد أن نستحضر ونذكر بما يلي:
أن دولة كإسكتلندا التابعة للمملكة البريطانية أم الملكيات البرلمانية التي تعيش بدستور غير مكتوب والتي تعرف فصلا للسلط يكاد يكون جامدا، هي نفسها التي أفرجت عن المكراحي، المسؤول الليبي الذي أدين من أجل إسقاط طائرة فوق سمائها وتوفي على إثرها ما يقرب من 270 شخصا من جنسيات مختلفة.
الغرض من هذا المثال هو إبراز أن السلطة السياسية هي التي ألغت وأوقفت العقوبة التي قررتها السلطة القضائية، في جريمة صعبة على الشعب الاسكتلندي وعلى كل ضحاياها.
هذا الإفراج الذي قررته مثل تلك الدولة، لا تهمنا اليوم خلفياته أو عن طبيعة النظام السياسي في تلك الدولة، بل بالعكس فذلك، من شأنه أن يساعدنا على فهم أعمق للعفو كحق prérogative في بلادنا.
فلمقاربة العفو في النظام القانوني المغربي تحضر أمامنا محددات تفرض نفسها في البحث، محددات في الزمن، ومحددات في السياق السياسي الذي عرفته مؤسسة العفو في المغرب، ومحددات في النظام الدستوري والقانوني للعفو في المغرب.
لذا، سنحاول مقاربة مؤسسة العفو بتناول هذه المحددات الثلاثة في مقابلة، جهد الإمكان، مع القانون الدولي المقارن لنرصد مدى الاختلاف والتشابه أو حتى التطابق للوضع الدستوري والقانوني للعفو في الدول الديمقراطية مع ما هو عليه الحال في المغرب.
بخصوص المحددات في الزمن، البحث في النظام الدستوري، ولا أقول القانون الدستوري، والنظام القانوني المتعلق بمؤسسة العفو في المغرب لا يمكن أن يخرج عن وثيقتين تحدد كل منهما بداية للتأريخ القانوني لمؤسسة العفو من جهة، وتحدد التطور لمفهوم العفو من جهة أخرى.
الوثيقة الأولى وهي الظهير رقم 1.57.387 الصادر في الجريدة الرسمية بتاريخ 21/2/1958 وهو بالمناسبة الوثيقة التي يمكن اعتمادها، حسب علمي، في البحث و التحليل، بعدما ألغى هذا الظهير ظهيرا آخر سابقا له صدر في 19/4/1956 كان يتعلق بإحداث لجنة كانت تسمى ” لجنة لمراجعة الأحكام الجنائية والعفو”.
وتعتبر هذه الوثيقة، أي ظهير387/57/1، محددة من محددات الزمن لأننا لا ننظر إليها فقط من جانب الشكل، أي جانب كون الأمر يتعلق بظهير ينظم العفو، وإنما ننظر إليها بكونها وثيقة تحمل الأسس ذات الطبيعة المؤسسية للعفو كحق للملك مثله مثل كل رؤساء الدول سواء كانوا ملوكا أو رؤساء جمهوريات. وهي الأسس التي نجدها في جل دساتير الدول الديموقراطية الحديثة اليوم.
الوثيقة الثانية هي بلاغ الديوان الملكي في فقرته الأخيرة المعلن عنه في 03/08/2013 والذي ورد فيه أن جلالة الملك سيعطى التعليمات لوزارة العدل من أجل اقتراح إجراءات من شأنها تقنين شروط منح العفو في مختلف مراحله …
وعندما نقرأ الوثيقتين المذكورتين في سياق مقتضيات دستور 1962 والتعديلات التي أدخلت عليه بدستور 1970 وخصوصا الفصل 19 منه. وما ترتب عن تعديل هذا الفصل من تعديل لظهير العفو المذكور بمقتضى ظهير بمثابة قانون الصادر في 10/10/1977. مما أدى الى تمديد مجال العفو ليتجاوز العقوبة بعد صيرورتها النهائية بمقتضى مقرر قضائي نهائي، ليشمل المتابعة من جهة وأثار المقرر القضائي النهائي في شقه المتعلق بالعقوبة فقط، وليس بالفعل الجرمي في حد ذاته، من جهة أخرى. وما أتى به دستور 2011 من مستجدات تجعله يصطف إلى جانب دساتير الدول الديمقراطية الحديثة. سيتضح لنا التطور والتحول الذي عرفه حق العفو في الوضع الدستوري والقانوني بالمغرب، كما سنفصله في ما بعد.

بخصوص محددات السياق

السياسي والمؤسسي

إن المدخل لتملك محددات السياق السياسي والمؤسسي للعفو لا نجد له بديلا عن التمييز بين العفو (La grâce) وبين (l’amnistie) أي العفو الشامل كما ينص على ذلك الفصل 4 من قانون المسطرة الجنائية أو العفو العام. كما أصبح ينص عليه الفصل 49 من دستور 2011.
فالعفو” la grâce ” هو عمل يتجه للعقوبة بوقفها أو الإنقاص منها. فهو من هذا المنظور عمل مادي، وليس لا قانوني ولا قضائي. وصفته المادية هذه هي التي تضعه في منأى عن أي طعن سياسي أو قانوني أو قضائي.
لهذا فالتشريع المقارن يسمي العفو ب (prérogative) او ما يمكن ترجمته ب (الحق) أو (الامتياز). و إن كانت هذه الترجمة قد لا تغطى كل المعنى المطلوب.
والعفو في هذا الوضع القانوني كان موضوع جدل فقهي كبير بين من يعتبره إجراء من إجراءات السيادة خاضع للمراقبة والمساءلة السياسية أمام ممثلي الأمة، باعتبارهم هم مصدر الشرعية وتمثيلية أفراد المجتمع. وبين من يعتبر أن ممارسة حق العفو هو عمل من أعمال السلطة العامة التي تستدعي القضاء الإداري لممارسة رقابته عليه. بالتالي تعطي للمواطن حق الطعن فيه أمام القضاء الإداري بخصوصه.
وبخصوص الرأي الذي يدفع إلى اعتبار ممارسة حق العفو يجب أن تخضع لمراقبة القضاء الإداري يستند على ما أقره العمل القضائي للقضاء الإداري من فهم للمبادئ الأولية التي تعرف بمفهوم القرار الإداري. التي تذهب إلى أنه كل قرار يصدر عن سلطة تتمتع بامتياز السلطة العامة يهدف إلى تحقيق ” مصلحة عامة ” فهو قرار إداري يجب أن يخضع بطبيعته لمراقبة القضاء الإداري.
إذ يقول أصحاب هذا الرأي أن القرار الإداري هو إفصاح الإدارة عن إرادتها المنفردة والملزمة بمقتضى ما لها من سلطة عامة تقررها القوانين والمراسيم وذلك قصد إنشاء أو تعديل أو إبقاء على المراكز القانونية للأفراد متى كان ممكنا عمليا أو جائزا قانونا.
ويخلص هذا الرأي أن أي قرار صادر عن سلطة تتمتع بامتياز السلطة العامة فهو قرار يجب أن يخضع لمراقبة القضاء الإداري.
ويؤخذ على هذا الرأي أنه متشبث بالمعيار الشكلي لمفهوم القرار الإداري فهو لا ينظر إلى مضمون القرار الصادر عن السلطة العامة ليميز بين ما هو قابل لمراقبة القضاء الإداري وبين ما هو غير قابل لذلك. وإنما ينطلق، وفي نفس الوقت، يبقى في الإطار الشكلي فقط.
بينما هناك رأي آخر يذهب إلى أن العبرة ليست بالجهة التي يصدر عنها القرار وإنما العبرة بموضوع القرار لتحديد طبيعة القرار الإداري. أي يجب اعتماد المعيار الموضوعي عند تعريف القرار الإداري، أي هل موضوع القرار سيغير ويعدل من المراكز القانونية للأفراد. وهنا يكون القرار الإداري خاضعا لمراقبة القضاء الإداري. أم أن القرار الصادر عن السلطة العامة لا يمس المراكز القانونية للأفراد ولا يغير منها، وبالتالي لا تأثير له ولا تغيير في مصالحهم ومنافعهم. وفي هذه الحالة لا مجال ولا سلطة للقضاء الإداري في مراقبة هذا النوع من الأعمال.
والسؤال الذي يقف أمامنا بعد ذلك هو: وما هي الطبيعة القانونية أو الدستورية للعفو
“la grâce ” وفقا للقانون والقضاء المقارن.
لمقاربة الجواب على هذا التساؤل سنحاول ألا نغرق في التفاصيل التي شملها النقاش العام على الصعيد الوطني أو الدولي في مجال البحث عن جواب معين، وسنقصر النظر فقط في نقطتين:
الأولى: هل العفو هو قرار سياسي أم قرار إداري.
الثانية: هل يخضع الأول وكذلك الثاني للطعن الإداري. أي المنازعة في العفو، سواء قبل إصداره، كمن يقيم دعوى بالزام من له الحق في العفو بتمتيعه به. أو بعد إصداره كمن يدعي تضرره منه لأنه لم يعفه من كل العقوبة مثلا. من جهة أخرى.
كما سبق الإشارة إليه أعلاه لا نكون أمام حق اللجوء إلى الطعن الإداري إلا عندما يكون الإجراء المتخذ قد غير من المراكز القانونية أو من شأنه أن يغير المراكز القانونية للأفراد. في هذه الحالة يكون حق الطعن فيه مشروعا.
لكن عندما نكون أمام إجراء أو قرار لا يمس المراكز القانونية ، فهل يكون مشروعا إخضاعه لمراقبة القضاء الإداري.
لهذا ذهب الفقه والقضاء المقارن إلى القول بأنه من أجل تقرير ما إذا كان العفو خاضعا لمراقبة القضاء يجب البحث في طبيعة العفو نفسها وليس في الجهة التي يصدر عنها.
فوقف، أي الفقه والقضاء، على نتيجة مفادها أن العفو هو عمل مادي يتوجه إلى إيقاف أو إلغاء العقوبة، وليس إلى إيقاف و إلغاء الجريمة برفع الطابع الجرمي عن الفعل موضوع تلك العقوبة.
لكن بما أن جل الدساتير تسند إصدار العفو لرئيس الدولة، ملكا أو رئيسا لجمهورية، فقد ذهب البعض إلى اعتبار حق العفو هو عمل من أعمال السيادة التي يمارسها الملك أو رئيس الجمهورية. مع بعض الاختلافات القليلة.
غير أن بعض الآراء الفقهية والسياسية تطالب بإجراء مراقبة قضائية على العفو بالرغم من كونه عملا من الأعمال السيادية.
غير أن القضاء الفرنسي ذهب مذهبا آخر في قرار صادر عن مجلس الدولة في 28/3/1948، عندما استبعد العفو من مجال السيادة في تفسير عميق خلص فيه إلى أن العفو هو في حقيقته عمل مادي، فهو لا يلغي العقوبة التي حكمت بها المحكمة، وإنما يوقف تنفيذها فقط للاعتبارات أسند تقديرها لأعلى سلطة في الدولة من جهة، بالإضافة إلى أن إيقاف تنفيذ عقوبة محكوم بها من قبل القضاء لا يغير من المراكز القانونية للأطراف. فالمدان يبقى مدانا والعقوبة تبقى مسجلة في السجل العدلي من جهة. والمطالب بالحق يحتفظ بحقوقه كاملة من جهة أخرى.
كما أن القضاء الفرنسي، مجلس الدولة الفرنسي ، ستتاح له الفرصة لإعطاء رأيه في إمكانية الطعن في العفو من عدمها. لكن ليس من قبل الضحية من الجريمة التي صدر بشأنها العفو، وإنما من قبل المتهم الذي صدر العفو لمصلحته. وهي القضية المعروفة بقضية الجندي JUJEL. وهو جندي فرنسي صدر فيه حكم بالإعدام فأصدر الرئيس الفرنسي عفوا عليه يقضي باستبدال عقوبة الإعدام بالأشغال الشاقة.
فطعن الجندي JUJEL في قرار العفو ذاك وبرر طعنه بكون قرار العفو الذي أصدره رئيس الجمهورية بخصوصه، ألحق به ضررا كبيرا.
وفسر ذلك الضرر بكون الإعدام هو عقوبة بدنية لكنها بسيطة، بينما الأشغال الشاقة هي عقوبة بدنية ومخلة بالشرف وسيترتب عنها تجريده من رتبه ومن النياشين العسكرية التي حصل عليها. وهذه الأخيرة هي عقوبة جديدة لم يحكم بها الحكم الذي قضى بإعدامه.
فكيف كان رد القضاء الإداري أي مجلس الدولة الفرنسي ؟
بعد عرض الطعن على مجلس الدولة الفرنسي أصدر قرارا تاريخيا قال فيه:
“حيث أن الأعمال والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية عند ممارسته حق “العفو عن العقوبة هي من الأعمال غير القابلة للطعن فيها أمامه، وأنه يتعين “عليه رفض طعن السيد JUJEL لعدم الاختصاص.
الملفت للنظر، أولا ، هو أن مجلس الدولة رفع عن قرار العفو صفة القرار الإداري عندما صرح بعدم اختصاصه كمجلس للدولة، أي كمجلس قضائي لأعلى سلطة إدارية في فرنسا، للبت في طلب الجندي المذكور من جهة، كما أنه لم يصف قرار العفو بكونه عملا من أعمال السيادة من جهة أخرى.
والملفت للنظر، ثانيا ، كذلك أن مجلس الدولة توجه إلى المحكوم عليه وأحدث قاعدة جديدة وهي أن هذا الأخير لا يحق له رفض العفو الذي يصدر في حقه.
وهو الأمر الذي أكده الفقه الذي ذهب هو كذلك إلى أنه ليس للمحكوم عليه الحق في رفض قرار العفو المخفف للعقوبة عليه. وأن قرار العفو عن العقوبة هو حق خالص لرئيس الجمهورية، وليس حقا للمحكوم عليه وبالتالي فإن لرئيس الجمهورية وحده تحديد من يستفيد منه وظروف وتوقيت استعماله. وما على المحكوم عليه إلا أن يدعن لإرادة رئيس الجمهورية.
وهو نفس الاتجاه الذي ذهب إليه القضاء اللبناني في قرار صادر عنه بتاريخ 15/10/1962 الذي ورد فيه:
“إن قرار العفو الخاص لا يشكل عملا من أعمال السيادة وهو ليس عملا إداريا ولا “عملا قضائيا ومع ذلك فهو غير قابل للطعن فيه أمام هذا المجلس.
هذه إذن بعض الملاحظات العامة التي تتعلق بالنقاش الذي يهم العفو كحق لرئيس الدولة.
هناك، إلى جانب العفو الذي يمارسه رئيس الدولة، عفو آخر وهو العفو الشامل أو العفو العام. وهذا النوع من العفو لا ينصب على العقوبة وإنما ينصب على الجريمة يلغيها في فترة زمنية معينة تكون في غالب الأحيان سابقة لتاريخ إصدار هذا النوع من العفو. أي يرفع عن الفعل صفة الجريمة ويصبح ذلك الفعل عملا مشروعا وغير معاقب عليه.
ونظرا لكون هذا العفو العام أو الشامل يمس ويغير في العمق من المراكز القانونية للأطراف. فإن جميع الدساتير والقوانين جعلته من اختصاص القانون، أي من اختصاص ممثلي الأمة. كما كان عليه الوضع القانوني للعفو العام أو الشامل في المغرب وكما أصبح ينص عليه دستور 2011 اليوم ، وهو ما سنتناوله في ما بعد.

محددات العفو
في النظام الدستوري والقانوني المغربي

يشكل ظهير 1.57.387 الصادر بتاريخ 21 فبراير 1958 عمادا أساسيا في البناء القانوني لمؤسسة العفو. بالرغم عن أنه صدر في مرحلة قبل تأسيس الملكية الدستورية في المغرب. لكنه حمل نظرة متقدمة لبناء الدولة العصرية الحديثة منذ رجوع محمد الخامس رحمه الله من منفاه وحصول المغرب على استقلاله. أي بعد سنتين من حصول المغرب على استقلاله من جهة، وقبل أربع سنوات من أول دستور ستعرفه المملكة المغربية من جهة أخرى.
لكن، عند دراسة نص ذلك الظهير، سيلاحظ أنه تبنى القواعد الدستورية المنظمة للعفو كما هي معمول بها اليوم في أرقى الدول الديمقراطية ملكيات أو جمهوريات. وهي القواعد التي حرصت على ألا تصطدم مع حق العفو عند ممارسته:
– بالأحكام الصادرة عن القضاء.
– بالمس بحقوق الأغيار.
-بالمس بالمراكز القانونية للأطراف.
-بمبدأ عدم الإفلات من العقاب.
وتتجلى هذه المبادئ في القواعد التالية التي ينص عليها ذلك الظهير وهي:
* القاعدة الأولى:
تتوجه لتعريف مجال العفو ليس بالنظر الى عناصره الذاتية وإنما بالنظر إلى حدود ذلك المجال والمتمثلة في التخفيض الجزئي أو الكلي من كل عقوبة التي تصدرها محاكم المملكة بعد أن تصبح تلك الأحكام نهائية .
* القاعدة الثانية:
تتوجه إلى الملك باعتباره أنه هو من يرجع له النظر في العفو. وما يلاحظ أن نص الظهير لم يستعمل عند الحديث ذاك جملة ” يعود له الاختصاص ” أو أي صيغة لها مضمون قانوني يمكن أن يترتب عنه فهم معين لإمكانية إخضاعه لمراقبة قضائية ما.(الفصل2).
* القاعدة الثالثة:
تكرس وتحمي مبدأ عدم الإفلات من العقوبة عندما تنص على أن العفو لا يترتب عليه إلا الإعفاء من قضاء العقوبة مع بقائها قائمة ولا سيما في حالة تطبيق العود وتكرار الجريمة.
* القاعدة الرابعة:
هي أن العفو هو مجال محفوظ للملك كما هو عليه الأمر في جل الدول مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال باستثناء إسبانيا حيث يدخل في اختصاص البرلمان وسويسرا. وفي جرائم معينة في ألمانيا.
* القاعدة الخامسة:
يجب ألا يلحق العفو بالغير أي ضرر هو ما يعني أن العفو ليس من شأنه تغير المراكز القانونية لأطراف ولا اعتباره درجة أعلى للتقاضي قد تلغي أثر الأحكام القضائية.
هذه القواعد المشار إليها أعلاه هي قواعد مؤسسة سنجدها في كل دساتير الدول الديمقراطية الأوروبية المشار إليها أعلاه.
الملاحظة التي تفرض نفسها علينا هي أن ظهير العفو الصادر سنة 1958 كان في قلب وصلب المعايير الدولية المنظمة للعفو، سواء تعلق الأمر بجهة الإصدار أو مجاله أو احترامه لمبدأ عدم الإفلات من العقاب أو احترامه لحقوق الغير.
فهل احتفظ العفو، في المغرب، بنفس هذا النظام القانوني بعد سنة 1958.
للجواب عن هذا السؤال نقف على حقيقة مفادها أن النظام القانوني للعفو خضع هو كذلك للتحول السياسي والدستوري الذي عرفه المغرب وهو التحول الذي سنحاول رصده في ما يلي.
من المعلوم أن ظهير العفو الصادر في 12 فبراير 1958 عرف نوعين من التعديلات في الجوهر، وليس في الملاءمة كما تم ذلك بمقتضى القانون 58.11 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 176/11/1 بتاريخ 26/10/2011 ، وهي:
– النوع الأول:
سنة 1963، أي بعد دخول دستور 1962 حيز التنفيذ وهم الفصل 10 عندما استبدل كلمة ” نائبه ” بالنسبة لوزير العدل و لمدير الديوان الملكي بكلمة ” مفوضه ” وذلك انسجاما مع دستور 1962 لأن هذا الدستور، والذي صدر بعد ظهير العفو، لا يعترف بمؤسسة ” نائب ” الوزير من جهة. كما أنه، اي التعديل، أضاف لأعضاء لجنة العفو عضوا جديدا وهو ضابط من الأركان العامة للقوات المسلحة عندما يتعلق العفو بعقوبات أصدرتها المحكمة العسكرية.
-النوع الثاني:
سنة 1977 وهو التعديل الذي سيهم مجال العفو وحدوده. إذ سيدخل على الظهير تعديلات جوهرية تمت هذه المرة ليس بظهير بل بواسطة ظهير بمثابة قانون رقم 1.77.226 الصادر بتاريخ 10 أكتوبر 1977.
هذه التعديلات الأخيرة أدخلها الظهير بمثابة قانون في سنة 1977 أحدثت القواعد التالية:
* القاعدة الأولى:
هي أن مجال العفو تحلل من إكراه الزمن. إذ لم يبق موقوفا في انتظار صدور مقرر قضائي نهائي كما كان الأمر في السابق. بل إن الظهير بمثابة قانون المذكور ألغى القاعدة التي كان منصوصا عليها في الفصل 2 من ظهير 21/2/1958 التي تقضي بعدم جواز إصدار العفو قبل أن يصبح الحكم بالعقوبة نهائيا.
* القاعدة الثانية:
هي توسيع مجال العفو خارج إطار العقوبة ليشمل المتابعة في حد ذاتها. وذلك بجعل العفو يمكن أن يهم وضعية المستفيد منه قبل الشروع في المتابعة أو خلال إجرائها حتى ولو كانت القضية معروضة أمام محكمة النقض.
وهو الأثر الذي حدده الفصل الأول من ذلك الظهير بمثابة قانون في منع ممارسة الدعوى العمومية، وإذا ما سبق أن مورست فهو يؤدي إلى إيقاف سيرها، أي إيقاف سير المتابعة حتى ولو كانت القضية معروضة أمام محكمة النقض.
* القاعدة الثالثة:
هي تمديد أثر العفو إلى آثار الحكم ليس فقط في ما يخص العقوبة الأصلية من حبس أو سجن أو غرامة بل يمكن أن يمتد أثر العفو إلى العقوبات الإضافية من قيود على الأهلية وسقوط الحق الناتج عنها.
هذه القواعد الثلاث الجديدة التي يحملها الفصل الأول والثاني من الظهير بمثابة قانون الصادر في 10/10/1977 هي قواعد أتت لتمدد مجال حق العفو إلى أبعد حدوده.
لكن هل الظهير بمثابة قانون المذكور يشمل العفو حتى على الجريمة في حد ذاتها، أي يؤدي إلى رفع الطابع الجرمي عن فعل ما، أي هل جمع بين حق العفو وبين العفو الشامل معا؟
مشروعية هذا التساؤل ترجع إلى كلمة “الجريمة ” التي وردت في الفصل الثالث من الظهير بمثابة قانون لسنة 1977 والذي ينص على ما يلي:
“لا يشمل العفو إلا الجريمة والعقوبة التي صدر من أجلها ولا يحول بأي وجه من الوجوه “دون متابعة النظر في الجرائم أو تنفيذ العقوبات الأخرى في حالة تعدد الجرائم أو تجمع “العقوبات المضافة بعضها إلى بعض أو الممكن إضافة بعضها إلى بعض كيف ما كان “نوعها أو درجتها أو الترتيب الذي صدرت فيه.
تلك الكلمة التي فهم البعض بأنها تنصرف على رفع الطابع الجرمي عن الجريمة، أي يكون للعفو أثر العفو العام أو الشامل. ومن جهة أخرى تلغي حكم الإدانة الذي أصدرته السلطة القضائية.
أعتقد أن لهذا الفصل قراءتين أو لهذا التساؤل مقاربتان للجواب:
القراءة أو المقاربة الأولى:
أن التعديل أتى ليسد فراغا دستوريا حول الجهة المؤهلة لإصدار العفو العام أو الشامل أمام عدم وجود اي نص في الدساتير التي عرفها المغرب من 1962 إلى 1996 يحدد الجهة المختصة في إصدار العفو العام أو الشامل. وأن ما يعزز ذلك هو أن كل الدساتير التي عرفها المغرب الصادرة في السنوات 1962 و1970 و1972 و1992 و1996 لم يذكر فيها العفو العام أو الشامل في الفصول المخصص لتحديد اختصاصات البرلمان وهي الفصل 45 من الدساتير 1962 و1970 1972 والفصول 45 و46 من دستور 1996. في الوقت الذي تناول العفو الشامل قانون عادي وهو قانون المسطرة الجنائية في فصله 4. علما أن قانون المسطرة الجنائية هو سابق في الوجود على أول دستور مغربي.
ومن المعروف أن العفو الذي ينصب على محو الجريمة يسمى في القانون المغربي وفي القانون المقارن، بالعفو الشامل أو العفو العام. وهو العفو الذي يتجه للفعل الجرمي ليمحي أثر الجريمة من أصلها ويرفع على ذلك الفعل الطابع الجرمي. سواء صدر بشأنه حكم أم لم يصدر أو مورست الدعوى العمومية بشأنه أم لم تنطلق بعد.
ومن المعلوم كذلك في القانون المغربي والقانون المقارن أن العفو الشامل يدخل في اختصاص مجال القانون. أي من اختصاص البرلمان باعتباره هو السلطة التشريعية. لذا نجد أن القانون المسطرة الجنائية في الفصل 4 منه ينص على أن الدعوى العمومية تسقط بالعفو الشامل.
فهل التعديل الذي أدخله ظهير بمثابة قانون الصادر في 10/10/1977 يؤدي إلى الجمع بين العفو والعفو الشامل. وهل ذلك الجمع هو مطابق أو مخالف للوضع الدستوري عند صدور ذلك الظهير في سنة 1977.
الجواب عن هذه الأسئلة يستدعي الالتفات إلى أن ظهير الصادر في 10/10/1977 لنلاحظ أن ليس ظهيرا عاديا وإنما أنه صدر باعتباره ظهيرا بمثابة قانون مع الإشارة، لكل غاية مفيدة، أن الملك كان الدستور يؤهله ليمارس اختصاصاته المنصوص عليها حصريا في الدستور بواسطة ظهائر. وعندما يمارس السلطة التشريعية أي عندما يصدر نصوصا قانونية تدخل في مجال القانون، فإنه يقوم بذلك بواسطة ظهير بمثابة قانون.
والسؤال الذي يبرز بعد هذا المعطى هو هل الملك يمارس السلطة التشريعية؟
والجواب نجده في مراجعة التحول الذي عرفه الفصل 19 بين ما كان ينص عليه في ظل دستور 1962 وما أصبح ينص عليه في الدساتير 1970-1972-1992-1966.
ذلك أنه بالرجوع إلى أصل الفصل 19 المنصوص عليه في دستور 1962 سنجده ينص على ما يلي:
“الملك أمير المؤمنين رمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها وهو حامي حمى الدين … “.
بينما عندما نعود إلى التعديل الذي أدخله دستور 1970 على الفصل 19 واستمر في باقي الدساتير إلى دستور 1996، نجده أصبح ينص على ما يلي:
” الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة…..
هكذا نلاحظ أن الفصل 19 في دستور 1970 أضاف للملك صفة ومهمة جديدة وهي أنه الممثل الأسمى للأمة.
وإذا عندما نعود للفصل 37 من دستور 1962 والفصل 36 من دستور 1970 ودستور 1972 ودستور 1992 ودستور 1996 نجدها كلها تصف عضو مجلس النواب باعتبار أنه يستمد سلطته من النيابة عن الأمة، إذ تنص كل تلك الفصول على ما يلي:
“يستمد أعضاء مجلس النواب نيابتهم من الأمة.
وهو ما يعني أن عضو مجلس النواب هو ممثل للأمة وبهذه الصفة يمارس سلطة التشريع نيابة عن الأمة التي يدخل في اختصاصها الخاص إصدار القانون الملزم لها بواسطة أعضاء البرلمان الذين أهلهم الدستور لتمثيل الأمة في ذلك البرلمان.
لهذا فظهير 10/10/1977 من أجل أن يجعل حق العفو يشمل مجال العفو الشامل كان ضروريا احترام القواعد الدستورية، أي أن يمر عبر سلطة التشريع، فصدور الظهير 1977 ليس كظهير فقط وإنما كظهير بمثابة القانون في إطار سلطة الملك كممثل أسمى للأمة وفقا للتعديل الذي أدخل على الفصل 19 كما سبق بيانه.
وهذه الصفة، صفة الممثل الأسمى للأمة، لا نجدها في دستور 2011 في الفصل 42.
هذا التحول في مجال العفو، من عفو خاص بالعقوبة إلى عفو يشمل الجريمة وما ينتج عنه من تداخل سيأتي دستور 2011 ليرفع هذا التداخل وليميز بين حق الملك في العفو، واختصاص السلطة التشريعية في العفو العام أو الشامل.
فبقراءة للفصل 58 من دستور 2011 والفصل 49 من نفس الدستور ستلاحظ أن مشرعي ذلك الدستور رفعوا ذلك التداخل بين العفو الخاص والعفو العام، ليس بالنص على حدوده مجال العفو الخاص فقط، وإنما بتحديد مصدر كل منهما. ذلك أنه لأول مرة في الدساتير المغربية منذ أول دستور الصادر في 1962 مرورا بدستور 1970 و 1972 و 1992 و 1996، لم يتناول المشرع الدستوري ولم ينظم ولم ينص على العفو العام. في الوقت الذي نص قانون المسطرة الجنائية منذ 10 فبراير 1959 في فصله الرابع على العفو الشامل. كما سبق بيانه
غير أن دستور 2011 في فصله 58 سيتناول العفو العام لأول مرة عندما تكلم عن اختصاصات المجلس الوزاري، إذ ورد فيه أن هذا المجلس يتداول في مشروع قانون العفو العام.
بينما كلمة ” تداول” المذكورة في الفصل 58 لا نجدها في الفصل 49 من نفس الدستور التي حصنت العفو في مجال الاختصاص المحفوظ للملك، إذ نص ذلك الفصل على ما يلي:
“يمارس الملك حق العفو، وهو ما يبين بكل وضوح أن دستور 2011 رفع التداخل الذي قد يفهم من ظهير بمثابة القانون الصادر في 10/10/1977 باعتباره يدمج في اختصاص العفو على العقوبة مع اختصاص العفو العام على الجريمة. والذي هو من صميم اختصاص العفو الشامل أو العام والذي هو من اختصاص السلطة التشريعية في كل الدساتير.
غير أن الفصل 49 من دستور 2011 لم يرفع فقط سوء الفهم حول تداخل بين العفو الخاص والعفو العام، وإنما أحدث قواعد دستورية جديدة وهي:
– الأولى: هي أن العفو العام هو من اختصاص القانون.
– الثانية: أن مشروع قانون العفو هو الوحيد من كل مشاريع القوانين التي يجب التداول فيها في
المجلس الوزاري قبل عرضه على البرلمان. أي أن العفو العام هو يدخل في المجال المشترك بين سلطات الملك واختصاصات الحكومة. كما يقول فقهاء القانون الدستوري.
-الثالثة: أن تطبيق الفصل 4 من قانون المسطرة الجنائية الذي نص على أن الدعوى العمومية
تسقط بالعفو الشامل يجب أن يمر عبر قانون. وهو ما يعني أن الاختصاص في العفو العام هو في مجال السلطة التشريعية وهو ما ينص عليه بكل وضوح الفصل 71 من دستور 2011.
القراءة أو المقاربة الثانية
وهي أن التعديل الذي أتى به الظهير بمثابة قانون الذي صدر في 1977 على مسطرة العفو ، لم يكن يمس بسلطة القضاء و لا بحرمة الأحكام بالإدانة التي يصدرها.
وبالفعل فإنه بقراءة متأنية في الظهير بمثابة قانون الصادر في 1977 نجده يتوجه بكل وضوح إلى الإنقاص أو الغاء العقوبة أو وقف المتابعة بخصوصها. لكن لا ينص على إلغاء الأحكام القضائية الصادرة بالإدانة ضد من يستفيد من العفو.
فالظهير بمثابة قانون الصادر في 1977 ليس فيه أي تناقض لا مع الفصل 58 من الدستور من جهة، ولا يمس باحترام المقررات القضائية لأن:
-الحكم بالإدانة يبقى موجودا قانونا ويسجل في السجل العدلي للمستفيد من
العفو من جهة ويشار إلى ذلك الحكم في نفس السجل العدلي.
– لا يرفع على الفعل المرتكب وصف الجريمة.
فالعفو في هذه الحالات سيصدر قبل أن يقول القضاء كلمته بالإدانة أي قبل أن يتخذ
القضاء موقفه من الشخص المتابع. وإذا ما صدر حكم قضائي وقضى بالإدانة و العقوبة فإنه يتوجه، فقط، ليشمل العقوبة الأصلية و بعض العقوبات الإضافية. خلافا لما قد يفهم من جملة ” لا يشمل العفو إلا الجريمة …..” المذكورة في الفصل 3 من التعديل الذي دخل على قانون العفو في سنة 1977.

والخلاصة لكل
ماسبق:

1 – أن المشرع الدستوري في 2011 أعاد التمييز بين ما هو حق للملك، وبين ما هومن اختصاصات السلطة التشريعية. كما هو الأمر في أعرق الدساتير الديموقراطية للدول الحديثة اليوم.
2 – أن التعديلات التي أدخلت على الظهير الصادر في 21/02/1958 بمقتضى
الظهير بمثابة قانون الصادر في 10/10/1977 لا تعارض فيها مع الدستور ولا تمس بأحكام السلطة القضائية في ما قضت به من إدانة. لأن تلك التعديلات تتوجه:
-إلى المتابعة المتعلقة بالدعوى العمومية. وليس إلى إزالة الطابع
الجرمي للأفعال موضوع تلك المتابعة التي تبقى مجرمة من قبل
القانون.
-إلى العقوبة لإنقاصها أو إلغائها.
-إلى احترام حقوق الأغيار.
وبالتالي فإن القراءة التي تذهب للقول بكون الظهير بمثابة قانون الصادر في 1977 مس بسلطة القضاء وباحترام المقررات التي يصدرها هي قراءة لا يوجد في ذلك الظهير بمثابة قانون ما يعززها.
وبخصوص العفو الشامل أو العام لا يوجد أي نص يحدد حدوده ولا المجال الذي يمكن أن يشمله، لأن المشرع والدستور حصنه.
ذلك أن الدستور وإن أسند الاختصاص للبت فيه للسلطة التشريعية أي البرلمان، إلا أنه ألزم الحكومة بأن تعرضه للتداول فيه أمام المجلس الوزاري قبل عرضه على البرلمان. أي أن الدستور اعتبر العفو العام له من الأهمية بجعله يدخل في المجال المشترك. كما سبق بيانه.
غير أن الملاحظ أن المبادرة إلى إصدار القوانين التي تتعلق بالعفو الشامل أو العام هي أمر نادر، إذ لم يسبق في المغرب أن صدر أي قانون عام أو شامل يتعلق بالعفو يهم جرائم معينة. إلا ما تردد عن قانون تعلق بالزيوت المسمومة صدر في نهاية الخمسينيات مباشرة بعد استقلال المغرب، غير أنني لم أعثر عليه. وحتى في القانون المقارن فإن إصدار مثل هذه القوانين هو كذلك نادر حسب ما يظهر من بعض المعلومات التي اطلعت عليها، والتي يجب التحقق منها والمتمثلة في ما يلي:
-فمثلا في ألمانيا صدرت 4 قوانين للعفو الشامل أو العفو العام لحد اليوم في سنوات 1949 و1954همت حالات تتعلق بالحرب العالمية الثانية وأخرى صدرت في 1968 و1970 بعد التعديلات التي أدخلت على القانون الجنائي.
– في إيطاليا يظهر أن البرلمان لم يسبق له أن صوت على أي قانون يتعلق بالعفو العام منذ 1992 وكان آخر عفو عام صدر سنة 1990 عندما كان ذلك يدخل في اختصاص رئيس الجمهورية.
– في هولندا ينص الفصل 122 من الدستور على إمكانية إصدار عفو عام بواسطة قانون إلا أن البرلمان لم يسبق له أن استعمل هذا الحق.
-في البرتغال كان آخر قانون للعفو العام صدر سنة 1999.
إما بخصوص العفو الذي يمارسه رؤساء الدول فإن كل القوانين أو الدساتير تجمع على ضرورة استحضار بعض المعطيات في من يستفيد منه:
– أداء نوع من الغرامة المالية.
– وجود المحكوم عليه في وضعية صحية مقلقة.
-التقدم في السن. كما هو حال الدانمارك
– اشتراط تعويض الضحية.
-منع العفو في بعض الجرائم مثل الإرهاب أو العنف الجنسي أو المخدرات. كما هو الحال في إيطاليا.
أما في المغرب فمن المفيد الرجوع إلى ظهير 21/2/1958 لنقرأ فيه أنه نص في الفصل السابع منه على ما يلي:
“لا يلحق العفو في أي حال من الأحوال ضررا بحقوق الغير.
وهي نفس الصيغة التي لا يزال ينص عليها ظهير 387/57/1 المنظم للعفو في آخر تعديل دخل عليه في 23/10/2011.
إن هذا الفصل هو المدخل الأساسي وقد لا يبقى الوحيد لتحديد الحالات التي يمنح فيها العفو. وإن كان تطور الجريمة اليوم يفرض أن يفهم الضرر فهما يتسع لرد الاعتبار ليس فقط في ما يتعلق بالضرر الذي يحصل للفرد، وإنما الضرر الذي قد يحصل للمجتمع.
لكن لتحديد الضرر الذي يتعين أن لا يلحقه العفو بالغير:
– فهل ينظر إليه من جانب الضرر الذي لحق بضحية الفعل الجرمي المرتكب.
– أم ينظر إليه من جانب الضرر العام الذي يلحق المجتمع.
– وهل يجب النظر إلى الجريمة أو إلى من ارتكبها.
– وهل يجب حصر الجرائم المعتبرة محدثة للضرر الفردي والجماعي ، التي يجب أن يشملها العفو أم من المصلحة أن يبقى المجال مفتوحا على كل الجرائم، لما قد تكون الحاجة إليه مستقبلا.
علما أن العفو المسند لرؤساء الدول في كل بلدان العالم ليس له فقط بعد أو حاجة وطنية محصورة في استفادة المواطنين في بلد معين. بل قد يحتاج إلى آلية العفو في العلاقات الدولية وقد يكشف المستقبل الحاجة إليه في التعامل الدولي بين البلدان. كما وقع في قضية المكراحي المسؤول الليبي المشار إليها في بداية هذا المقال.
ومع ذلك تبقى تلك الأسئلة للتأمل.

الكاتب : عبد الكبير طبيح - بتاريخ : 10/04/2020