الفضاءات العمومية مجالات مشتركة لها هوية وروح

بقلم: مصطفى المتوكل الساحلي

 

الفضاء العام، فضاء يحتاج إلى منظومة فكرية واعية عقلانية ديمقراطية متعددة متنوعة متكاملة يشكل الاِختلاف والتعارض والتكامل أجزاء من نسيجه المتشابك، يؤطره الشعب، وتراقبه مختلف السلطات بالقانون والعرف والمشترك بين الشعوب والحضارات، والسعـي للتحكم في مساراته، وضبط توجهاته. بناه ويـــــــبنيه الناس أفرادا وجماعات، منازل وقرى ومدنا بفضاءاتها من شوارع وأزقة وساحات ومآثر وبنايات تراثية وأسواق، حيث تقوم الدولة بشكل مباشر أو بواسطة مؤسساتها القطاعية والترابية بمهام، وفقا لأولوياتها، ورؤيتها في التعامل معه، فتعمل على وضع تشريعات لتنظيم وضبط مجالات منه في إطار المصلحة العامة، في علاقاتها بالمصالح الخاصة إداريا ومجاليا وجماليا وبيئيا وماليا «جبائيا وضرائبيا»، وتحدث تشريعات تمكنها من تملك الأملاك، فتصنفها بين عامة وخاصة برا وبحرا وجوا.
إنه يجسد التنوع والثراء المادي والثقافي والاِجتماعي والتواصلي، ويكشف عن تداخل وتكامل الخاص والمشترك، يمتلك ويكتسب هوية متعددة المرجعيات.
وقد يكون شعبيا وتقليديا وغير متمدن، وبورجوازيا وعصريا أو مستلبا، يعكس الحالة والوضعية العامة ومستوى الوعي والإدراك والتقدم والتخلف.
إن أوضاع وحالات الفضاءات والأملاك العامين يعكسان طبيعة علاقات المؤسسات الترابية والناس معها إيجابا أو سلبا، تثمينا أو إهمالا وإساءة، ويكشف قيم ومعايير الجمال والذوق السليم وثقافة احترام المشترك الأصيل والحديث.
ومن الفضاء العمومي الأملاك العامة سواء نسبت للدولة أو المؤسسات أو القبائل أو الأشخاص والتي تكون مصدرا للإنتاج والثروة من فلاحة ورعي ومياه ومعادن وخدمات ، فتكتسب قيمتها وتثمن مردوديتها بوعي وعمل كل المعنيين والمتدخلين وتكاملهم وتآزرهم وتشاركهم، ووضعهم لنظام مشترك يؤطره العرف والعادات والتقاليد ثم القانون ليجعل الفضاءات تعرف تعايشا وتكافلا وتعاونا وأمنا واستقرارا لايلغي هوية ولا تاريخا، ولا يبدد ثروة ثقافية وفكرية وتراثية وعمرانية.
إلا أن ما بين الكد والكدح والبناء والهدم والإهتمام والإهمال والاستفادة من مردودية التضحيات التي لاتتوقف على مدار القرون والسنون، يسجل تغير كمي ونوعي متواتر يهم أوضاع وأحوال الناس والأمكنة العامة إيجابا وجمالية وتقدما، ويسجل كذلك تجليات سلبية تتضخم بفعل النمو الديمغرافي والهجرة وضعف في الوعي والمستوى الثقافي، تعكس تراجعا غريبا وغير سوي في علاقة بمتطلبات العصر بالمقارنة مع الدول الرائدة والمتقدمة والمتخلفة والسائرة في طريق النمو ، فيتراجع مستوى الوعي والنضج المعرفي وتتضرر قيم الجمال والذوق السليم، وينعكس ذلك على جودة الحركة والعمل والفعل، ويتسبب في اختلالات كبيرة تمس العمليات التعليمية والتربوية والتأطيرية بالأسرة والشارع والمؤسسات التعليمية، وتتسبب السياسات اللاشعبية في إنتاج الفقر والهشاشة، حيث تفرز ظواهر اجتماعية غير سوية، وسلوكا عدوانيا وعدائيا وانتقاميا.
إن الفضاء العام، هو المجال الذي تدور فيه آلية النظام تعلق الأمر بالعيش المشترك أو بكل آليات الإنتاج، وكذا طبيعة المؤسسات المتدخلة والتي لها علاقة به، وجودة التشريع المنظم والمؤطر في علاقة مع درجة العدالة تدبيرا وتنزيلا وحكامة. لهذا فإنه يحتاج باستمرار إلى تطوير وتجديد المتوفر للاستجابة للحاجيات المرتبطة بالنمو الديمغرافي مع احترام للموروث وتجليات الحضارات السابقة، وجعل الحركية الاقتصادية بكل أنواعها التقليدية والعصرية متكاملة ومنسجمة معه غير مبخسة له وقادرة على المنافسة والعالمية..

إن عدم وجود ضوابط تحقق عدالة مجالية وتنافسية وإنتاجية واستثمارية، يتسبب في ضياع الطبقة المنتجة المضحية بوقتها وصحتها وراحتها وحتى إمكانياتها الضعيفة، يتسبب في اختلالات اِجتماعية، واتساع دائرة الخصاص والفقر، وتراجع أدوار المجالات والفضاءات العامة، سواء بالبوادي أو بالمراكز الصغرى والمتوسطة وبالمناطق الملاصقة للحواضر الكبرى، وحتى داخل مداراتها الحضرية، فتتكون مناطق البؤس بكل تجلياته مع ما يتبعها من عشوائية وظواهر غير سوية، تصبح عنصر أزمة وتعطيل للتنمية الشاملة واتساع دائرة التخلف.
إنه لايجب أن يجعل من الفضاء العام أمكنة لإعادة إنتاج التخلف والعشوائية والارتجالية واللاتنظيم، وما ينتج عن ذلك من انفلات في الجوانب التنظيمية والعمرانية والتجارية والبيئية .
إن من المفارقات، أن نجد من يسعى بشكل متعمد وبشع، لتثمين مظاهر الأزمة والظواهر المتعلقة بها من سعاية بمختلف مظاهرها وتشرد وإحسان ليحولها إلى فولكلور أو أنشطة بمبرر ديني أو لاستقطاب سياحة تسعى للتعرف على الشعوب البدائية أو غير المتحضرة، وبدعوى الشعبية المفترى عليها والتي تشوه لتتحول إلى تحقير ومساس بكرامة الإنسان ومكانته وحرمته.
إن تنظيم المجال العام في كل مناطق بالمدينة والبادية والمراكز الكبرى، يجب أن يخضع إلى سياسة متعقلة ومتوازنة، لتدبير تنزيل عدالة مجالية واجتماعية واقتصادية، تجعلنا ونحن نتجول بالوطن، نتنقل بين مجالات ثرية بتنوعها، وخصوصياتها، وتقدمها في جميع المجالات.
لهذا، فالفهم السطحي للأشياء، وعدم استشارة أهل الاختصاص، والمبالغة في المزاجية والارتجال، يجعل الهوية البصرية للقرية والمدينة التاريخية وحتى العصرية عرضة، للعبث حتى تصبح بدون ملامح، ولا خصوصية، ولا هوية ولا جمالية.
إن الفضاء العمومي أيضا، مجال للتواصل والتلاقح والترافع والتدافع والاحتجاج والتعريف بالخصوصيات وتثمينها، وفضاء للرصد والتتبع والنميمة وصناعة الأخبار الزائفة وترويجها وأحيانا للانتقام من المؤسسات والمجتمع. . إنه هو الأمكنة المشتركة والعامة، ولو كانت في ملك شخص واحد من مقاهي ومتاجر ومعارض وقاعات عرض ومؤسسات عمومية ومنتزهات..
وهو وجه يبرز ويعرض ويكشف رأيا عاما بصيغ آنية أو عابرة أو قناعات تقوم على مطلب أو مطالب أو منظومة فكرية.
إن ما يروج في الفضاء العام، يخلق رأيا عاما متفاعلا إيجابا وسلبا باقتناع واع أو باتباع وتقليد جاهل، وقد يكون وراء صناعته حدث منعزل ذات غايات مقصودة، وقد تصبح المؤسسات محركا قويا لصنع رأي عام يتجاوب مع متطلبات مرحلة معينة. وقد يكون لرأي عام خارجي دور في تشكل موجة مشابهة له بسبب تداخل وتقارب الأسباب والاهتمامات والغايات والإكراهات والإشكالات، كما حصل في الربيع الديمقراطي الذي وظف فيه الدين بشكل انتهازي للوصول إلى الحكم، أو في محاربة وتخريب وإلغاء كل ما هو مخالف، تعلق الأمر بالصراعات الدموية البشعة وبالاعتداء على الفضاءات العامة وإتلاف معالم ورموز تاريخية وتراثية، كما حصل في دول مشرقية، بالسعي الفج لتنميط الناس وطباعهم ومواقفهم وانتهاك حريتهم وإخضاهم لسلطة مستبد باسم الدين.
إن الإعلام ومواقع التواصل الاِجتماعي كفضاء عمومي كبير، أصبح يقوم بدور بارز في صناعة رأي عام حول العديد من الموضوعات والاهتمامات اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا. وتكمن خطورته في أنه قد يستخدم في صناعة أفكار عابرة ووعي زائف، ويحفز النزوع نحو اليأس والقنوط والشك. وهذا يكون معرقلا للمبادرة والمشاركة من أجل التغيير والإصلاح والتطور.
فصناعة الرأي العام، تتم أيضا بتوظيف فضاءات عمومية مثل المساجد، حيث يمكن أن تلفف توجهات متطرفة وعصبية وتكفيرية بقصد أو بدونه في دروس الوعظ والإرشاد والتأطير الديني ومحاربة الأمية والحفلات الاِجتماعية، مما يخدم أجندات سياسية معينة. وهذا يتسبب في اضطراب الرأي العام، وتهلهله وتفكك أواصره، ببعدها الإنساني والاِجتماعي والوطني والديني.
إن تدبير ووضع الفضاءات العمومية، يعكس مستوى الوعي وطبيعة التصورات التي تؤطره، وتفعل فيه في اتجاه التقدم أو التخلف، والخلاصات الموضوعية المستخرجة من قراءاته تسري على المؤسسات والناس، حيث الجميع مطالب بمراجعات وتأهيل للعقل وتثمين للثروات والقدرات والموارد البشرية وتملك رؤية مستقبلية متجددة تجعل العمل والإبداع في كل فضاء.
إن روح الفضاء العام وعلاقاته ومنظوماته تمتد لتغزو الفضاءات الخاصة بما فيها الأسر لتؤثر فيها إيجابا وسلبا فكريا وسلوكيا.
إنه هو كل المشترك بين الناس خارج الذات ت والخصوصيات. وهو أوسع في معانيه ودلالاته من الأمكنة، كما أنه ليس جامدا، وجوهره لايقوم على أوهام جمالية استهلاكية وتقليد أعمى وأنانية وتبعية وعبثية.
إن أصحاب الفضاءات الخاصة يسعون بقوة ليتقاسموا أفكارهم وتصوراتهم ونمط عيشهم مع الآخرين، لتصبح اهتمامات وأنشطة عامة، فتنشر في الفضاءات العمومية وميدانيا وافتراضيا.
إن التداخل بين المكانة الفلسفية والقانونية والثقافية والاِجتماعية للفضاءات العمومية، جعل عبر التاريخ العديد من المفكرين يحرصون على إيلاء هذا المجال الخطير الاهتمام الكبير بالدراسة والتمحيص والتحليل والتنظير والتشريع، حتى يكون له الدور الرئيسي في بناء وتشكل رأي عام إيجابي واع، وتحقق تطور معرفي وحضاري مستدام ليتجلى في الأمكنة كلها.
تارودانت: الأربعاء: 07 فبراير 2019.

الكاتب : بقلم: مصطفى المتوكل الساحلي - بتاريخ : 08/02/2019