القاسم الانتخابي وتحرير الحقل السياسي

محسن السوري

تبنّي القاسم الانتخابي على أساس لائحة المسجلين ليس إطلاقا بالسوء الذي يُرسم به هنا وهناك. بل إن من يكرر فكرة أن اعتماده غير موافق للمقتضيات الدستورية فهو لا يقدّر جيدا فقط إن لم نقل يكذب، بل ربما ينسف حتى المؤسسات أيضا متمثلة في هذه الحالة بالمحكمة الدستورية.
واضح أن حزب العدالة والتنمية غير سعيد بتاتا بطرح مسألة تحويل القاسم الانتخابي من الأصوات الصحيحة المعبر عنها إلى اللوائح الانتخابية. الواقع أن هذا المقترح، القانوني هذه المرة بشكل مجمع عليه تقريبا، يهدد شروط إمكان استمرارية هيمنة حزب سعد الدين العثماني في الحقل السياسي المغربي.
لكن من السهل اعتبار هذه المستجدات في مدونة الانتخابات استهدافا للحزب على غرار ما يصرح عدد من أعضائه. الحقيقة أن المسألة لها أبعاد أهم بكثير من مجرد محاولة تأطير الفهم العام عبر التصريحات العمومية. فبشكل عام يبدو أن بين مقترح تغيير القاسم الانتخابي وبين اللحظة السياسية التاريخية للبلد واحتياجاته الفعلية التي من شأنها تأمين مستقبل ديمقراطيته، هناك تطابق أساسي فيما بينهما.
لقد كانت الانتخابات السابقة وقوانينها تتيح استمرار تناقض رئيسي غريب بالحياة السياسية. يمكن لك أن تقود الحكومة دون أن تكون حائزا على شرعية شعبية طويلة عريضة. كانت هذه حالة استفاد منها حزب العدالة والتنمية جاعلة منه أكبر من حجمه السياسي الحقيقي. في نفس الوقت الذي قامت بتثبيته كمحور العملية السياسية.
وعلى سبيل المثال، تعبيرات “التماسيح والعفاريت”، “التحكم”، “ماجيتش باش نتخاصم مع الملك”، وكل الترسانة الخطابية للأمين العام السابق للحزب وحدة لغته ولهجته كانت تندرج ضمن محاولة التغطية على هذا التناقض الصارخ بين الحجم السياسي والعدد العام للأصوات المحصل عليها.
من جهة أخرى، من خلال استفادته من موقعه كمحور العملية السياسية، قاد “البيجيدي” معركته السياسية، مدعوما من زخم صحفي محلي وعربي، وفق توجه استراتيجي جعل لحظات الانتخابات بالنسبة إليه تحصيل حاصل حتى قبل إجرائها. لقد اختار التضاريس والطوبوغرافيا المناسبة لساحة المعركة السياسة، وضع المفردات والمفاهيم والرموز، ثم صهر كل هذه العملية في كلمة سر محددة: حماية “المسار الديمقراطي” (كلمة السر اليوم هي “الخيار الديمقراطي” ).
نعم، من حق جميع الأحزاب أن تتبنى الاستراجيات السياسية التي تراها مناسبة لها، حتى ولو كانت استراتيجيات غارقة في الأنانية، لكن في نفس الوقت مطالبتها باستمرار دائم لنفس الشروط التي جعلت استراتيجياتها ناجحة، متوهمة بقاء الحال على حاله إلى الأبد، لا يعدو أن يكون سوى ضرب من التضليل والمزايدات المستحيلة.
الواقع، ما يوجد على المحك اليوم من بين أشياء كثيرة هو خطاب سياسي تعده شريحة كبيرة من المراقبين سلبيا ركب على شروط مناسبة أتاحت مصعدا اجتماعيا لأطر الصف الأول من هذا الحزب أو ذاك دون أن يقدم فائدة كبيرة للبلد.
لا شك أن القاسم الانتخابي المرتفع سيجعل عمليا من الصعب الوصول إليه ناهيك عن تجاوزه، خصوصا في الأوساط الحضرية حيث كثافة السكان عالية، بيد أن تدني نسبة المشاركة السياسية على نحو صارخ، حضريا وقرويا، من غير المقبول أن تبقى أيضا غير مترجمة على مستوى مختلف أحجام القوى السياسية. ادعاء تجسيد إرادة المغاربة بالتالي لن يكون متاحا في ظل نسب مشاركة سياسية هزيلة إلى أبعد حد. التحدي اليوم هو تمثيل وإشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين والمواطنات وليس الحصول على المقاعد كيفما اتفق.
إن المصادقة النهائية على قسمة أعداد المسجلين على عدد المقاعد عوضا عن الأصوات الصحيحة المعبرة عنها التي تمكنت من تخطي العتبة الانتخابية، في واقع الأمر، من شأنها أن تؤدي إلى المساهمة في تحرير الحقل السياسي المغربي كما لم تفعل أية مبادرة من قبل. إذ نحن أمام رفع سقف اللعبة السياسية إلى حدها الأقصى. يتبلور مستقبل الديمقراطية المغربية من خلاله بكل الآفاق التي قد تفتحها أمام الجميع فاعلين ومواطنين.
بالطبع، حزب العدالة والتنمية باعتباره الآن محور العملية السياسية الحزبية لن يندثر من الساحة باعتماد قاسم انتخابي عال، كما لن يخرج من حلبة المنافسة على رئاسة الحكومة، بل إن حظوظه في ولاية ثالثة تبقى قائمة، ولكنها غير محسومة أو يمكن ادعاؤها مسبقا، كما أن الحسابات السياسية مختلفة هذه المرة.
لذلك، رفع السقف السياسي يعني أن مختلف الأحزاب اليوم مدعوة إلى بذل المزيد من الجهود من أجل الرفع من نسبة المشاركة السياسية للمواطنين، إضافة إلى التخلي عن مساحة الراحة التي ألفتها بوصفها أحزاب أطر وتدبير مسارات شخصية، فضلا عن أن الحاجة ملحة إلى تبني تواصل سياسي مبتكر واعتماد استراتيجيات تواصلية جديدة تهدف إلى وضع نسبة كبيرة من الناس في صورة واقع البلد دون مزايدات كاذبة في أفق تحرير الطاقات، خصوصا بعد تسريع أزمة جائحة كوفيد-19 حدة ووطأة مختلف التحديات والاختلالات.
الرهان، اليوم، يكمن أيضا في ضرورة بروز نخبة سياسية جديدة منفتحة بعيدا عن الوجوه القديمة وترتيبات اللوائح الوطنية للشباب المفتقدة للمشروعية اللازمة والزخم السياسي الضروري.
من جهة أخرى، تحرير الحقل السياسي الوطني، من خلال اعتماد قاسم انتخابي جديد، لا ينبغي أن يفهم كأنه تقديم شيك على بياض إلى الدولة والنظام السياسي، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل الواقع أن التحرير يعني بالضرورة اعترافا بشرعية النزاع والمنافسة السياسية، كما أن أبعاد تحرير الحقل السياسي سوف تفضي أيضا بالضرورة إلى تغيير مدلولات المفاهيم المؤطرة السائدة بما فيها مفهوم السياسة ذاته.
فلئن كانت الأيام القادمة ستشهد لامحالة ارتفاعا في وتيرة الهجوم والتخويف من القاسم الانتخابي الجديد المقترح، بالرغم من إجماع أغلب القوى حوله تقريبا، فإن المسألة الأساسية التي قد تبقى حاضرة في الذهن أنها انتقادات غير موضوعية، نابعة بالأساس من خوف على انتهاء مرحلة معينة أو انحسار مسارات شخصية لا أقل ولا أكثر.

الكاتب : محسن السوري - بتاريخ : 08/10/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *