الكورونا … ومشروع التعليم والتكوين عن بعد

الحسين بوخرطة

 

 

إن إجبارية المرور إلى التعليم عن بعد زمن الكورونا أبان أن العديد من المجتمعات، ومنها مجتمعنا، تختزن ثروة ضخمة غير مستغلة للمعلومات والتعلمات والمواد التثقيفية بمختلف مجالاتها. فما نسميه اليوم “التعليم عن بعد” ب”الديباناج” المعتمد في الغالب على الطرق والوسائل الخاصة لأساتذتنا (الواتساب على الخصوص مع توقيف التفاعل، جلب الدروس والتمارين من المؤسسات التعليمية أو التحميل البعدي لها، منصة التلميذ الوزارية، ….)، يمكن تصنيفه بمثابة بداية أو محاولة تجريبية مشجعة للمرور إلى بناء مشروع رقمي وطني تعليمي وتربوي وتثقيفي كبير ودائم، مشروع يجب أن يشمل كذلك الدعم التربوي عن بعد، والولوج الآني إلى المعلومات التكوينية المهنية والتثقيفية والفنية.

إن التقنيات التكنولوجية الضخمة التي بين أيدينا اليوم، وهي التكنولوجيات الحديثة بمختلف أشكالها وأنواعها، التي يسرت التواصل الآني بتكلفة منخفضة سواء بالخيوط الموصلة أو بدونها أو بالأقمار الاصطناعية، جعلت العالم، مع حلول 2020، يعيش قفزة عملاقة بالمرور إلى استعمال الجيل الخامس 5G من صبيب الانترنيت (débit). فبالرغم من القيمة العلمية والعملية لهذا الاختراع،  تبين، إلى حدود كتابة هاته السطور، أن الدولة المغربية لا تستفيد من هذه الثورة التكنولوجية إلا جزئيا أو بشكل ضعيف، بحيث أن النفقات المالية المخصصة لإكمال تغطية التراب الوطني بهذه الشبكة العنكبوتية، الخارقة للعادة، لا تستغل في غالبيتها إلا في الترفيه وترويج التفاهة والأكاذيب. فسرعة التحميل بواسطة هذه التقنية تضاعفت أكثر من ثلاث مرات مقارنة مع الجيل السابق 4ج (4G)، لتصل على مستويي السرعة والحجم إلى 1 جيكا بايت في الثانية (1 Gigabyte/S). إن اعتماد الموجات الميلميترية ondes millimétriques  العابرة لجدران المنازل والبنايات، أحدث اليوم تطورا خارقا على مستوى التواصل  في توقيت قياسي ومناسب لخدمة البشرية كونيا، بتمكينها من الولوج إلى المعلومات الضرورية لفهم ومعالجة ومواجهة الرجات التي تحدثها ظواهر العصر، أي ظواهر زمن  غموض المستقبل، وعدم القدرة في التحكم في المستجدات (الكورونا كنموذج). فتغليب ثقافة التواصل الافتراضي المفيد في حياة الأفراد والجماعات على الأنماط التقليدية المعتادة، تعليميا وتكوينيا وثقافيا وترفيهيا وفنيا، سيصبح أمرا واقعيا مع مرور الوقت. إن الوصول إلى إمكانية تحميل فيلم تكويني مثلا من 30 جيكا بايت، وتحميل 500 جدادة أو صورة تكوينية في وقتين قياسين، لا يتجاوزا على التوالي ثلاث دقائق بالنسبة للأول  و40 ثانية بالنسبة للثاني، يعتبر اليوم مؤشرا بارزا لشرعنة مرور البشرية إلى عالم جديد، عالم الشاشات المتطورة، والتي يمكن عكسها مستقبلا في الهواء بنقرة على زر محمول.

إن تقييم المبادرات التعليمية المغربية التي قامت بها الوزارة المختصة إلى يومنا هذا في مجال التعليم عن بعد زمن الكورونا، لا يمكن أن لا يساءل الآباء والأمهات في شأن تحويل هذه المبادرات مستقبلا (وهذا حق مشروع لأطفالنا وشبابنا وحتى لكبار السن منا) إلى مشروع كبير للدعم التربوي عن بعد يوازي التعليم وجها لوجه. وعند الحديث عن الدخول إلى هذه الثقافة، نعني بذلك الوصول إلى منعطف يستدعي اليقظة في جميع المجالات، خاصة في التعليم والتكوين والإدارة. فالتعبير عن المعقولية والنبل في التعاطي مع إشكالات التعليم والتكوين، تستدعي الاستجابة للرهانات المستقبلية، وعلى رأسها تعجيل عملية إنجاز مشروع منصة إلكترونية وطنية بتبويب يمكن من الولوج إلى كل المستويات التعليمية، وإلى كل الدروس والتمارين والامتحانات السابقة وحلولها، ولوج يمكن من تحميل الفيديوهات بالصوت والصورة وكذا الوثائق الضرورية وإمكانية طبعها.

بالطبع، التدرج في تحقيق التراكمات في هذا المجال الحيوي يقتضي البدء أولا بالتعليم والتكوين عن بعد غير المتزامن، وذلك من خلال تجهيز قاعة داخل كل مؤسسة تعليمية أو تكوينية مغطاة بالانترنيت ببلادنا بتقنيات وآلات تسجيل الصورة والصوت وبالصبورات الإلكترونية، وإعداد تخطيط وزاري محكم تعطى انطلاقة تنفيذه باستعجال، تحت إشراف السادة المفتشين، والسيدات المفتشات، وأطر التوجيه والبيداغوجيا، ونساء ورجال الإدارة التربوية، وذلك بتكليف كل أستاذ (ة) بمهمة معينة (تسجيل درس بتمارينه وامتحان بحلوله، ……)، وتجميع كل ما تحقق أسبوعيا على مستوى كل نيابة إقليمية، وتثبيته في البوابة الوطنية بعد المصادقة عليه. وهنا، إذا افترضنا أن عدد رجال التعليم ببلادنا يفوق مائتي (200) ألف إطار، فهذا يعني أن في استطاعة وزارة التعليم لوحدها تجميع 200 ألف مادة تعليمية في ظرف زمني وجيز (مادة لكل أستاذ). أما إذا كلف كل واحد من رجال التعليم بإعداد عشر مواد تعميلية ستتمكن الوزارة من تجميع مليونين من المواد في ظرف قد لا يتجاوز بعض الشهور في السنة. ولتحويل هذه المنصة إلى مرجع تربوي وثقافي، يمكن فتح جانب منها، تحت إشراف لجن علمية إقليمية أو جهوية أو وطنية، للإسهامات في مجال الدعم التربوي والأسري، وجانب آخر للثقافة والفنون المختلفة. لقد عرف التكوين المهني تجربة لم تستمر بالشكل المطلوب، ولم تصل إلى مداها، بحيث أعد الأساتذة دروسا وتمارين خاصة بمجمل الوحدات التكوينية ذات قيمة رفيعة، وتقترح سنويا الامتحانات وحلولها في مختلف الشعب التكوينية من طرف كل الأساتذة الرسميين والمؤقتين. والحالة هاته، فالمكتب الوطني للتكوين المهني وإنعاش الشغل يتوفر اليوم على خزان ضخم من الدروس والتمارين والامتحانات والحلول المرتبطة بها، ولا ينقص إلى تحميلها في المنصة السالفة الذكر، وجعلها رهن إشارة الأساتذة والمتدربين وطلبة الجامعات والمعاهد التقنية والتدبيرية.

إن تمكين بلادنا من هذه المنصة زمن تقنية 5 ج (5G) ، وتخزين ملايين المواد التعليمية بها، مع بلورة برنامج دقيق لتطويرها وتحديثها، سيشكل لا محالة تحفيزا قويا للمرور إلى التعليم عن بعد المتزامن من خلال منصة عصرية تعتمد أحدث البرامج المعلوماتية، والتي سبقتنا إليها مجموعة من الدول وجربتها وأكدت وقعها ومردوديتها، خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية. وفي هذا الصدد، تعتبر دولة الإمارات العربية الدولة الوحيدة التي نجحت في زمن الكورونا إلى اعتماد هذا الصنف من التعليم المباشر (المتزامن)، والذي يتضمن كذلك حتى عمليات إجراء المراقبات المستمرة والامتحانات النهائية. أكثر من ذلك، لقد أكدت تجربتها في هذا المجال ضمان مستويات عالية في مجال محاربة الغش إلكترونيا، والسرعة في تصحيح الإجابات أوتوماتيكيا وتخزينها بملاحظات ونقطة الأستاذ المشرف. إنها اليوم تتوفر على بنية تحتية هائلة، وعلى  أحدث التقنيات والبرامج المعلوماتية المساعدة، وعلى إمكانيات بشرية مؤهلة جعلتها تحتل مرتبة الريادة عربيا في هذا المجال. لقد قدمت حكومة هذه الدولة الصغيرة حجما، والكبيرة اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، العطلة الربيعية بأسبوعين، واستثمرت كل إمكانياتها، في إطار مجابهتها ومحاربتها لداء الكوفيد 19، لتمتيع طفولتها وشبابها بما سمته تعميم التعليم الذكي.

 

الكاتب : الحسين بوخرطة - بتاريخ : 19/04/2020