اللوائح المستقلة: انفتاح ديمقراطي أم تفكيك بطيء للحياة الحزبية؟

رحمان فاطنة

لم يأت جواب الدولة على الاحتجاجات الشبابية الأخيرة تعبيرا عن انفعال ظرفي أو محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، بل جاء مؤسسا على منطق دستوري ومؤسساتي، يعكس إرادة تحديث هادئ؛ فقد شكل البلاغ الصادر عن الديوان الملكي إعلانا صريحا عن توجه إصلاحي يروم معالجة الاختلالات في مجالات التعليم والصحة والتشغيل، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، بما يعزز منسوب الثقة ويجدد علاقة المواطن بالمؤسسات.
ومن أبرز هذه الخطوات، تشجيع الترشح الفردي للشباب باعتباره آلية لتجديد النخب السياسية وإعادة الثقة في العمل العام، عبر تحفيز فئة الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم خمسة وثلاثين عاما على المشاركة في صناعة القرار من داخل المؤسسات، لا من خارجها، غير أن هذا التوجه يطرح سؤالا جوهريا: هل يمثل الترشح الفردي مدخلا لتعميق الممارسة الديمقراطية، أم أنه يهدد بتفكيك المشهد الحزبي وإضعافه؟
إن فتح الباب أمام اللوائح المستقلة قد يبدو في ظاهره خطوة ديمقراطية توسع قاعدة المشاركة وتكسر احتكار الأحزاب للعمل السياسي، غير أن باطنها يكشف عن أزمة عميقة في الثقة تجاه العمل الحزبي والمؤسساتي، فإضفاء الشرعية على اللوائح المستقلة في ظل ضعف التأطير والتكوين السياسي يعني في الواقع عودة السياسة إلى منطق الفرد لا منطق التنظيم، وإلى شخصنة الشأن العام بدل تأطيره ضمن تعاقد جماعي واضح، في حين يقوم جوهر الأحزاب على تأطير المواطنين والتعبير عن الإرادة الشعبية حسب الفصل السابع من الدستور المغربي.
إن الديمقراطية لا تختزل في مجرد فتح المجال أمام الأفراد للترشح للانتخابات، بل تقوم أساسا على بناء تنظيمات قادرة على تحويل المطالب الاجتماعية إلى برامج سياسية قابلة للتنفيذ والمساءلة؛ فشرعنة الترشح الفردي في غياب أحزاب مؤطرة لا تعني توسيع قاعدة الديمقراطية، بل تؤدي إلى تفتيت القرار السياسي، وتذويب المسؤولية العمومية، وإضعاف إمكانية المحاسبة السياسية المبنية على البرامج والالتزامات.
إن الديمقراطية الحديثة، منذ نشأتها، لم تبن على الأفراد بل على المؤسسات، والذين يرفعون شعار الاستقلالية المطلقة عن الأحزاب ينسون أن الاستقلال عن التنظيم لا يعني الاستقلال عن المصالح، بل غالبا ما يخفي ارتباطا خفيا أو خضوعا لتأثيرات ظرفية، ومن ثم، فإن النقاش الحقيقي ليس بين «الترشح الحزبي» و»الترشح المستقل»، بل بين إرادة الإصلاح داخل المنظومة ونزعة الهدم باسم التغيير؛ فالأحزاب اليوم مطالبة بإعادة بناء الثقة واسترجاع دورها كفاعل رئيسي في تأطير المجتمع وتجديد الحياة السياسية، حتى لا يفسح غياب الثقة المجال أمام صعود الشعبوية وهيمنة المصالح الذاتية.
لقد أكد الخطاب الملكي في أكثر من مناسبة أن طريق الإصلاح في المغرب يمر عبر المؤسسات، لا من خارجها، وقد رصدت مليارات الدراهم في مجالات التعليم والصحة، وتوسيع آفاق الإدماج الاقتصادي والسياسي للشباب، وهو ما يعبر عن وعي مؤسساتي يعالج مطالب الجيل الجديد بعقلية الدولة الحديثة، التي تتفاعل مع الواقع بواقعية وتدير التحولات وفق منطق مؤطر بالقانون والمسؤولية.
قد تبدو فكرة اللوائح المستقلة مغرية في لحظة ضعف الثقة بين المواطن والأحزاب، لكنها إذا ما تحولت إلى قاعدة، ستفضي إلى مشهد سياسي بلا هوية، ومجالس تدار بالمساومات لا بالبرامج، وبالتحالفات الظرفية لا بالمشاريع الواضحة؛ فالديمقراطية لا تختزل في حق الترشح فحسب، بل هي حق المجتمع في أن يحكم ببرامج واضحة ومسؤولين خاضعين للمساءلة والمحاسبة.
إن الترشح الفردي لا يشكل خطرا على الديمقراطية متى كان مؤطرا بالقانون؛ لكنه يصبح عامل تفكيك حين يستعمل لتجاوز دور الـأحزاب ؛ فالأحزاب، رغم ما يعتريها من أعطاب، تبقى الإطار القادر على بلورة الإرادة العامة وصياغة البرامج وضمان استمرارية الفعل السياسي، ولذلك، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن في تحرير السياسة من الأحزاب، بل في تحرير الأحزاب من عللها، عبر مراجعة أساليب عملها، والانفتاح على الكفاءات، وصياغة خطاب سياسي جديد ينسجم مع تحولات المجتمع. فالإصلاح لا يتحقق بتمزيق نسيج التنظيم الحزبي، بل بإعادة خياطته. نحتاج أحزابا قوية تعيد الاعتبار للفكر السياسي، وتستعيد دورها كجسر بين الدولة والمجتمع، لا كجدار يفصل بينهما.
وختاما، لا يمكن لأي إصلاح سياسي أن ينجح خارج منطق الدولة الحديثة التي تستمد شرعيتها من الدستور، وتوازن بين الحرية والتنظيم، والمشاركة والانضباط، والمغرب، في هذا السياق، يقدم نموذجا متميزا في كيفية الإصغاء للمجتمع والتفاعل معه بعقلانية مؤسساتية تعزز مسار الإصلاح وتؤكد نضج التجربة الديمقراطية الوطنية.

الكاتب : رحمان فاطنة - بتاريخ : 25/10/2025