المؤسسات لا تكفي، لا بد من ذهنية احترامها

حسن السوسي

 

هناك علاقة جدلية حية، بين مطلب إصلاح المؤسسات وبين إصلاح الذهنية المدعوة للفعل داخل هذه المؤسسات،لأن بناء مؤسسات حديثة عديم الجدوى، ما لم يواكبه منطق حديث في مقاربة شؤون التنظيم والمجتمع، انطلاقا من القواعد التي رسمتها تلك المؤسسات، وفِي تفاعلها مع غيرها من مؤسسات المجتمع. ذلك أن الانتماء الحزبي اختيار فردي حر يقدم عليه المواطن الراشد في ظروف محددة من حياته، غير انه يصبح مسؤولية جماعية فور استكمال شروطه الأساسية الأولى. وكل مسؤولية تعني تأطيرا للفعل وتقييدا له، بما يخدم المؤسسة الحزبية ضمن تصورها لخدمة المجتمع الذي تشكلت أساسا لخدمة مصالحه العليا منظورا إليها من تصور محدد للتاريخ والواقع والمستقبل الذي تنشده لهذا المجتمع على مختلف المستويات. وبما أن المؤسسة آو المؤسسات الحزبية هي الإطار الجماعي الذي تتفاعل فيه إرادات وتصورات المواطنين المنتمين إليها بمختلف خلفياتهم الاجتماعية، فانها تعكس بالضرورة حلبة ذلك التفاعل الأولى، ضمن عملية متواصلة من الحوار الهادئ أحيانا، والأقل هدوءا أحيانا أخرى،كما انه قد يتحول إلى صراع حاد للأفكار والتصورات السياسية، في بعض المراحل السياسية أو التنظيمية المفصلية، بهدف تطوير عمل تلك المؤسسات وجعلها تواكب مختلف التطورات التي يعرفها المجتمع والتي تفعل فيها هي كذلك فعلها الايجابي أو السلبي وفقا لطبيعة تفاعل المؤسسة الحزبية معها في ظرف سياسي أو تنظيمي معين.
وبطبيعة الحال، فإن المؤسسة الحزبية تضع بصورة قبلية، واستنادا إلى دروس تجاربها الخاصة وتجارب المؤسسات الحزبية المماثلة، في الداخل والخارج معا، ضوابط لذلك الحوار والتفاعل والصراع بين إرادات أعضائها بغاية تمكينهم من أقصى شروط الحرية للتعبير عن آرائهم في مختلف المشاريع الإيديولوجية والسياسية التي تطرح على جدول الأعمال على مستوى الدعاية كما على مستوى الإنجاز على اعتبار أن خلاصات تجاربها، المباشرة وغير المباشرة، عامل أساسي مساعد في مجال اقتصاد الجهد والزمن والتركيز على القضايا ذات المردودية السياسية والتنظيمية الإيجابية على المستوى الحزبي والمجتمعي أي على مجمل الممارسة السياسية بمختلف أبعادها في البلد المعني. قد يقال: إن الانتماء وإكراهاته الكثيرة والمؤسسات ومختلف القوالب التنظيمية تحد من المبادرة الحرة وإبداع الأفراد، وقد يؤدي كل ذلك، في ظروف معينة، إلى تضييق الخناق على حركة أعضاء تلك المؤسسات ووأد كل مبادرات الإصلاح والتغيير داخلها،الأمر الذي يعطي لكل ممارسة تهدف إلى القطع مع تلك القيود والتحرر من اكراهاتها شرعيتها السياسية والأخلاقية والتنظيمية أيضا. وهذا صحيح من حيث المبدأ العام وخاصة في الحالة التي تستخدم فيها بعض الشكليات التنظيمية لمنع الحوار الداخلي والمشاركة في اتخاذ القرار أو يتم داخلها منع التعبير عن الرأي المخالف والدفاع عنه وفق مقتضيات المنهجية الديمقراطية التنظيمية الداخلية التي ينبغي الاحتكام إليها في التعامل مع التباينات في الرأي وحسم الخلافات بما يمكن المؤسسات الحزبية من الانتقال من مرحلة النقاش إلى مرحلة اتخاذ القرار والعمل على إنجاز المهام المطروحة على جدول الأعمال. وهذا يعني أن احترام الضوابط التنظيمية التي تشكل احد القواسم المشتركة بين أعضاء المؤسسة الحزبية على اختلاف مواقعهم في أجهزتها التسييرية أو تنظيماتها القاعدية أو الموازية جزء لا يتجزأ من الانتماء الاختياري غير القابل للتجاهل، سواء عند الاتفاق أو عند الاختلاف على القرارات التي يتم اتخاذها في مجال التوجيه أو التدبير في مختلف مجالات الممارسة. إذ ليس خافيا على أحد أنه لا مجال لضمان التقدم خارج وضع إطار محدد لتلك الممارسة في أي مجال من المجالات. وإذا تم اعتبار العمل الحزبي أحد هذه المجالات وهو كذلك بامتياز، فليس ممكنا تحقيق مكتسبات ومراكمتها خارج الأطر الحزبية أو المؤسسات الحزبية التي تؤول إليها مهمة تحديد التوجهات ومساءلة الممارسات الفردية والجماعية على حد سواء. غير أن الواقع قد برهن في مختلف التجارب السياسية الحزبية أن بعض الممارسين يحاولون تجاوز تلك الأطر والمؤسسات، خاصة إذا اعتبروا أنها لم تنصفهم آو أن أفكارهم متقدمة بما لا يقاس على الضوابط التي تفرضها المؤسسات وقوانينها الداخلية، معتقدين أن التمرد عليها هو السلوك الوحيد القادر على جعل المؤسسات تلتفت إلى آرائهم أو مواقفهم بعد القيام بكل المحاولات داخلها، وبالتالي، فإنه لم يعد أمامهم غير التحرك خارجها. وهذا موضوع آخر تماما لأن التأسيس في هذه الحالة لنشأة تنظيم آخر بديل هو الذي يضع نفسه على جدول الأعمال.
وبطبيعة الحال، فإن للمؤسسة الحزبية منطقها وروحها، لذلك فهي لا تقبل ما يتناقض مع هذا المنطق وما لا يتلاءم مع هذه الروح من الأساليب والممارسات ،سواء على مستوى بلورة تصورات للممارسة آو على مستوى تدبير الاختلاف بين أعضائها آو مؤسساتها التنظيمية.
وإن الارتباك والشلل والنكوص، هو النتيجة الوحيدة المباشرة أو غير المباشرة لعدم الالتزام بمقتضيات مبادئ ومنطق وروح المؤسسة. وليس الأمر هنا مرتبطا بالضرورة بوجود نوايا غير صادقة أو مخططات مناوئة من خارج المؤسسة الحزبية، إذ يكفي أن تتخذ ممارسة الأعضاء منحى متعارضا مع قوانين وأعراف العمل التنظيمي، بهذه الذريعة أو تلك الحجة، حتى يتم مسلسل تدمير مكتسبات المؤسسة الحزبية التي يتحول المنطق المتحكم في ممارسة أعضائها إلى سلسلة من ردود الفعل غير المنضبطة بقانون ولا عرف كما عاشت ذلك جل الأحزاب السياسية المغربية في فترات معينة من تاريخها وكان للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية النصيب الأوفر منها.
إنه في سياق احترام منطق المؤسسات والالتزام بالمبادئ الحزبية من قبل الأعضاء، منفردين وضمن هيئات مسؤولة معا، يمكن إعادة النقاش السياسي داخل الاتحاد الاشتراكي إلى سكته الطبيعية، خاصة في هذه المرحلة المصيرية من تطوره السياسي والتنظيمي، والتي لا تقبل العودة إلى العبث الذي ساهم في ضياع فرص التغلب على صعوبات الممارسة الحزبية في أجواء مناوئة في كثير من الأحيان.
إن الحوار والنقاش السياسي داخل الأحزاب السياسية أمر صحي، لأن الحزب الذي لا يعرف نقاشا هو حزب زائف إن لم يكن ميتا. فهو زائف لأنه ليس سيد نفسه ويربط كل أموره بهذه القوة أو تلك التي تملي عليه كل شيء وهو في أحسن أحواله واجهة لغيره. وهو ميت لأنه لا يمكن تصور كل الأعداد الهائلة من المنخرطين فيه على رأي واحد، في كل حين.
غير أن ازدواجية السلوك في التعامل مع مؤسسات الحزب السياسي، حيث يتم التعايش داخل المؤسسات، بل ويتم اتخاذ القرارات بالإجماع في مرحلة ما ثم محاولة قلب الطاولة من جديد من خارج المؤسسات بدعوى عدم الاتفاق مع هذا السلوك أو ذاك ينم في أحسن أحواله عن ارتباك في التكييف بين حرية التعبير والمبادرة وبين الالتزام الفردي والجماعي بمنطق المؤسسة وضرورات الممارسة. وفِي كل الأحوال فإنه لا يكفي أن تكون لدى الحزب مؤسسات حديثة بل ينبغي أن ينخرط الفاعلون الحزبيون في ثقافة ومنطق المؤسسة الحديثة لضمان التقدم لممارسته.

الكاتب : حسن السوسي - بتاريخ : 19/04/2017