المحاماة ومفترق الطرق.. أسئلة مقلقة مطروحة على المحاماة المغربية في الذكرى المئوية لصدور أول ظهير ينظمها

محمد المموحي (*) 

أجواء القلق والتذمر السائدة في المشهد المهني منذ تولي هذه الحكومة مسؤولية تدبير الشأن العام هي طبعا مظهر من مظاهر الأزمة التي تعيشها البلاد في مستويات أخرى وبدرجات متفاوتة  .
التوجه السياسي «الليبرالي «الذي أنتج هذه الأزمة ورهن مقدرات البلاد إلى المؤسسات البنكية والمالية الدولية من خلال القروض والديون التي تجاوزت حدود 60 %من الناتج الوطني، وهو مستوى غير مسبوق في السياسة المالية للدولة ، هو نفسه التوجه الذي خصص حيزا أساسيا لوضع قوانين مهيكلة للحقوق والحريات وطرق التقاضي والولوج إلى العدالة، وكلف بذلك كائنا سياسيا « استثنائيا « نصبه « محاميا» وكلفه بمهمة التصدي لمروق المحاماة وتطويعها، حتى لو اقتضى الأمر وضعها في الزاوية الحادة الهامشية في منظومة العدالة للتخلص من إزعاجها التاريخي الذي نشأ مع تأسيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وموقعها من أول دستور للمملكة 1962 ، حينما كانت المحاماة في طليعة النضال السياسي والحقوقي مناضلة من أجل الدولة الديموقراطية وفصل السلط واحترام الحريات الأساسية التي جاءت بها أول حكومة وطنية بقيادة المجاهد عبد الله إبراهيم رحمه الله.
في هذا السياق الوطني المقلق طرح وزير هذا التوجه الليبرالي ترسانة من القوانين المهيكلة لمنظومة العدالة وطرح فلسفته ومرجعيته في قواعد المسطرة المدنية، التي أجمعت كل القوى الحية الحقوقية والمدنية والأكاديميين ومجمل مكونات العدالة على أنها ماسة بالمبادئ الدستورية المرتبطة بالأمن القانوني والقضائي، وماسة بالمكتسبات الحقوقية التي تراكمت في البنية القانونية للبلاد بفضل نضالات هذا الشعب العريق والعظيم، كما عمد قبل ذلك إلى تسريب مسودة لمشروع قانون المحاماة الذي استهدف به استقلالية رسالة المحاماة وتحويلها إلى مجرد مؤسسة خدماتية تحت الطلب.
الآن، ومع الدخول السياسي والاجتماعي، خرج، في اجتماع مجلس الحكومة، منتشيا بانتصار التصديق السياسي على مشروع المسطرة الجنائية، وهو يعلم علم اليقين أنه يتوفر على أغلبية حزبية برلمانية، جاهزة وموالية تنتظر، فقط، الضغط على زر آلة التصويت لتمارس دورها في هذا التغول السياسي والتشريعي الذي نعيشه مع هذه الحكومة الليبرالية ،
في سياق هذه القوانين المهيكلة لمنظومة العدالة والمؤطرة لبعض أهم جوانب أدوار رسالة المحاماة في شروط وضمانات المحاكمة العادلة والأمن القانوني وصيانة الحقوق والحريات والمساواة أمام القانون وأمام القضاء وإشاعة ثقافة النزاهة والثقة في مؤسسات القضاء والعدالة عموما كقطب جاذب ومحفز للاستثمار لتقوية النسيج الاجتماعي وتحصين صورة مؤسسات الدولة وجعلها قادرة على الانخراط في كل تنافسية دولية في خضم التحولات العالمية الجارفة التي لا ترحم.
هذا جزء من الإطار والسياق الذي يتميز به الدخول الاجتماعي بالنسبة لهيئات المحامين بالمغرب، ولمكتب الجمعية، وهو السياق الذي يتزامن مع تخليد المحامين المغاربة للذكرى المئوية لصدور أول ظهير ينظم مهنة المحاماة بالمغرب في يناير من سنة 1924 .
وهي مناسبة، في تقديري، تقتضي منا جميعا مؤسسات مهنية وفعاليات مختلف التوجهات ونساء ورجالات هذه المهنة، أن نقف وقفة تأمل مع الذات واستحضار كل التراكمات العظيمة التي شيدها الرواد بتضحياتهم وإيمانهم الراسخ بقيمها وأعرافها وشجاعتها في الذود عن مبادئها الكونية، وصدحوا بالجهر بالموقف في وجه المستعمر المحتل كما واجهوا الاستبداد والظلم والتعسف دون خوف ولا تردد، ولم يكن الأمر سهلا كما قد يتوهم العديد من المتوهمين، حيث كانت المحاماة في قلب حركية المجتمع تقود الحركة الحقوقية والفعل السياسي في الأحزاب السياسية وفي البرلمان كما في المجتمع المدني، لكن اليوم ليس كالأمس، اليوم شهدت المهنة تحولات عميقة في بنيتها الاجتماعية، كما شهدت منظومة القيم تحولات نوعية غير مسبوقة، ولم تعد تقاليد المهنة وآدابها بتلك الحمولة التي كانت عليها في مراحل الثمانينيات والتسعينيات، كما أن لأجيال الشباب الذين ولجوا المهنة واقع جديد مختلف عن السابق، وهذا طبيعي وموجود في كل التجارب الإنسانية، وهذه سنة الحياة وجدلية التطور الموضوعي في بنية المجتمع وتشكيلته المهنية، وهذا الواقع الجديد يضع المحاماة في مفترق الطرق، إما أن تكون قوية ذات شأن في المجتمع وتلعب أدوارها الحقوقية في منظومة العدالة، وهذا يقتضي أن تقوي نفسها بنفسها بإعادة الاعتبار لقيم النزاهة والثقة والشفافية داخل مؤسساتها المهنية وإشاعة ثقافة المسؤولية، أو تصير مهمشة ومجرد مهنة خدماتية كسائر المهن الموجود في المكونات التي تشتغل في المحاكم ، وكثير من مراكز القرار تسعى إلى حشر المحاماة في هذا الموقع، وبدأت تشتغل عليه استنادا إلى مرجعية توصيات إصلاح منظومة العدالة من قبيل :
صناديق الودائع،حضور النيابة العامة في المجالس التأديبية ،
إحداث المجلس الوطني للمحاماة…حتى يصير تنظيم هيئات المحامين مثل تنظيم الأطباء والصيادلة والموثقين،
وآنذاك لا تبقى إلا الصلاة على استقلالية المهنة وعلى رسالة المحاماة .
حقيقة الوضع أصعب مما يمكننا أن نتصور، فهو يحتاج إلى التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وبالسرعة المتناسبة مع هذه التطورات المتسارعة التي تستهدف استقلالية المهنة ورسالة المحاماة التاريخية.
أعتقد أن الخطوة التي دعا إليها السيد رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب، بعقد اجتماع لمكتب الجمعية في الأسبوع الأول من شهر شتنبر ، هي فرصة مناسبة لفتح نقاش صريح وعميق لمواجهة هذه الرهانات العصيبة المنتظرة، وأعتقد أن صياغة أي برنامج عمل للمستقبل يستلزم أن يكون من خلال الدعوة إلى عقد اجتماع لمجلس الجمعية الذي هو بمثابة المؤتمر العام لعموم المحاميات والمحامين المغاربة، وهو الإطار المؤسساتي الديموقراطي الذي عليه أن يقوم بأدواره النضالية في هذه اللحظة العصيبة، ويصوغ مختلف الأجوبة عن التحديات المطروحة، ويبلور من خلالها مختلف الأشكال النضالية الممكنة والعقلانية .
كما بالتوازي مع هذا الطرح لابد من الانتباه إلى مجمل الأعطاب الكامنة في مؤسساتنا المهنية والعقليات المهيمنة على تدبيرها، والتي تبقى أسيرة لخلفيات انتخابية متعصبة لمنطق الولاء، وهو ما نجده واقعا في التسيير المالي للهيئات وتدبير ملفات تحديد الأتعاب والمتابعات التأديبية إلى العديد من مظاهر القصور التي يتعين معالجتها وتجاوزها لتصحيح المسار، وفي مقدمة ما يتعين الإسراع في إصلاحه وتطويره القوانين والأنظمة الخاصة بجمعية هيئات المحامين بالمغرب ومجلسها الوطني، وتفعيل أدواره بإشراكه، على الأقل، في مختلف الهيئات الوطنية للجمعية، وهي عديدة وجامدة ومؤطرة بلوائح ونظام داخلي يعود إلى مرحلة الحرب الباردة لا علاقة لها بالأساليب الديموقراطية الحديثة التي تستوعب مختلف الطاقات والفعاليات التي تزخر بها الهيئات الوطنية.
فالوقت قد حان، وهو لا يرحم، ويفرض علينا أن نستوعب التحولات المجتمعية العميقة التي عرفتها بلادنا ومؤسسات الدولة، ومنها السلطة القضائية كمؤسسة قوية في النظام السياسي والقانوني في البلاد، وقوة النيابة العامة التي لم تعد تخضع لأية رقابة لا سياسية ولا قضائية ولا برلمانية، وهو ما ورد جليا في مشروعي المسطرة المدنية والجنائية.
وهو الواقع الجديد الذي يتعين استيعابه والانطلاق منه في التحليل لتقوية الذات المهنية، ولهذا نجد المحاماة اليوم في مفترق الطرق، إما أن تقوي ذاتها برجالاتها ونسائها وبمنظومة القيم التي تعيد الاعتبار للنزاهة والمسؤولية والشفافية في التدبير وفي الشجاعة والجرأة في مواجهة كل مظاهر النكوص في التشريع وفضح الفساد والريع والتصدي له بمختلف الأشكال القانونية والنضالية، وإما أن نقبل بمحاماة خدماتية مهنية في فضاءات المحاكم والحضور في الجلسات والمساطر القضائية الواجبة وكفى!
وطالما أن المحاماة هي صنو للفضيلة ودرع للحرية وحصن منيع للدفاع عن الحقوق وسيادة القانون، فهي راسخة وستبقى كذلك مستمرة شامخة بنسائها ورجالاتها ومؤسساتها الديموقراطية كي تواصل أدوارها في البناء القانوني والقضائي، وتعود إلى طليعة قوى الحرية والديموقراطية.
هذا هو قدرنا ولن نحيد عنه أبدا.

 (*)  محام بهيئة تطوان 

الكاتب : محمد المموحي (*)  - بتاريخ : 02/09/2024

التعليقات مغلقة.