المعنى في أن تكون يساريا في مغرب اليوم
فتح الله رمضاني
لم يكن الانتماء إلى اليسار، أبدا مرادفا في معناه للثورة، بالرغم من أن جل الثورات كان محركها أناس ينتمون إلى اليسار، أو أن جل الثورات أنتجت قادة ينتمون إلى اليسار، لقد كان اليسار لا يعني غير التغيير، المستند أساسا على إحساس فردي وجماعي بالغبن، و المدرك إلى ضرورة تغيير واقع معين، فالانتماء إلى اليسار بهذا المعنى، كان دائما مرتبطا بالواقع، بشكل يهدف إلى تغييره، لهذا لم تنجح كل الثورات، بالرغم من أنها استطاعت تغيير أنظمة الحكم في بلدانها، لكن فشلها كان مقرونا بالفشل في تحقيق التغيير، و في ضمان نجاح الصيرورة الثورية، أي ضمان استمرارية التغيير، المرتبط دائما بالواقع، فحسن تحليل الواقع قبل الثورة، لا يعني نجاعة تحليله بعدها، فالواقع متغير، بتغير شروطه، ومن الغباء التعاطي مع واقع معين، بنفس ميكانزمات تحليل واقع آخر، هي قاعدة غير مرتبطة بالثورة، لكنها مرتبطة بالتغيير مهما كانت دوافعه و مسبباته.
لقد كان الانتماء إلى اليسار، بادئ الأمر مقرونا بالموقع، المرتبط بالموقف السياسي، الرافض لتمركز السلطة في يد مؤسسة واحدة، وصار بعدها، أو انضاف إليه بعدها، كل حامل للفكرة التقدمية المرتبطة بالنص الديني، وضم كذلك، كل مدرك لسلبيات الاستغلال بكل تمثلاته و صوره، ليصير هكذا مرتبطا بالاشتراكية وبالتقدمية، كفكرة تهدف إلى تحقيق التغيير، وبالرغم من اختلاف أساليب و استراتيجيات المنتمين إلى اليسار، إلا أنهم لا يفترقون حول ضرورة تغيير شروط الواقع إلى شروط أحسن، حتى يؤسسوا لواقع جديد، غير الذي أنتجهم. في المغرب، ارتبط الانتماء إلى اليسار، بالحركات التي شكلت استمرارا لحركة التحرر الوطني، والتي كونت حركات مناضلة من أجل الديمقراطية، ثم من أجل العدالة الاجتماعية، في أشكال موحدة ضد الاستغلال، الذي كان عنوانه الاستعمار قبل الاستقلال، والتسلط بعده، أشكال كانت مختلفة حول الآليات و الأساليب المتبناة لمناهضة صور الاستغلال، لكنها كانت مجتمعة حول آلية تشخيص موحدة للواقع المغربي، آلية جعلت الطبقة المتوسطة حاملة لفكرة التغيير، وجعلت كل رافض للتغيير في موقع المناهض لليسار، وهذا هو التقاطب الكلاسيكي، الذي حكم الفعل السياسي بالبلد، هكذا يسار يناضل من أجل التغيير، و يمين يقاوم للحفاظ على سكينة الواقع، أو يراهن على تدرج بطيء لكل صور التغيير فيه. تقاطب ظل يفرض نفسه، كآلية سليمة للفرز، ولم يتأثر بأهم المتغيرات السياسية التي عرفتها البلد، حتى حكومة اليوسفي، ومشاركة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في تدبير الشأن العام، لم تكن دافعا للشك في نجاعته كآلية وكتحليل، بالرغم من أنها أثارت نقاش الضمانات، المرتبط أساسا بهامش اختصاصات المؤسسات، والمؤسس على جعل هامش كل سلطة مرتبط بسيادة و قرار الشعب. لكن الأكيد، أن دينامية الشارع المغربي، والتي تمثلت في حركة 20 فبراير، وما تلاها من أحداث، أهمها الدستور الجديد، وتحمل حزب محافظ إسلاموي مسؤولية تدبير الشأن العام، في تجربة جعلت العلاقة بين النص القانوني، ومستوى الإيمان بالمبدأ وبالحق الذي أسس لذلك النص، تحت مجهر المساءلة، وأثارت من جديد، العديد من الأسئلة المرتبطة بمداخل التغيير وبمخرجاته، خصوصا تلك المرتبطة بالديمقراطية؛ الديمقراطية كآلية للتداول السلمي على السلطة من جهة، أو من جهة أخرى، كمنظومة من المبادئ التي توجهها وتستتبعها كتصور عام، أو بعلاقة الديمقراطية بالمجتمع، فهل هي غاية في حد ذاتها، بمعنى أن الاحتكام إليها كآلية شرط كاف لإحقاقها؟ أم أنها وسيلة وفقط؟ وسيلة لا يمكن الحكم على صحتها، إلا بصحة نتائجها، أم هي وسيلة و غاية في نفس الوقت؟ بمعنى أنها آلية وجب الاحتكام إليها، بشكل يفضي إلى جعلها قنطرة للتغيير، ولاستنبات مجموع القيم التي تصاحبها، فلا تصح هي إلا إذا شاعت القيم الأخرى التي تصاحبها، ثم هل يمكن الحديث عن دمقرطة الدولة من دون مجتمع ديمقراطي؟ أو هل غياب هذا المجتمع، لا يؤثر فيها وفي نتائجها؟
هي أسئلة أثارتها الطريقة التي دبر بها الحزب الإسلاموي الحكومة السابقة، وجعلتها أسئلة مقلقة، نتائج السابع من أكتوبر الأخير، الذي نتجت عنه خريطة سياسية مشوهة، غير مضبوطة لأي معيار، إلا معيار تيه سلوك الناخبين، وهي الأسئلة التي لا تعني، إلا ضرورة الإيمان، بأن الصراع اليوم في المغرب، هو صراع مجتمعي، بين تيار محافظ، لا يؤمن بالديمقراطية، إلا في شكلها المادي، كآلية وكتمارين، وبصورة تلغي عنها كل القيم التي تستتبعها، كالاختلاف، و التحديث، و الحداثة، ما يعني أنه يلغي عنها غاياتها، وبين تيار حداثي، يرى الديمقراطية كمنظومة قيم، لا تقاس صحتها إلا بمدى قدرتها على تكريس الإيمان بكل تلك القيم.
ولأن الانتماء إلى اليسار ارتبط دائما بالغايات، أي بالتغيير، فقد أصبح من اللازم اليوم، التفكير في إعادة الفرز داخل المشهد السياسي المغربي، الذي تأسس دائما على يسار و يمين، يسار مناضل طامح، ويمين رافض؛ التفكير في إعادة تأطير الانتماء إلى اليسار، ومعنى اليسار في المغرب، وبشكل يحفظ له النضال من أجل التغيير؛ التفكير في بناء تقاطبات جديدة، يفرضها الواقع اليوم، ليصبح هكذا الانتماء إلى اليسار في المغرب، مرتبط بالحداثة، وبمناهضة الفكرة المحافظة.
الكاتب : فتح الله رمضاني - بتاريخ : 26/04/2017