الملك يريد العمل مع الكفاءات
عبد السلام المساوي
ولخطاب الملك في النفس وعليها وقع خاص .خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش خطاب هام للغاية ، أتى في لحظة انتظار قصوى ورد بالنقط المحددة على الأسئلة العالقة ، وقدم بداية الحلول التي يجب ان يشتغل عليها المعنيون بها ، كل حسب دوره الدستوري المحدد بشكل واضح لا يقبل لبسا الا لدى من يريدون إدامة اللبس لعدم الاشتغال .
خطاب منسجم ومكمل لخطب جلالة الملك محمد السادس في الآونة الأخيرة ، خطب تتميز بسمات جديدة لم يألفها المواطن من قبل ولم يتعود عليها ذوو المناصب والمحتكرون للثروة والسلطة …خطب متجددة وحداثية تتماشى وروح العصر ، بل وتحمل في طياتها حمولات سياسية واقتصادية واجتماعية بلغة سلسة واضحة يفهمها ويتذوقها الجميع .
لقد أسس خطاب 9 مارس 2011 لانتقال سياسي استجابة لصرخات الانسان المغربي والزخم الذي جسده حراك 20 فبراير للمطالبة باصلاحات سياسية داخل الاستمرارية ، بينما يؤسس خطاب 29 يوليوز لانتقال في النموذج الاقتصادي الذي يخدم الانسان المغربي استجابة لنبض الاحتجاجات المتكررة في ربوع الوطن .
خطاب قوي ، صريح ، حاسم وصارم وجريء…مغرب اليوم يختلف عن مغرب الأمس اختلافات الكون كلها ، وحده شيء أساسي مازال ثابتا في النبض : حب الوطن وخدمة المواطن .
خطاب العرش توسل حقلا دلاليا معظمه يدور حول الانسان والمواطن المغربي ، تم توزيعه على كل محاور الخطاب بدءا بتقديم الحصيلة لعشرين سنة من الحكم ، قوامها ملكية مواطنة تعتمد قانون القرب من المواطن ، مرورا باعتراف عدم شعور المغاربة بثمار المنجزات ، وانتهاء بجعل هدف تحسين ظروف عيش المواطنين البدء والمنتهى لكل تخطيط وتنفيذ وسلوك .
لم يختر محمد السادس النصف المملوءة من الكأس للاحتفال بمنجزات عشرين سنة من الحكم ، بل اختار النصف الفارغة وركز على نبض الحركات الاحتجاجية وتشكي المغاربة من أوضاع اجتماعية صعبة . توسل جملة باذخة بالانسانية ليقول للمغاربة ان قلبه يعتصر ألما لاستمرار الحاجة والخصاص لدى النزر القليل من المغاربة ، فاتحة شراع الأمل لتجاوز هذا الوضع عبر تشريح شجاع لمعيقات هذا الطموح ، بدءا بالمؤسسات والأفراد والعقليات ، معتبرا ان بناء النموذج التنموي يحتاج تشخيصا واقعيا مهما كانت قساوته ، ويحتاج قبل كل ذلك لعقلية ودماء قادرة على الخلق والابداع ، منتقدا القطاع العام وآلياته الباردة في التجاوب مع طموح التحديث والتغيير .
التحديث والتغيير سيتم من داخل ثلاثية متلازمة تقوم على التبسيط والنجاعة والتخليق ، من داخل استمرارية لما هو صالح من التصورات والادوات ، ولذلك يقدم الملك اجابات مترابطة لعتبات تبني هذا النموذج ، بدءا من تحفيز المؤسسات القائمة ، وعلى رأسها الحكومة ، للقيام بمبادرات لتجويد ادائها وضخ دماء قادرة على تمثل النموذج التنموي المأمول ، مرورا بالمؤسسات العمومية المعنية بالاستثمار والخدمات لتغيير جلدها المترهل ، عبر منح الكفاءات فرص قيادة التغيير داخل دواليب الادارة والمؤسسات .
يقول صاحب الجلالة : ” فالمرحلة الجديدة ستعرف إن شاء الله ، جيلا جديدا من المشاريع . ولكنها ستتطلب ايضا نخبة جديدة من الكفاءات ، في مختلف المناصب والمسؤوليات ، وضخ دماء جديدة ، على مستوى المؤسسات والهيات السياسية والاقتصادية والادارية بما فيها الحكومة . ”
خطاب العرش كان قويا ، صارما ، صريحا ، لم يكتف هاته المرة بقوله ” نحن نريد سماع الحقيقة كاملة عما يجري في بلادنا وان كانت قاسية ومؤلمة ” ، لم يكتف هاته المرة بقولها مثلما هي للمسؤولين والمواطنين ، بل مر الى اقتراح البديل والى وضع المرحلة الجديدة للبلاد عنوانا للقادم .
المغاربة الذين يقولونها بكل اللغات عن تبرمهم ومللهم من وجوه بعض المزمنين الذين لا يريدون الرحيل ، سمعوا ملك البلاد يقول بأن الحاجة ضرورية اليوم لكفاءات ووجوه وطاقات جديدة ….ان هذا الملك يريد العمل ، ويبحث عن الصادقين للعمل معه .
لا ننكر ان العثور على هؤلاء الصادقين هو عملة صعبة في زمننا هذا …ولكن نعرف ان المغرب هو بلد كفاءات ، وبلد شباب ، واخرين أقل شبابا قادرين على ابداع كل الطرق والحلول للنهوض ببلادهم والسير معها جنبا الى جنب في كل مراحلها ، واساسا في مرحلتها الجديدة المقبلة .
ان قدر المغرب ليس ان يبقى رهينة الذين يقفلون على الكفاءات وعلى الشباب منافذ الطموح والمسؤولية في بلادهم . وهم الذين يجعلون الشعب يتصور ان المناصب حكر على نوع واحد من المسؤولين هم ومن ينتسب اليهم ان بقرابة حقيقية او سياسية او حزبية او مصلحية . وهم من جعلوا المناصب وسيلة اغتناء عوض ان يجعلوها وسيلة خدمة للمواطنين والمواطنات . وهم سبب حقيقي من اسباب بقاء المغاربة غير مستفيدين من كثير الاصلاحات التي وقعت في البلد ، رغم اهمية هاته الاصلاحات وثوريتها وعدم تحققها في بلدان أخرى ….
هناك اقتناع ، هناك توافق بين الملك وبين شعبه ؛ ان الحاجة ماسة الى الوجوه الجديدة ، والكفاءات الحقيقية الجديدة ، والطاقات الشابة التي يمتلئ بها خزان هذا البلد حد الابهار .
وهذه المرة كانت واضحة اكثر من المرات السابقة ، وتقول باسم الشعب وباسم الملك معا ان الحاجة ماسة لضخ الدماء الجديدة في العروق ، التي لم تعد تستطيع الاشتغال بشكل سليم …ان المسألة تهم مستقبل بلد بأكمله .
خطاب 9 مارس 2011 قدم وصفة لأفق دستوري بدون سقف ، وطالب الفاعلين بابتكار الوسائل الخلاقة لتجسيد روح ما اقترحه خطاب 9 مارس ، وخطاب 29 يوليوز يكرر التجربة بآليتها وأفقها ، والمطلوب ان يكون لكل الفاعلين الذين حضروا في الخطاب الشجاعة للابتكار عوض الركون للمحافظة التي قيدت الأفق المفتوح الذي وضعه خطاب 9 مارس في متناول المغاربة ، ولا مجال للمجاملة لأن الخطاب يبحث عن الابرة التي تخيط ثوب التنمية البهي داخل اشواك التشخيص والاقتراح .
الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 03/08/2019