المهدي بن بركة: بين الذاكرة والتاريخ -1-
ذ. عبدالحي أزرقان *
يتعلق الأمر في هذا المقال بقراءة كتاب الأستاذ موريس بوتان:» الحسن الثاني، ديغول، بن بركة، ما أعرفه عنهم». وكان الدافع إلى القراءة مشاركتي في ندوة نظمت بمدينة فاس بحضور المؤلف، في إطار إحياء الذكرى التاسعة والأربعين لاغتيال المهدي بن بركة، أحد رموز الحركة الوطنية المغربية، و»دينامو» الحركة المناهضة للاستعمار وطنيا وعربيا ودوليا.
بعد مرور سنة على تقديم هذه المداخلة حصل حدث هام له علاقة بالموضوع، وهو أخذ عبدالرحمان اليوسفي مبادرة تنظيم ندوة لإحياء ذكرى مرور خمسين سنة على الاغتيال. أقول حصل حدث هام لأن الندوة تمت خارج الإطار الحزبي، وتلقى فيها المشرف على تنظيمها، رفيق وصديق الضحية، رسالة من جلالة الملك محمد السادس تكفل بتلاوتها الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي نفسه. هكذا ارتأيت أن أجمع في المقال بين مداخلتي وبعض الدلالات القوية التي حملها هذا اللقاء الذي كان في نظري مفاجئا من حيث الشكل والمضمون معا.
إن طبيعة ندوة الرباط هي التي جعلتني أختار عنوان: «المهدي بن بركة بين الذاكرة والتاريخ». سيتضح هذا الاختيار للقارئ عبر اطلاعه على تفاصيل النص، وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن الأستاذ موريس بوتان بذل جهدا كبيرا للكتابة عن بن بركة اعتمادا على الذاكرة وللإبقاء على القضية حاضرة في الذاكرة؛ في حين يسعى منظمو ندوة الرباط إلى العمل على إخراج القضية من الذاكرة لإلحاقها بالتاريخ عبر تحديد بعض الأفكار التي سيسمح العمل وفقها بإنجاح هذه المسألة.
قرأت كتاب موريس بوتان وأنا أتساءل عن الجوانب التي ينبغي أن أقدمها (أو يمكن أن أقدمها) في لقاء خاص بإحياء ذكرى متصلة بالاغتيال السياسي. تساءلت عن طريقة التعامل مع الكتاب للتمكن من تقديم مقال مناسب للمقام.
لا أخفي أن فصح الكاتب من حين لآخر عن نيات متعددة وسط تقديمه للشخصيات الثلاث التي خصص لها كتابه هذا ساعدني بشكل كبير في توجيه مداخلتي وتحديد مضمونها. يغلب الطابع التاريخي على محتوى الكتاب، غير أن المؤلف يؤكد أن عمله لا ينحصر في المجال التاريخي، ولا يهدف إلى القيام بعمل المؤرخ. إنه منشغل بمجال الذاكرة، ذاكرته هو، والعنوان ذاته واضح في هذا الصدد: «الحسن الثاني، ديغول، بن بركة: ما أعرفه عنهم». بل يمكن القول إن المؤلف (وهو حاضر هنا ليصحح قولي في ما بعد) يسعى إلى الإبقاء على بن بركة في مجال الذاكرة بدل تناوله في إطار التاريخ. وذلك ربما إيمانا منه بـ»أن الذاكرة، كما يقول أحد كبار المهتمين بالموضوع، ظاهرة آنية (فاعلة actuel). إنها حيز يتم عيشه في حاضر أزلي، في حين أن التاريخ تمثل للماضي. تظل الذاكرة، من هذا المنظور، مطلقة، في حين لا يعرف التاريخ إلا ما هو نسبي.»
لماذا هذا الأمر؟ يقدم لنا المؤلف الجواب منذ الصفحات الأولى من كتابه حيث يقول لنا إن بن بركة شكل «قضية حياته» (cause de sa vie). لعل الكلمة العربية «القضية» أكثر تلاؤما هنا في ما يخص علاقة المؤلف ببن بركة، ذلك لأنها تحمل المعنى القانوني والسياسي معا. وهذا ما حصل فعلا بالنسبة للأستاذ موريس بوتان. شكل بن بركة قضيته داخل المحكمة أي في إطار القانون، كما شكل قضيته أمام ووسط هيئات أخرى من طبيعة سياسية محضة. نستند هنا طبعا إلى مضمون الكتاب كما يمكن أن نستند مرة أخرى إلى العنوان ذاته: «الحسن الثاني، ديغول، بن بركة: ما أعرفه عنهم». إنه يتناول شخصيات سياسية، بل شخصيات كبيرة في المجال السياسي. وكثيرا ما يؤكد هو ذاته على هذه المسألة.
ما علاقة الذاكرة بالمجال السياسي، أو بالطرح السياسي لقضية بن بركة؟ وما دافع الكاتب إلى طرح قضيته في إطار سياسي بدل الإبقاء عليها في الإطار القانوني الذي هو مجال اشتغاله الأصلي والأساسي؟
قبل الانتقال إلى تلخيص جواب المؤلِّف عن هذا السؤال، أود الإشارة إلى أننا أمام كتاب يتطلب التأني في القراءة، لأن صاحبه اعتمد فيه دقة التحليل وقوة التدليل وكثرة التفصيل، مما يجعل القصد أحيانا يُمرَّر عبر الإيحاء بدل أن يُقدَّم عبر الفصح والجلاء. يمنح الكاتب مؤلّفه أبعادا متعددة في تناوله لموضوعه، فالرجل قانوني وحريص على تبيان تضلعه في هذا المجال وتفانيه في أداء مهنته؛ كما أنه ملم بالمجال السياسي وملتزم في إطاره على المستويين الفكري والعملي معا. نسجل في الكتاب أيضا حضور المستوى الأخلاقي حيث يثير الكاتب تقديره للصداقة والأصدقاء، وأيضا أهمية الاعتراف بصفات وكفاءات الآخر بغض النظر عن التباين والاختلاف في المواقف؛ يظهر الكتاب أيضا الجانب الوطني للمؤلِّف حيث نسجل دفاع هذا الأخير عن سمعة وطنه، فنجده يندد بالسياسة الفرنسية المناهضة للمبادئ التي تأسست عليها الجمهورية الفرنسية رغبة منه في الحفاظ على استمرار صورة فرنسا التي رسمها لها مثقفوها وثوارها في مجال التاريخ.
أعود بعد هذه الإشارة إلى السؤال الذي طرحته قبل قليل، والمتصل بدافع الكاتب إلى تمديد طرح قضيته إلى الإطار السياسي بدل الإبقاء عليها في الإطار القانوني الذي هو مجال اشتغاله الأصلي والأساسي. عناصر الجواب متعددة، أولا لأن جريمة الاختطاف والاغتيال متصلة بشخصية سياسية، ثانيا لأن بعض المتهمين فيها، حسب المؤلف، وحسب الرأي العام الوطني والدولي، سياسيون، ثالثا لأن معوقات كثيرة اعترضت السير العادي للقضية على المستوى القانوني كانت معوقات سياسية، رابعا، وربما هو العامل الأهم، لأن الأمل في إيجاد حل لقضية بن بركة مرتبط بالجانب السياسي أكثر مما هو مرتبط بالجانب القانوني. يمكن القول، إن كان فهمي لمحتوى الكتاب صائبا، إن قضية بن بركة استنفدت من الناحية القانونية، ولكنها ما زالت مطروحة من الناحية السياسية، بل إن السياسة وحدها الآن يمكنها أن تُبقِي على القضية مفتوحة أو أن تجد لها الحل المنصف. إنها في حاجة إلى إطار سياسي ومبادرة سياسية.
وحتى أكون أكثر وفاء لمضمون الكتاب أقول: يأمل الكاتب أن تحصل المبادرة السياسية الضرورية للحل المطلوب للقضية في بلد بن بركة ذاته، المغرب، ذلك لأن البلد الذي اختطف فيه واغتيل فيه، لم يعد قادرا على إضافة جديد على المستويين القانوني والسياسي معا. لقد تم رفع السرية في فرنسا عن الأرشيف الخاص بالضحية وتبين أنه لا يضيف معلومات تفيد في ما يخص حقيقة الاختطاف والاغتيال. ظلت السرية، حسب الأستاذ موريس بوتان، مفروضة على الأرشيف في فرنسا أساسا من أجل التمويه وربح الوقت، بمعنى آخر، من أجل الدفع بقضية بن بركة إلى التاريخ، أو إلى ما هو أعوص من ذلك، أي نقيض الذاكرة: النسيان. ويشكل هذا الأمر في حد ذاته طابعا سياسيا لقضية بن بركة، غير أنه جانب سياسي يهم ماضي هذه القضية ولا يفيد حاضرها ومستقبلها. إن فرنسا معنية، وفي حدود، بماضي قضية بن بركة من الناحية القانونية والسياسية، ولكنها لم تعد معنية بحاضرها ومستقبلها في ما يتصل بالكشف عن الحقيقة.
يتوصل الكاتب إلى هذه الخلاصة بعد عرض تفاصيل المحاكمتين اللتين تمتا في فرنسا طبعا. تمت الأولى خلال سنة 1966، وجرت الثانية خلال السنة الموالية 1967. يدخل في تفاصيل دقيقة وكثيرة على مستوى المعطيات والدلائل والحجج وتأويلاتها لدى جميع أطراف المحاكمة: الطرف المدني والمتهمون والجهاز القضائي. يبين بوضوح كبير وجود نية ورغبة لدى الأطراف المسؤولة (قانونيا وسياسيا) في توجيه القضية مع الحرص الشديد والعزم الكبير على الإسراع في الانتهاء منها، وبالخصوص على عزلها عما يمكن أن يجعل منها قضية سياسية، لحصرها في الإطار الذي وضعت فيه في البداية أي الإطار القانوني.
يمكن القول إن موريس بوتان يبذل جهدا كبيرا لجعل قضية بن بركة تجمع بين الطابع الحقوقي والسياسي في فرنسا، ولتظل قضية سياسية محضة داخل المغرب وبالنسبة للمغاربة رغم الجوانب التي تجرها إلى المجال القانوني. إن مثل هذا المنطلق هو الذي جعل الكاتب يدافع عما يمكن أن نسميه الطابع السياسي العرضي لدى الجانب الفرنسي في قضية بن بركة، وعن طابعها السياسي الأساسي والحاسم لدى الجانب المغربي. بدأت القضية سياسية في المغرب وظلت كذلك إلى اليوم، لهذا يشكل بلد بن بركة، في نظر الكاتب، الجانب الأساسي فيها. أما اندراجها في الإطار السياسي داخل فرنسا فإنه حصل فقط نتيجة خلل داخل جهات تابعة للدولة وليس نتيجة إرادة سلطات عليا في الدولة.هنا يكمن الفرق، ومن هنا يأتي التباين، في نظر الكاتب، في ما يتصل بمسؤولية الدولتين في القضية. والأكثر من هذا فإن الكاتب يختزل القضية داخل المغرب في مواجهة بين الملك الحاكم آنذاك، الراحل مولاي الحسن، كما يناديه المؤلف ذاته، من جهة، والمعارض للنظام وللملك، المهدي بن بركة من جهة ثانية.
أظن أن الترتيب الذي اختاره موريس بوتان للشخصيات الثلاث في الكتاب له دلالة كبيرة. الحسن الثاني، دوغول، بن بركة. إن وضع دوغول في الوسط معناه، من دون شك، أن الرئيس الفرنسي (وبلده بشكل عام) وُجد عرضا في حصول الحدث وفي مجرى القضية، وأن أطرافها الحقيقيون هم الأول والثاني، أي الحسن الثاني وبن بركة.
توجه هذه الفكرة مجمل فصول الكتاب، كما أنها تلعب دورا في تحديد طبيعة مواقف مختلف الشخصيات والهيئات السياسية في ما يتصل بأهميتها في اختطاف واغتيال بن بركة، وكذلك في ما يتصل بالشق الثاني منها والمتعلق بالبحث عن حقيقة الاختطاف والاغتيال، ومصير الجثة. ينتبه القارئ إلى استعراض موريس بوتان لمواقف عدد كبير من الشخصيات والهيئات السياسية، الفرنسية والمغربية، اليمينية واليسارية، المنتمية إلى دائرة بن بركة والبعيدة عنها، ليبين لنا ما يمكن أن نسميه بالموقف السلبي لدى الجميع من المناضل المهدي بن بركة. يتعلق الأمر بموقف سلبي لأن هذه الشخصيات والهيئات لم تفد الكاتب في العملية التي تجند من أجلها ألا وهي البحث عن حقيقة الاغتيال. لا يخفي الكاتب أن كثيرا من أصدقاء المناضل والشهيد تهربوا من الأمر اعتمادا على مبررات تتناقض تماما وما تقتضيه وضعياتهم السياسية من نبل وشجاعة وأخلاق وإنسانية حينما يتعلق الأمر بمثل هذه القضية التي تطلب منهم تقديم المساعدة بصددها، أي المساهمة في التوصل إلى الحقيقة.
غير أن استعراض الكاتب لمواقف مختلف الشخصيات والهيئات يتم أساسا لإغناء التوثيق عبر التذكير بالأحداث، وكذلك لجعل ترددهم السياسي والأخلاقي بمثابة اعتراف بعدم إمكانية المساهمة في الكشف عن الحقيقة أكثر مما هو نية في إخفائها وطمسها. توجد حقيقة اختطاف واغتيال بن بركة، حسب كتاب موريس بوتان، بالرباط ولدى أشخاص محدودين وعلى رأسهم الملك الراحل الحسن الثاني، ذلك لأن طرفي المعادلة التي نتج عنها موت بن بركة لا تخرج في نهاية المطاف عن كاتب الاختيار الثوري والراحل الملك الحسن الثاني. لا تُستحضَر الشخصيات السياسية الأخرى التي قد تبدو معنية في المعادلة سوى بشكل عرضي، بما في ذلك الرئيس الفرنسي ديغول.
إن طرح المعادلة بالشكل الذي لخصناه هنا هو الكامن وراء بدء موريس بوتان في كتاب مخصص لاغتيال بن بركة بالعودة إلى بداية الاستعمار الفرنسي للمغرب. إنه يتوخى من ذلك الكشف عن الصراع الكامن بين المسؤولين الفرنسيين عن سياسة الدولة الفرنسية داخل المغرب وبين السياسيين المغاربة الممثلين في السلطان والمؤسسة الملكية بشكل عام، وكذلك المقاومين المناهضين للحماية ثم المناضلين المنظمين في إطار هيئات سياسية. ولعل الدرس الذي يستخلصه موريس بوتان من مرحلة ما قبل الاستقلال هو كون بن بركة مثل لمدة لا بأس بها عدوا حقيقيا للمقيم العام ولفرنسا بوجه عام. لقد كان أصغر مناضل يوقع وثيقة المطالبة باستقلال البلاد، ويتجرأ على طرح موقف سياسي يمس المصالح الفرنسية في العمق، ويخلق بذلك موقفا عدائيا يستدعي المواجهة والعقاب. فعلا تم الحكم على بن بركة بالسجن، لأن السياسة الفرنسية في المغرب، كما هو الشأن في المستعمرات الأخرى، تتلخص في قول المقيم العام بو ( PUAUX) « يجب أن يستأصل هذا اللفظ [الاستقلال] من اللغات والقلوب» (ص 28).
يثير الأستاذ بوتان، بعد هذا الحدث المتصل بالمطالبة بالاستقلال، حدثا آخر جعل بن بركة يصبح «عدو فرنسا الأول» ويدفع بالجنرال جوان إلى الأمر باعتقاله سنة 1951 لينفى إلى جنوب المغرب إلى حدود أكتوبر 1954. يتعلق الأمر «بتكليف الحزب لابن بركة، باعتباره كاتبه العام، بمهمة خاصة لدى الأمم المتحدة التي كان مقرها في باريس، في إطار مساعي الحزب الحصول على الدعم الخارجي، [حيث] صاغ بن بركة تقريرا عن وضعية حقوق الإنسان في المغرب»(ص 30).
الكاتب : ذ. عبدالحي أزرقان * - بتاريخ : 10/11/2018