المهدي بن بركة: بين الذاكرة والتاريخ 3

ذ. عبدالحي أزرقان *

أضيف هنا بعض الفقرات الأخرى التي تزيد الفكرة المحورية للكتاب وضوحا، وهي الفكرة المتصلة بالصراع المستمر بين الملك الحسن الثاني وزعيم المعارضة المهدي بن بركة، إن لم أقل العداء الدائم بينهما. يقول صاحب الكتاب: «لما تناهت إلى علم بن بركة المستجدات التي وقعت بالمغرب خلال سفره، المتناقضة مع مقررات اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، قرر التحرك في أقرب مناسبة، وتأتى له ذلك في 25 يوليوز في افتتاح المؤتمر الثالث للاتحاد الوطني لطلبة المغرب بتطوان، حيث استقبله الطلبة بحماس شديد، استقبال أي حركة لمن تعده «منظِّرها»، مما جعل مولاي الحسن يحس بالمهانة. وابتداء من هذا المؤتمر، سيظل مولاي الحسن، حتى وقد أصبح الحسن الثاني، يشير في «المعلومات التي يكشف عنها»ـ السرية طبعا !ـ لهذا الصحفي أو ذاك، بأصابع الاتهام دائما إلى بن بركة، حتى وإن كان هذا الأخير في المنفى بعيدا بآلاف الكيلومترات، وذلك كلما وقع حدث ما بالمغرب. وما أكثر الأحداث التي سيعرفها هذا البلد وصولا إلى «اختفاء» بن بركة ! ليصبح المهدي بن بركة الشبح المؤرق الذي يقض مضجع النظام، ويجد نفسه تحت المراقبة، بل ضحية مطاردة الشرطة».(ص71).
وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن مصدر العداء لم يتغير أبدا كما قلت أعلاه، ويتصل أساسا بطبيعة الملكية التي ينبغي أن تقوم في المغرب بعد الاستقلال. لنستحضر القول التالي: “يرفض الأمير أن يتحقق هذا الأمر رفضا باتا  « تَحوّل المغرب إلى ملكية دستورية يسود فيها الملك ولا يحكم«،عكس أبيه الذي قد لا يمانع في تحول حكمه في ذلك الاتجاه، أي إلى ملكية دستورية. وهذا الشبح المؤرق سيلقي بظلاله على السياسة المغربية ويطبعها في السنوات التالية بطابع خاص. ولكن في صيف سنة 1957، ستظل العلاقات بين المهدي بن بركة والقصر منسابة في مجرى هادئ ظاهريا، وإن كانت المواجهة بين الرجلين، ولي العهد وبن بركة، محتدمة في السر، رغم ولائهما للجالس على العرش…كل على طريقته…طبعا! “(ص66-67). ” ألم يؤكد محمد الخامس في خطاب 18 نوفمبر أن مسلسل الدمقرطة ” سيتحقق عن طريق جمعية تأسيسية”؟ والحال أن الأمر يتعلق بمطلب ثابت لحزب الاستقلال! وهو ما لا يستسيغه مولاي الحسن الذي كان يَلْتَذُّ بتصور نفسه سيدا مطلق اليد ممسكا بمقاليد الأمور في البلد، وحيدا دون منازع. وها هو يرى أن مشروع أبيه يعرقل طموحاته المستترة. فهل ستنفلت منه السلطة لصالح حزب وحيد، حزب الاستقلال؟” وفي هذه الظرفية بالذات خط الأمير لـ”تمرد عامل إقليم تافيلالت” المزعوم، ولمؤامرة حقيقية تمخض فصلها الأخير عن إدانة “المتآمرين” المحليين وحدهم من قبل محكمة العدل التي أنشئت خصيصا بالرباط، ولكن بصلاحيات تشمل مجموع التراب الوطني! “(ص63).
الرفض نفسه، وربما العداء نفسه، يركز عليه المؤلف عند تناوله لموقف بن بركة من الملك الحسن الثاني، حيث لا يتردد زعيم المعارضة في وصف السياسة المغربية بالتسلط وبخدمة مصالح الحكام، وبإهمال قضايا الشعب، بل وبالفشل في مخططاته وبرامجه الاقتصادية، باختصار في تسويد مجمل الوضع القائم، كما يقال. يقول موريس بوتان مستشهدا بالتقرير الذي قدمه بن بركة للمؤتمر الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والذي سينشر في ما بعد تحت عنوان الاختيار الثوري: “ولا يتردد [يقصد بن بركة] في نصه في الإشارة دون مواربة إلى المسؤول الحقيقي، وهو القصر في« احتكاره للسلطات» ” . ولكنه يصر مع ذلك على القول: ”  إن الجماهير ما زالت قادرة رغم نظام القمع والحكم الفردي على فرض احترام تنظيماتها وصحافتها “. ويستمر الكاتب قائلا: “والتزاما منه بقول الحق في المجال السياسي، فإنه يقر أن حزبه لم يستطع إيقاف الانقلاب الذي حصل في ماي 1960[ يقصد إقالة حكومة عبدالله إبراهيم] والذي صفى ما تبقى من مظاهر المشاركة الشعبية في الحكم ” ، ولكنه يعود ليبين الوجه الآخر للعملة بالقول : ” إن لهذا الانقلاب جانبا إيجابيا إذ مكن من توضيح الوضع السياسي في البلاد، ومن إبراز القوى المتقاتلة، قوى التقدم وقوى الرجعية، أنصار المستقبل المشرق، والمتشبثين بعهود الماضي المظلمة  … ” نحن باختصار أمام مواجهة بين بن بركة والحسن الثاني، مهدت لها نشأة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في شتنبر 1959 ووجدت امتدادا لها في “انقلاب” ماي 1960 !  ” (ص 104)، كما يضيف الكاتب في الهامش وسط الإحالة 253 قولا آخر لبن بركة ” وفي المستوى الداخلي يرى أن ” القصر لم يعد يلعب دور الحكم ولا الوسيط . إنه أصبح نظاما فرديا، ورغم ما يتبجح به من إنجازات فهو لم يعرف سوى الاخفاقات المتتالية سواء في المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي”.(ص104). ثم يستمر الكاتب قائلا وهو يشيد بمؤهلات صاحب قضيته وتميزه على المستوى العمل السياسي: “وهنا نتبين من جديد صفتي الواقعية والبراغماتية اللتين تميزانه، فهو يعرف أن الحسن الثاني أصبح فعلا على رأس البلاد، لهذا فضل التريث إلى أن يعاين طريقته في الحكم وسلوكه في المستقبل وتصرفه مع باقي اليسار، ولكنه مع ذلك كان مقتنعا أن لا شيء سيتغير، اللهم مزيدا من السلطوية والحكم الفردي المطلق، لهذا لم يعد إلى المغرب، وفضل البقاء في منفاه الاختياري. وكان في قرارة نفسه يدرك أن الحسن الثاني يضمر له عداء أعمى.” (ص98).
كان الهدف من استعراض هذه المجموعة من الفقرات الواردة في الكتاب إظهار ميل المؤلف إلى التأكيد على كون الصراع الحقيقي، إن لم نقل العداء الدفين، كان قائما بين الملك الحسن الثاني وبن بركة، وأن هذا الصراع راح يزداد تعمقا بعد كل حدث سياسي هام يحصل في المغرب ليصل حد اللاعودة في مارس 1965 مع أحداث الدارالبيضاء. احتد الصراع بين الملكية والمعارضة، المُمثَّلة أساسا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ليتركز بالدرجة الأولى بين الملك الحسن الثاني والمهدي بن بركة.
لقد كانت المفاوضات بين القصر واليسار ممكنة، بل وجارية، ولكن لا يمكن لها الاستقرار، حسب الأستاذ موريس بوتان، على نتيجة ما والمعارض الأكبر غائب عن الطاولة؛ أضف إلى غيابه صلابة موقفه وقوة تأثيره وسط التنظيمات السياسية الداخلية والخارجية. هذا ما جعل المؤلف يتناول في كتابه ما أسماه بالعودة الطوعية والعودة بالقوة والتي ستؤدي، في نظره، إلى المأساة: اختطاف بن بركة واغتياله.
يوجه الكاتب تحليله للوضع السياسي بالمغرب منذ الاستقلال إلى أحداث مارس بالدار البيضاء وفق أطروحته الأساسية في الكتاب: الصراع بين الحسن الثاني وبن بركة على طبيعة الحكم الذي ينبغي أن يسود داخل المغرب، لينتهي بصدد هذه النقطة المتصلة بعودة زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى البلاد إلى الفكرة (المنطلق) المؤثثة لفصول الكتاب: الصراع والعداء بين الرجلين. أكيد أن الكاتب لا يغفل في الصفحات الأخيرة من الكتاب إثارة فرضيات أخرى تم تداولها بصدد اختطاف بن بركة، تلك التي حاولت إقحامه في صراع خارجي اعتمادا على أنشطته السياسية الدولية. لقد ظهرت أطروحتان بصدد اغتيال الزعيم المغربي، الأولى تربط الحدث بمخابرات الولايات المتحدة الأمريكية (CIA)، والثانية بجهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد). غير أن اهتمام الكاتب بهاتين الأطروحتين يتم أساسا ليبين مدى إلمامه بتفاصيل القضية، وطبعا لدحض الفكرتين معا والعودة إلى الأطروحة/المنطلق: صراع بن بركة صراع نشأ داخل الوطن، والعداوة عداوة داخلية تنحصر في حدود البلد، ومن ثمة فالاختطاف والاغتيال مرتبطان بالبلد الذي نشأ فيه بن بركة والبلد الذي ظهر فيه لآخر مرة.
ابتداء من هذا التاريخ سيركز الكاتب على أربع نقاط وهما على التوالي: الاختطاف والاغتيال والمحاكمة والمصير. يتعلق الأمر طبعا في النقطة الأخيرة بمسألة الحقيقة، كشف الحقيقة المتصلة بالاغتيال، وبمصير الجثة بعد الاغتيال. لا يضيف الكاتب جديدا فيما يتصل بالنقطة الأخيرة وينتهي بدوره، مثل كثير من السياسيين المغاربة المتشبثين بمعرفة مآل جسد بن بركة إلى المطالبة والمناشدة حتى يظل الأمل قائما. إن كان الكاتب يخصص الجزء الأول من مؤلفه لمرحلة ما قبل الاختطاف كي يبين أن الصراع غير القابل للتركيب والمصالحة بين الرجلين حصل نتيجة صراع حاد بين تصورين للسلطة، وتباين عميق بين إرادتين في ما يتصل بحكم الشعب وتدبير شؤونه، فإنه يعمل في الجزء الثاني من مؤلفه، مرة أخرى، على ربط مسؤولية اختفاء بن بركة وحقيقة الاغتيال ومآل جسده بالملك الحسن الثاني، ومن ثمة عقْد أمل كشف الحقيقة على المؤسسة الملكية، ما دام الملك الحسن الثاني قد فارق الحياة.

المسؤوليات في الاختطاف

اختطف بن بركة في فرنسا وسط العاصمة باريس في شارع سان جرمان وهو قادم من سويسرا. معروفة الساعة التي اختطف فيها، ومعروف المكان بالضبط الذي انطلقت منه الجريمة، ومعروفون الأشخاص الذين اقتادوه والسيارة التي نقل عليها، ومعروفون أيضا الأشخاص الذين شاركوا في الاختطاف، والمكان الذي اقتيد إليه بعد الاختطاف. كل هذه العناصر لها علاقة بفرنسا، بل إنها فرنسية مئة في المئة. الاختطاف إذن من مسؤولية فرنسا ومواطنين فرنسيين. تبدأ الأمور في التعقيد بعد احتجاز بن بركة في فيلا في ملكية فرنسي ( يوشسيس ) حيث وضع بين أيدي مجموعة أخرى من الأشخاص مغاربة حضروا إلى فرنسا قصد أداء المهمة. سينقل يوما بعد الاحتجاز إلى فيلا أخرى في ملكية مواطن فرنسي حضر في العملية منذ بداية مرحلة التخطيط (لوبيز) ولكنه سيظل بين أيدي المجموعة المغربية المعروفة العدد وغير المحددة المهام والأدوار في ما يخص مصير الزعيم المهدي بن بركة. لنقل إن الأوراق ستختلط بعد تدخل المجموعة المغربية في القضية ليصبح الغموض سيد الوضعية في كل شيء: هل قتل بن بركة داخل الفيلا، أم خارجها؟ هل قتل حينها، ومن القاتل، وكيف قتل، وما مصير الجثة؟ هل تم دفنه قريبا من الفيلا أم بعيدا عنها؟ هل أوتي بالجثة إلى المغرب؟ بل هل أوتي ببن بركة مقتولا إلى المغرب أم أنه أحضر حيا وقتل ودفن في مكان مجهول داخل بلده؟ هذه أسئلة واجهها القضاء الفرنسي لأن الجريمة وقعت فوق التراب الفرنسي، ولأن مواطنين فرنسيين هم الذين أعطوا الانطلاقة للجريمة. تابع الكاتب مسار القضية داخل المحكمة بتفاصيلها الدقيقة باعتباره المحامي الذي أسندت إليه عائلة المرحوم، وبالضبط أمه، مهمة الدفاع، ولكن باعتباره أيضا صديقا للضحية ورفيقا له في النضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وباعتباره حاملا لشعور الانتماء إلى المغرب الذي يسميه بـ”بلده الصغير”. في المغرب رأى الكاتب الحياة، وفي المغرب بدأ مهنة المحاماة، وفي المغرب عرف الإحساس بالظلم من خلال تصرفات من يتقاسم معهم الجنسية الفرنسية، وداخل المغرب تلقى بين أفراد عائلته ووسط أصدقائه المغاربة والفرنسيين المناهضين للاستعمار أنبل قيمة أخلاقية ينبغي أن يتحلى بها الفرد، ألا وهي التشبث بالكرامة الإنسانية والدفاع عن الحق باعتباره أساس العدل. التقت المهنة والصداقة والأخلاق والسياسة في قبول (وتبني) الكاتب الدفاع أمام العدالة على قضية بن بركة.
لن ألخص في هذه القراءة تفاصيل المحاكمتين (محاكمة 1966/1967) لأنها طويلة ودقيقة، فهي إما أن يطلع عليها المهتم مباشرة في الكتاب بكل تفاصيلها، وإما أن يحاول القارئ استخلاص الفكرة التي أراد الكاتب تمريرها عبر الطريقة التي تتبع بها نقلها وتدوينها داخل هذا الكتاب. تجعلني طبيعة عملي هذا أميل إلى الاختيار الثاني، لأن الهدف الأساسي هو البحث عن الحقيقة في ما يتصل بمسؤوليات الاختطاف والاغتيال والاختفاء.
يتبين من خلال قراءتي للكتاب أن موقف المؤلِّف هو وضع مسؤولية تنفيذ الاختطاف جهة فرنسا، وتقاسمها بين فرنسا والمغرب في ما يتصل بالاغتيال، مع الإبقاء على هذا التقاسم في ما يتصل بالتوصل إلى الحقيقة. غير أنه يعمل في الوقت ذاته، عبر توظيف معطيات عديدة، واستحضار شخصيات متعددة لها علاقة من قريب أو بعيد بالضحية، على ربط المسؤولية النهائية عن الجريمة بيد المغاربة، وربط إمكانية الكشف عن الحقيقة أيضا بالمغاربة. هذا دون نسيان التقابل الذي أقامه الكاتب في النصف الأول من الكتاب، أو في الجزء المتصل بما قبل الاختطاف والاغتيال، بين بن بركة والملك الحسن الثاني، ليصب مسؤولية القضية برمتها على هذا الأخير، بما في ذلك الكشف عن الحقيقة.

الكاتب : ذ. عبدالحي أزرقان * - بتاريخ : 13/11/2018