المهدي بن بركة: بين الذاكرة والتاريخ -9-
ذ. عبدالحي أزرقان
ولن يفوتني أن أشير في الأخير إلى نقطة جزئية لا تخلو بدورها من دلالة. يتم الاجتماع في المكتبة الوطنية حول مكانة بن بركة في التاريخ المعاصر بأجمله وليس في التاريخ المغربي المعاصر. هل يعني هذا التعميم التأكيد على البعد العالمي لمكانة بن بركة اعتبارا لنشاطه السياسي المتجاوز لوطنه وأمته؟ أم أن التعميم يرمي إلى تليين المواقف داخليا بما في ذلك النظرة السائدة لدى اليسار وغير اليسار إلى مواقف الفقيد نفسه، تلك النظرة التي تستحضره لتجعل منه الزعيم الأكبر، أو لتعتبره المتسرع والمتشدد والمفتن؟ قد تكون الغاية من تجنب التخصيص بصدد التاريخ المعاصر تجاوز التصنيف الخاطئ، أو على الأقل المبالغ فيه، لمواقف بن بركة من رفاقه في الحزب، ومن باقي السياسيين الذين كان يختلف معهم فكريا في ما يتصل بتحديد المسار الملائم لتحقيق التحرير الوطني والتقدم المجتمعي.
يبدو لي من خلال العناصر التي أثرتها، إن لم أقل يتضح لي، أنه حصلت إرادة، وربما خطوة، للمرور إلى حل ما لقضية المهدي بن بركة. يظل هذا الاستنتاج، طبعا، مجرد تأويل لحدث حصل وأنا منشغل بتدقيق قول سبق لي أن صغته. هذه هي طبيعة الحدث، وهذه هي مهمة المثقف؛ يحمل الأول بالضرورة معاني متعددة، ويحاول الثاني التقاطها والكشف عنها سعيا منه إلى تغليب الفهم الأنسب. حصل سَيْرِي في هذا الاتجاه باستحضاري لحدث قوي عرفه المغرب، ذاك المتصل بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة والأعمال التي أنجزتها والنتائج التي حققتها. لقد بينت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة أن الهيئات السياسية المغربية والشعب المغربي قادرون على منح الحل السياسي للوضعيات الداخلية الحرجة والصعبة طابعا متميزا. ولكي أستعمل تعبيرا سائدا لدى كثير من الفاعلين السياسيين المغاربة أقول، إنهم قادرون على خلق «الخصوصية المغربية» على مستويي التنظير والتفعيل معا لتوفير شروط توحيد الجهود الهادفة إلى البناء، والتغلب، من ثمة، على التحديات التي تعترضهم، وأساسا تلك المتصلة بالمجال السياسي. ولا شك أن هذه الخاصية هي التي تجعل الأمل والعمل متلازمين داخل هذا البلد لدى الفاعل السياسي والمواطن العادي معا.
لم يكن قصدي القيام بتأويل للكلمات التي ألقيت في المكتبة الوطنية بمناسبة الذكرى الخمسين لإحياء قضية المهدي بن بركة. لقد حاولت فقط التقاط بعض معانيها القوية، خاصة تلك التي تجعل الأمل في إيجاد حل مرض للجميع قائما، ويكون في إمكان الجميع أيضا تجاوز الاقتصار على إثارة المهدي بن بركة في إطار ضيق يطبعه الاحتدام والاتقاد والانفعال والتوحد، هو إطار الذاكرة، لتناوله في إطار عام تغلب عليه الرصانة والسكون وأخذ المسافة، أقصد الإطار الذي تم اختياره في ندوة المكتبة الوطنية، أي التاريخ.
أظن أن الجو الذي مر فيه عمل هيئة الإنصاف والمصالحة خلق فنا خطابيا (une rhétorique) متميزا فرض نفسه في التداول لدى مختلف الأطراف المتتبعة للوضع السياسي داخل المغرب. وربما كان أهم ما أنجزته هذه الخطابة هو النجاح في بلورة مجموعة من الصيغ قادرة على ربط معاناة المواطنين سابقا بمرحلة معينة، وبظروف محددة، يكاد يغيب فيها الفاعل والمسؤول؛ يكاد يكون تجاوز الأسماء فيها تجاوزا تاما. ربما تمكنت هذه الخطابة التي وسمت جو فترة الإنصاف والمصالحة من تحويل المسؤولية شيئا فشيئا من الإنسان الفرد إلى التاريخ أو إلى القدر، باعتبارهما عاملين أساسيين يساعدان على تقبل الحدث (ما حدث)، بل على منحه بعدا طبيعيا، أو على الأقل جعله استثنائيا.
لقد أصبح الجميع تقريبا يتكلم عن مرحلة «سنوات الرصاص»، عن «سنوات القمع»، عن «تجاوز الماضي»، عن «التوجه نحو المستقبل» و»الاهتمام بالمستقبل»، عن «عدم تكرار الماضي»، عن «المصالحة الوطنية»، عن «الانتقال الديمقراطي،» بعيدا عن مشاعر التشنج والانتقام والمحاسبة …الخ
هل سيكون لقاء المكتبة الوطنية بداية حدث آخر يعمق أهداف ونتائج هيئة الإنصاف والمصالحة؟ هل ستفلح هذه المبادرة في نقل قضية المهدي بن باركة من الذاكرة إلى التاريخ، كما تمكنت الهيئة من ذلك بصدد أحداث أخرى كثيرة ظلت تشغل الفاعل السياسي والمواطن العادي لسنوات عديدة؟ هل تمت مبادرة الأستاذ عبدالرحمن اليوسفي لتذكير هيئة الإنصاف والمصالحة بإيجاد حل ما لقضية بن بركة ولو بشكل نسبي؟ أم أنه قام بها للاعتراف بأن المسألة بين أيدي المؤرخين المغاربة وغير المغاربة مادام أن الشخصية المعنية تهم التاريخ العالمي، ومادام أن حقيقة الماضي تهم بالأساس البحث التاريخي؟ أم أن المسألة بكل بساطة بيد القدر وما يسمى مفاجآت التاريخ؟
1-P. Ricœur, La mémoire, L’histoire, L›oubli, Seuil 2000, p 524.
2ـ يضيف الكاتب هنا إحالة في الهامش للتأكيد على جذرية موقف بن بركة، أو على الأقل اختلافه مع القوى السياسية المغربية المطالبة بالاستقلال ويقول « لما كلف بتنظيم الحزب، انتقل في مختلف مناطق المغرب لإنشاء الخلايا الشعبية وتطويرها في المدن والقرى. اتصل بزعماء التحرير الوطني الذي كان قيد التشكل في الريف، لمد الجسور بينه وحزب الاستقلال.» (ص 36)
3ـ سأعود للتعليق على هذا الحكم في ما بعد عند تقديم رأيي في الموضوع.
4 يضيف الكاتب هنا إحالة في الهامش للتأكيد على جذرية موقف بن بركة، أو على الأقل اختلافه مع القوى السياسية المغربية المطالبة بالاستقلال ويقول « لما كلف بتنظيم الحزب، انتقل في مختلف مناطق المغرب لإنشاء الخلايا الشعبية وتطويرها في المدن والقرى. اتصل بزعماء التحرير الوطني الذي كان قيد التشكل في الريف، لمد الجسور بينه وحزب الاستقلال.» (ص 36)
5ـ كثيرا ما يصدر الكاتب مثل هذا النوع من الحكم على الملك الحسن الثاني دون تقديم أساس لحكمه.ـ يكتب المؤلف في الإحالة الأخيرة بالصفحة ذاتها (ص 44) ما يلي»…وبن بركة كان مكلفا بتنظيم الحزب. ومباشرة بعد عودة محمد بن يوسف من المنفى لفتت نظره حيوية المهدي بن بركة وديناميته. وقد كان على علم بكفاءته ومؤهلاته، ولكنه لم يكن ينظر بعين الرضى ــ أو بالأحرى الأمير مولاي الحسن ــ إلى المبادرات التي يقوم بها، ونزوعه إلى المواجهة وعدم الاستسلام، بل ونزعته الأرتودوكسية الإسلامية… ويبقى أن المهدي بن بركة نفسه كان يريد أن يظل بعيدا عن القصر…»
6ـ يستعمل الكاتب هذا التعبير ( ص 93 ) كما يستعمل تعابير أخرى تسير في الاتجاه ذاته وهو يصف موقف الملك الراحل الحسن الثاني من السلطة، نورد هنا بعضا منها: «أثمة حاجة إلى أن نكرر هذه الحقيقة الواضحة، ومفادها أن المغرب لم يعرف طوال عهد الحسن الثاني سوى «سيد واحد»، هو الملك نفسه» (ص329). ولعل ما ينبغي التنبيه عليه بصدد هذه الأحكام هو كونها ترد من دون توطئة ومن دون حجج.
7ـ يثير هذا الاستشهاد كثيرا من التساؤلات في ما يتصل بالمصدر وكذلك في ما يتصل بموقف السي عبدالرحيم بوعبيد وبطبيعة الرؤية ذاتها… أفضل ألا أناقش المسألة هنا وأترك التعاليق للقارئ.
8ـ لا يفوتني التذكير هنا بأن هذا الحكم على موقف الملك محمد الخامس من طبيعة الملكية في المغرب حكم خاطئ، وأن القائلين به يجهلون أو يتجاهلون واقع النظام المغربي، إن لم أقل يجهلون أويتجاهلون طبيعة الفعل السياسي بشكل عام. سأعود إلى هذه النقطة في نهاية هذا المقال.
9- نسجل هنا التعبير الإيجابي الذي يستعمله الكاتب حينما يتعلق الأمر بالكلام عن بن بركة، ولا غرابة في هذا الموقف ما دام الكاتب هو محامي الزعيم وصديقه ومناصره في ما يتصل بالتوجه السياسي. فالكاتب نفسه يدافع عن فكرة الملكية السائدة وغير الحاكمة، الموقف الذي يمكن اعتباره عاديا بالنسبة لرجل فرنسي ينتمي إلى اليسار. سأعود إلى هذه النقطة المتصلة بسيادة الملك مع عدم حكمه في نهاية المقال.
10ـ نجد هذا التقسيم للكتاب لدى المؤلف نفسه ويشير إليه بكل وضوح عند انتقاله إلى تناول مسؤولية الاغتيال حيث يقول: « لقد توقفت مليا في الجزء الأول من هذا الكتاب عند تطور الأحداث المتعاقبة منذ عودة محمد الخامس وابنه مولاي الحسن في نوفمبر 1955، وصولا إلى شهر أكتوبر 1965. وقد بين للقارئ بجلاء مقدار العداوة المتفاقمة التي كان يكنها مولاي الحسن للمهدي بن بركة، واستمرار ذلك الشعور بعد اعتلائه عرش المغرب، مما أدى إلى ضرورة تصفيته ولو على الأقل سياسيا. ولا ننس في هذا الصدد اعتزاز الملك بنفسه حد الغرور، مما جعله يمعن في إذلال كل الشخصيات الوازنة القريبة منه، وتكسير شوكة كل من تحدَّوْه أو نافسوه الصدارة.» (ص325ـ326)
11ـ يقول الكاتب في صفحة 325: « لقد وقفت مليا في الجزء الأول من هذا الكتاب عند تطور الأحداث المتعاقبة منذ عودة محمد الخامس وابنه مولاي الحسن في نوفمبر 1955، وصولا إلى شهر أكتوبر 1965. وقد تبين للقارئ بجلاء مقدار العداوة المتفاقمة التي كان يكنها مولاي الحسن للمهدي بن بركة، واستمرار ذلك الشعور بعد اعتلائه عرش المغرب، مما أدى إلى ضرورة تصفيته ولو على الأقل سياسيا. ولا ننس بهذا الصدد اعتزاز الملك بنفسه حد الغرور، مما جعله يمعن في إذلال كل الشخصيات الوازنة القرية منه، وتكسير شوكة كل من تحدوه أو نافسوه الصدارة. هل من الضروري أن أذكر هنا بكل الوقائع الأساسية التي شجعت الملك على اتخاذ قراره؟» (ص225ـ226).
12ـ «ماذا وقع في الجانب الفرنسي؟ لا أريد استباق ما ستسفر عنه عمليات التحقيق الدقيقة والطويلة التي تقوم بها العدالة الفرنسية، ولكن يمكنني منذ الآن استنادا إلى العناصر الوافية المتوفرة أن أتطرق إلى هذا الجانب بتجرد وإنصاف. ويمكنني الإقرار أن دور الجانب الفرنسي دور سوقي وثانوي، حيث اقتصر على تسهيل التقاء بن بركة بأوفقير وبمساعديه في مكان مناسب لتصفية حساباتهم(…) ولكن ليس ثمة دليل على أن جهازي محاربة التجسس والشرطة كانا، بحكم اختصاصاتهم، وبمختلف أجهزتهما، على علم بالعملية، ناهيك عن تأمين التغطية لها…»(ص323/324).
13ـ «صحيح أن فرنسا لم يكن لديها أي مصلحة في تصفية المعارض المغربي، كما أن الأجهزة الفرنسية «في حد ذاتها» كجهاز الشرطة ومصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس وغيرها من المصالح الحكومية، لم «تؤمن التغطية» صراحة لعملية اختطاف بن بركة. ولكن أقل ما يمكن أن يقال عن بعض أعوانها، من الموظفين السامين أحيانا، «استهانوا» الأمر، رغم معرفتهم المسبقة بأن حدثا جللا قد يقع، بل بوجود تخطيط لعملية اختطاف قد تؤدي إلى الموت «عن طريق الخطأ» أو إلى الاغتيال. وهذا أقل ما يمكن أن أقوله لأنهم أصبحوا منذ ذلك الوقت «شركاء سلبيين» في الجريمة.» (ص 333) التشديد من عندنا.
14ـ يستعمل الكاتب «الحادث الطارئ « وكذلك (ص 333) «الموت عن طريق الخطأ»، لأن المجرمين أنفسهم استعملوا هذا التعبير حينما أثاروا موت بن بركة أثناء تعذيب المغاربة له فتعددت الروايات، منهم من قال إن الموت حصل نتيجة جرعة قوية من المخدر الذي حقنوا به الضحية، ومنهم من قال إنه مات نتيجة ركلة أسداها له الدليمي حيث حاول بن بركة مهاجمته للدفاع عن نفسه، ومنهم من قال إنه مات نتيجة إكثار أوفقير من ضربات خنجر صغير كان يعذبه به، ومنهم من ذهب إلى أنه مات نتيجة سكتة قلبية نتيجة التعذيب والمخدر. واستعمل تعبير ‘الحدث الطارئ» للدفاع عن عدم وجود نية القتل لدى المجموعة المغربية التي تولت أمره بعد الاختطاف وبدأت في استنطاقه.
15ـ نسجل هنا الفرق الواضح في الحجج التي يقدمها الكاتب بصدد المسؤولين الفرنسيين وبصدد الملك الحسن الثاني، فبقدر ما هي تندرج في إطار الاستدلال لتكسب القوة حينما يتعلق الأمر بالجانب الفرنسي بقدر ما يطغى عليها طابع الاتهام حينما يهم الأمر الملك الحسن الثاني.
16ـ يذهب الكاتب إلى ربط ثقة بن بركة في أول من تقدم إليه من مختطفيه اعتمادا أساسا على فصح هذا الأخير عن بطاقة انتمائه إلى الأمن الفرنسي، باعتقاده بفرضية تقريب الموعد المحدد مع ديغول. يفترض الكاتب أن بن بركة قبل مرافقه رجل الأمن الفرنسي وامتطى السيارة بشكل إرادي ظنا منه أن موعده مع ديغول تم تقريبه. يبقى أن بن بركة وضع الثقة فعلا في الشرطة الفرنسية، هكذا ستكون حالته، لسوء حظه، من بين الحالات الكثيرة التي تتم فيها الجريمة أو الخيانة بناء على ثقة الضحية بالمجرم أو بالخائن.
17ـ أشير هنا إلى القول الشهير الذي يورده الكاتب مثلا للسيدة جان ماري فيلبون المعروفة بالسيدة مانون رولون Madame Manon Roland أثناء قيادها للمقصلة حيث صاحت وهي تدير وجهها نحو تمثال الحرية: « أيتها الحرية، كم هي عديدة الجرائم المرتكبة باسمك». إنها من المساهمين هي وزوجها في الثورة الفرنسية، وأعدمها تيار من الثورة ذاتها باسم الدفاع عن الحرية، ممن كانوا يقولون «لا حرية لأعداء الحرية» !!
18_ لا أقصد طبعا المرحلة الحالية فقط وإنما المرحلة التي تلت الاستقلال أي الستينيات والسبعينيات….
19 أقصد بالجهات الخارجية طبعا الجهات السياسية الفرنسية التي حاولت التأثير على سير القضية داخل المحكمة.
20ـ أكتفي هنا بالإشارة إلى تحركات الأستاذ في اتجاه الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران، ثم الوزير الأول الاشتراكي جوسبان خاصة جواب هذا الأخير عندما التمس منه بوتان مساعدته حيث رد عليه: «أنا الآن وزير أول ولم أعد في المعارضة» !! تحضرني بهذا الصدد فكرة عميقة للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز «السلطة واحدة أينما وجدت».
21ـ هذا تعبير لعبد الرحمن اليوسفي ذاته.
22ـ سبق لي أن نشرت مقالا عن المصالحة في المغرب بهدف إظهار هذا الجانب الذي نصطلح عليه الخصوصية المغربية. يحمل المقال عنوان: الأسس النظرية للمصالحة في المغرب، ضمن رهانات الفلسفة العربية المعاصرة، تنسيق محمد المصباحي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط. سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 165.
انتهى
الكاتب : ذ. عبدالحي أزرقان - بتاريخ : 19/11/2018