الميوعة والبؤس الجامعي… حين تتحول الجامعة إلى مسرح احتفال لا مختبر فكر

الدكتور عبد الإله طلوع (*)
ما الذي تبقّى من الحرم الجامعي، حين يغادره السؤال، ويحتله «الحدث»؟
ما معنى أن تتحول الجامعة، التي وُجدت لتكون موطنًا للجدل المعرفي والعقل النقدي، إلى فضاء تهيمن عليه الاحتفالات الصاخبة، والتقاط الصور، وتبادل الأزياء، أكثر مما يهيمن عليه الانكباب على النصوص، والجدالات الفكرية، وصبر البحث الأكاديمي؟
هل نحن أمام جامعة تعيش أزمتها، أم أمام أزمة تلبست اسم الجامعة زورًا؟
لقد أصبحت بعض الجامعات المغربية، للأسف، شاهدة على مشهد مقلق من الميوعة والبؤس المؤسسي. فبينما كانت الجامعات في لحظة التأسيس التاريخي فضاءات لتكوين النخبة، وحلقات وعي نقدي، وساحات إنتاج معرفي حقيقي، أضحت اليوم ـ في كثير من الحالات ـ مجرّد قاعة انتظار لحفلات «التخرج» و»الفرح»، حيث يحتفل الطالب بأشياء لم تحدث، ويصفق له الحاضرون على مسار لم يُنجز، ويُكرّم الأستاذ على مجهود لم يُبذل.
حين يُستبدل السؤال بالصورة
بات مشهد ارتداء «لباس التخرج» أكثر حضورًا في أذهان الطلبة من صورة المكتبة أو قاعة المناقشة أو الجدل البيداغوجي. تُقام حفلات موسيقية داخل فضاءات الجامعة، تُستدعى الفرق، تُزيّن المدرجات، يُصفّق للطالب أكثر مما يُساءَل، وكأن الأمر يتعلّق بمهرجان استعراضي لا مؤسسة أكاديمية.
فأين هي الجامعة التي تنتج الباحث؟ أين هي بنية التكوين الصارم؟ أين هو «الفهم» الذي يجب أن يسبق «الفرح»؟
والأدهى، أن كثيرًا من هؤلاء الطلبة ـ ودون تعميم ـ لم ينجزوا تكوينًا حقيقيًا، بل أمضوا سنواتهم في تضييع الزمن الجامعي بين الامتحانات المؤجلة، والغش المعمّم، ومشاريع نهاية التكوين المنسوخة، ليُكلَّل هذا المسار الفارغ في النهاية بحفل كبير، وصور تنشر على الإنستغرام، وتوشيات موسيقية تشبه الحفلات الخاصة أكثر مما تشبه مراسم علمية.
أساتذة يغطّون على فشلهم… بالتسويق الوهمي
هنا نطرح سؤالًا أكثر إزعاجًا: ما دور بعض الأساتذة في تسويق هذا البؤس الجامعي؟
بعض منسقي وحدات الماستر ـ دون تعميم طبعًا ـ حولوا وحداتهم إلى واجهات دعائية فارغة من أي مضمون علمي، يتم قبول الطلبة ليس على أساس الجدارة، بل وفق مقاييس أخرى: القرابة، الانتماء، تبادل المصالح. وعوض أن يُعاقب الطالب غير المؤهل علميًا، يُشجع، ثم يُسمح له بمواصلة المسار نحو الدكتوراه، ليُضاف إلى جوقة من يحملون ألقابًا دون محتوى.
وفي الكواليس، يتم إسناد تدريس مواد الماستر لأشخاص غرباء عن الحقل الأكاديمي، لا خلفية بحثية لديهم، ولا حضور علمي لهم، وكلّ «كفاءتهم» أنهم «معروفون» عند الأستاذ المنسق، أو أن لهم صلات قرابية بإداريين نافذين.
هل يمكن للجامعة أن تبني نخبًا في ظل هذه الرداءة؟ كيف للبحث العلمي أن يتطور، إذا كانت بنيته التكوينية مخترقة بالزبونية؟
مسؤولون يتواطؤون…
وصمت إداري مريب
كل هذا لا يمكن أن يحدث دون سكوت إداري يرقى إلى درجة التواطؤ. بعض المسؤولين عن الشأن الجامعي يُغضّون الطرف، بل أحيانًا يشاركون في هذه الأنشطة «الاحتفالية»، معتبرين أنها شكل من أشكال «الانفتاح»، و»تشجيع الحياة الطلابية»، بينما في العمق، يتعلق الأمر بميوعة مؤسسية تسحق القيمة الجامعية تحت أقدام الموسيقى والتجميل.
فهل وظيفة الجامعة اليوم هي الترفيه أم التكوين؟ هل نسينا أن الجامعة ليست حديقة عامة، بل مؤسسة من المفروض أن تشتغل وفق معايير أكاديمية صارمة؟
أسئلة بلا إجابات… أو لا يريد أحد أن يجيب
أين المجلس الأعلى للتربية والتكوين من هذه الظواهر؟
أين هي مجالس المؤسسات، ومجالس الجامعات، من كل هذه الانزلاقات؟
أين هي وزارة التعليم العالي من واقع يعرفه الجميع، ويتحدث عنه الداخلون والخارجون، لكنه لا يتحول إلى إجراءات إصلاحية؟
هل يمكن لبلد يريد الإقلاع التنموي أن يحتمل وجود جامعة من هذا النوع؟
نحو لحظة صحو مؤسسي
الجامعة المغربية لا تحتاج إلى تجميل واجهاتها، بل إلى ترميم عمقها العلمي. لا تحتاج إلى ترويج الصور بل إلى إنتاج أطروحات متينة.
لا تحتاج إلى فلكلور احتفالي بل إلى جدل فكري وأكاديمي صارم.
إذا لم نستفق، فإننا نخاطر بتخريج أجيال تحمل «شهادات احتفال»، لا شهادات علم.
وحينها، لن تكون الجامعة رافعة للمجتمع، بل عبئًا عليه، ومصدرًا إضافيًا للبؤس العام.
(*)باحث في العلوم السياسية
وقضايا الشباب
الكاتب : الدكتور عبد الإله طلوع (*) - بتاريخ : 31/07/2025