بين خرق الدستور والتراجع عن المكتسبات الحقوقية
سعيد بعزيز
دستورية القواعد القانونية مبدأ ملزم، وتختص المحكمة الدستورية في مراقبة احترام هذا المبدأ، بالنظر في دستورية القوانين من عدمها، تأكيدا لسمو الدستور على جميع النصوص التشريعية والتنظيمية، في إطار التراتبية، التي تكرس دولة القانون والمؤسسات.
فهل يعتبر، كما يعتقد البعض، مسودة مشروع قانون رقم 22.20 يتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، نصا دستوريا أم لا؟
لقد تطرق الدستور في تصديره إلى التشبث بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وفي الباب الثاني، وفي الفصول 19 إلى 40 للحريات والحقوق الأساسية، وفي إطار الحديث عن حرية الرأي والتعبير، نصت الفقرة الأولى من الفصل 25 على أن “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”، والفقرة الثانية من الفصل 28 على أنه “للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة”.
مما يعني أن حرية الرأي والتعبير مكفولة دستوريا، بكل أشكالها، لكن، عدا ما ينص عليه القانون صراحة، ومن خلال هذا الشرط، تم إصدار مجموعة من القوانين بهدف تنظيم مجالات مختلفة، منها على سبيل المثال، القانون رقم 88.13 يتعلق بالصحافة والنشر، الذي أكد على ممارسة الحقوق والحريات طبقا للدستور ووفق القانون السالف الذكر.
وفي مثال آخر، وفق ما نعيشه اليوم، تطرقت الفصول 24 و29 و35 من الدستور إلى أن “حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون” و”حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي… ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات”، و”تضمن الدولة حرية المبادرة والمقاولة، والتنافس الحر”، وهي حقوق مكفولة دستوريا، إلا أنها معلقة خلال فترة حالة الطوارئ الصحية بنص القانون، وتحديدا بموجب المرسوم رقم 2.20.293 الصادر في 24 مارس 2020 يتعلق بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا ـ كوفيد 19، والمرسوم رقم 2.20.330 الصادر في 18 أبريل 2020 بتمديد مدة سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا ـ كوفيد 19، الصادرين تطبيقا لأحكام مرسوم بقانون رقم 2.20.292 الصادر في 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها.
فالحرمان حاليا من الحق في التنقل والتجمع والتجمهر والتظاهر السلمي و بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبر إغلاق المحلات التجارية وغيرها من المؤسسات التي تستقبل العموم، لا تخالف أحكام الدستور.
فالمشروعية تبدأ من الدستور الذي تنبثق منه باقي القوانين التي توضع من أجل الضبط الاجتماعي، على اعتبار أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين كانوا أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له، لذلك، وكما تم تنظيم وتأطير مجموعة من المجالات، جاءت الحكومة بمسودة مشروع قانون رقم 22.20 يتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، بهدف ترشيد استعمال واستغلال هذه الفضاءات تماشيا مع التطور المتصاعد لتقنيات الاتصال الحديثة، وذلك بتحديد الأفعال التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، وزجر مرتكبيها بعقوبات حبسية ومالية أو إحداهما فقط، في إطار الدستورية دائما، لأنه لا يجوز القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون.
ومسودة المشروع في حد ذاتها، تؤكد على احترام المبادئ الدستورية، إذ تنص المادة الثانية منه على أن حرية التواصل الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح وباقي الشبكات المماثلة مضمونة. تمارس طبقا للدستور ووفق الشروط والضوابط الواردة في هذا القانون وفي النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل. وفق ما هو معمول به في كل النصوص القانونية المشابهة.
قد يقول البعض إنها تخالف مضمون الفصل 175 من الدستور، الذي يؤكد أنه لا يمكن أن تتناول مراجعة الدستور، الأحكام المتعلقة … بالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور”، فهذا المقتضى بدوره، وإن كان لتأكيد عدم مراجعتها سلبيا في المستقبل أثناء مراجعة الدستور، واعتبار الرصيد الحقوقي الحالي هو الحد الأدنى، بهدف جعل كل تجويد أو تغيير في الوثيقة الدستورية ينبغي أن يتجه نحو الأفضل، فالأمر يتعلق بعدم التراجع على مستوى المبادئ الدستورية، وليست التأطير القانوني من عدمه، أي أن التنظيم القانوني للأفعال المرتبطة بحريتي الرأي والتعبير في مجال معين، لا يعني بالضرورة تراجعا دستوريا أو خرقا له، على اعتبار أنه تم احترام روح الدستور وتنزيله عن طريق مشروع قانون يهدف إلى ضبط المجال.
فالإشكال في مشروع القانون لا يكمن في خرقه للدستور، كما يعتقد البعض، بل يكمن في تكريس سياسة يمينية تعادي الفعل الحقوقي ومبادئ حقوق الانسان والديمقراطية في شموليتها، إذ في الوقت الذي تتعالى الأصوات الوطنية الحداثية والديمقراطية للإشادة بالدستور والمطالبة بتنزيله بطريقة ديمقراطية، يفاجئ باستمرار سياسة التراجع عن الحقوق المكتسبة جراء العمل الحكومي والسياسة المتبعة، من خلال تضييق الخناق وتشديد العقوبة بشأن الأفعال المرتبطة بحريتي الرأي والتعبير عبر سن القوانين في الاتجاه السلبي عكس ما قامت به حكومة التناوب، وتعقيد مساطر ممارسة الحقوق والحريات المكفولة دستوريا، وتنامي منع الاحتجاج في الساحات العمومية، ومتابعة المدونين، واستمرار ظاهرة الامتناع عن تسليم وصولات الإيداع بشأن تأسيس الجمعيات أو تجديدها، وحرمان مغاربة الخارج من حقهم في التصويت والترشح انطلاقا من بلدان الإقامة، … في ظل وجود دستور متقدم، وقوانين ثابتة وجامدة، ترغب هذه الحكومة في تحريكها نحو الأسوأ…
إن احترام حقوق وحريات المواطنات والمواطنين مبدأ أساسي في الاشتراكية الديمقراطية، وتوجه مبدئي وتاريخي للاتحاد الاشتراكي في مسيرته النضالية والسياسية، وهو ما تتم ترجمته في كل وقت وحين، حتى في لحظة الكراسي، وعلى سبيل المثال مسار وحصيلة حكومة التناوب في المجال الحقوقي، وانطلاقا من بعده التقدمي والحداثي لإقرار الديمقراطية الحقة وبناء دولة الحق والقانون، والدفاع عن مشروعه المجتمعي الرامي إلى إرساء مجتمع لا تمس فيه أية حقوق أو حريات للأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية، لا يمكن أن يقبل بالتفكير في التراجع عن المكتسبات التي حققتها بلادنا في المجال الحقوقي.
فمسودة المشروع لا تشكل خرقا للدستور بل تكرس الشتات القانوني والتراجع عن الحقوق المكتسبة.
الكاتب : سعيد بعزيز - بتاريخ : 04/05/2020