تأملات في زمن الجائحة : كورونا والهجرة المعكوسة

عبد السلام الرجواني

من مدشر «هاني» بقبيلة «بني كرفط» الجبلية يمعن صديق عزيز، كل يوم، ونحن حبيسي جدران وهواجس رمادية، في استفزازي من خلال بعث صور آيات في الجمال الخلاب لأرض طيبة يكسوها الربيع وتزينها مجاري مياه دافقة، وطيور تذكرني زقزقاتها بأيام الصبا. لا أخفي أنني كلما شاهدت ذاك الخير والجمال، انتابني الندم على أني لم أختر الاتجاه نفسه قبل قرار الحجر والطوارئ، وألوم نفسي على غباء جعلني أستبدل مدينة بمدينة لا تختلف عنها إلا قليلا، وجدران بجدران هي كلها أقرب إلى سجن النبلاء. كنت أعتقد أن صديقي الجميل من القلائل الذين كان من حظهم « اللجوء» إلى حيث الخضرة والماء والهواء الطلق زمن ربيع اشتقناه. لكن يبدو ان العالم من أقصاء إلى أقصاء شهد منذ حل كوفيد التاسع عشر بيننا هجرة معكوسة من المدن إلى الأرياف، ومن المراكز إلى الأطراف ومن العالم المتقدم إلى المتخلف أو الأقل تقدما. الأرقام هائلة تتجاوز الخيال ليس فقط لأعداد المهاجرين في الاتجاهات المعاكسة لما كانت عليه الهجرات قبل أسابيع معدودة، وإنما نظرا للسرعة التي تمت بها والفوضى التي طبعت بعضها وحالة الهلع التي رافقتها.
أوردت صحيفة « لوموند» الفرنسية الذائعة الصيت معطيات تدعو للذهول بخصوص موجات الهجرات التي شهدها العالم، والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث:
143000 أوكراني عادوا من بولونيا من 24 مارس إلى 7 أبريل بينما عاد 200000 روماني إلى رومانيا في الفترة ذاتها؛
-280000 استرالي هرعوا إلى بلادهم منذ 13 مارس مقابل310000 غادروها على عجل وهم عمال وطلبة وسياح، مما أدى إلى أكبر تراجع لساكنة الدولة/ القارة منذ 1788م؛
– عودة 200000 طالب صيني يدرسون بالخارج عادوا إلى بلادهم، وعودة 25000 كمعدل في كل يوم قبل إغلاق المجال الجوي يوم 18 مارس؛

– وعاد 20000 لبناني إلى بلد الأرز رغم الظروف الصعبة التي اضطرتهم للرحيل، وأكثر من 6000 فنزويلي عادوا ايضا إلى فنزويلا التي غادروها هربا من الفقر والحياة القاسية….
إنها مجرد أمثلة عن حركات هجروية من نوع جديد لم ينج منها بلد في زمن صاحبة التاج كورونا العظيمة التي هزت اركان نظام هجروي قديم وأسست لجيل جليل من المهاجرين يمكن نعتهم بمهاجري الوباء أو المهاجرين الكورونيين على غرار مهاجري المناخ او اللاجئين البيئيين. من مفارقات موجات الهجرة الكورونية أنها هجرة جماعية كثيفة، سريعة من حيث وتيرتها، فوضوية من حيث وسائلها، عشوائية من حيث مساراتها. وهي كذلك لأنها تمت تحت ضغط الزمز والخوف من الضياع وعدم الثقة في المستقبل وفي حكومات الدول المضيفة. إنها مبررات موضوعية في ظل انكماش الدول على نفسها طلبا للنجاة بجلدها وجلد مواطنيها أولا، وفي غياب تضامن أممي أو حتى تنسيق دولي لمواجهة الجائحة. ولولا لجوء الدول إلى إغلاق الحدود لكان تدفق الهجرات المعاكسة أكبر سواء بين البلدان أو داخل كل دولة. فالخوف من العزلة، والحاجة إلى الدفء العائلي وألفة المكان، وما لهما من أثر على الشعور بالأمن والطمأنينة النفسية ، والبحث عن ملاذ اجتماعي يوفر الحد الأدنى من التضامن في الحياة والمساواة عند الممات، هي العوامل الكامنة وراء هذا الجموح الهجروي الذي لم يوقفه سوى إغلاق الحدود. ولولا الإغلاق لما حال طول المسافات دون هروب الناس إلى أوطانهم وإن بعدت وإلى مواطنهم داخل البلد الواحد مهما كانت نائية. ولنا في من ركبوا مغامرة العودة من ايطاليا واسبانيا إلى المغرب الحبيب، ومن قطعوا مئات الكيلومترات من مدينة الداخلة إلى ووازغيت على دراجات هوائية عادية، وفي من جاء من مدينة البوغاز إلى غفساي راجلا، أمثلة على صدق قول امرئ القيس: وما الحب إلا للحبيب الأول. إنها أمنا الأرض. فطوبى لصديقي العزيز بمدشر « هاني».

الكاتب : عبد السلام الرجواني - بتاريخ : 22/04/2020