تجربة ألم

محمد إنفي

لا أعتقد أن هناك ضرورة لتقديم تعريف معجمي لكلمة “ألم”. فالألم، بمعناه المادي (وجع، صداع، مغص…) والمعنوي (حزن، أسى…)، معروف لدى الجميع أنه يُسبب العذاب للإنسان؛ وقد يتجرعه المرء في أي لحظة. فهو كأس يتجرعها الكل، وإن برشفات مختلفة، إذ لا أعتقد أن هناك أناسا لم يجربوا الألم قط في حياتهم.
ليس في نيتي أن أتناول الألم كموضوع للتأمل والتفكير؛ وإنما هدفي تقديم تجربة شخصية مع الألم؛ لذلك، لن أقوم لا بتعداد أنواع الألم ولابتصنيفها؛ كما لن أبحث عن علاقة الألم بالمصدر المسبب له، مرضا كان أو غيره.
التجربة الشخصية التي سأتحدث عنها حديثة العهد؛ وبدايتها تعود إلى أواخر شهر أكتوبر الماضي؛ وبالضبط إلى يوم 29 أكتوبر 2019، الذي شهد حدثا سياسيا بارزا، احتضنه مسرح محمد الخامس بالرباط، والمتمثل في إحياء الذكرى الستين لتأسيس الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، تحت شعار «المصالحة والانفتاح». وقد تم اختيار هذا اليوم (يوم الوفاء) لما له من رمزية لأنه يصادف اليوم الذي تم فيه اختطاف واغتيال عريس الشهداء المهدي بنبركة.
لقد لقيت التظاهرة نجاحا كبيرا، رغم حملة التشكيك والتشويش التي سبقتها؛ مما أخرج بعض الجهات وبعض الأفراد عن طورهم، فراحوا يختلقون أحداثا وينسجون من خيالهم المريض حكايات حول غياب فلان أو علان،دون اعتبار لأي ظروف (مرض، سفر، التزام سابق مع جهة ما…) لِيدَّعوا بعد ذلك أن المصالحة الاتحادية- الاتحادية قد فشلت.
قد يقول قائل: ما علاقة ذلك بتجربة الألم؟ الجواب سيأتي لاحقا؛ أما كل هذا الكلام، فما هو إلا توطئة لموضوع؛ أي الحديث عن تجربة ألم. والألم الذي سأحكي عنه يتميز بأنه ألم مادي ومعنوي في نفس الآن؛ أو لنقل ألم حسي وألم نفسي.
ففي 28 أكتوبر 2019، وأنا أمشى بخطى حثيثة في شارع محمد الخامس بمكناس، مركزا انتباهي على الوجهة المقصودة،وقعت على الرصيف بعد أن خطوت خطوة في الفراغ، ففقدت التوازن. وكانت النتيجة كسر وانزياح في كتفي الأيمن بفعل قوة السقطة.
وصف لي الطبيب المختص صدرية تثبِّت الكتف واليد معا. أصبحت محروما، إذن، من استعمال يدي اليمنى.
حاليا، أنا في مرحلة الترويض، ويتمثل في القيام ببعض الحركات التي وصفها لي الطبيب، غايتهاأن تستعيد يدي اليمنى وظيفتها. وهي حركات تسبب بعض الآلام، لكنها ضرورية.
وبما أنني نزعت تلك الصدرية التي كانت تثبت يدي اليمنى، فقد جربت أصابعي في الكتابة التي حرمت منها لشهرين تقريبا، فوجدت نفسي محتاجا إلى ترويض من نوع آخر: الكتابة تحتاج أيضا إلى ترويض.
رغم بساطة هذا المقال، فقد تطلب مني وقتا ليس بالقصير. فأصابعي أصبحت بحاجة إلى التعود من جديد على لوحة مفاتيح حاسوبي الشخصي، وذهني يحتاج إلى استرجاع بعض المهارات الأسلوبية وبعض الملكات التحريرية. أضف إلى ذلك أن يدي مازالت تؤلمني؛ ويزداد ألمها أو ينقص حسب المدة التي أقضيها أمام الحاسوب، ناهيك عن الألم الناتج عن حركات الترويض.
ما كنت لأتحدث عن ألم الكسر، لو لم يكن هذا الكسر سببا في ألم أشد وأفظع؛ إنه ألم العجز. فما أقسى أن تجد نفسك في وضعية العاجز ! إنها كانت تجربة مؤلمة جدا بالنسبة إلي. تجرعت من هذا الألم القاسي كؤوسا طافحة. وما آلمني أكثر، أن أجد نفسي غير قادر على الكتابة لمشاركة إخواني وأخواتي في الدفاع عن حزب القوات الشعبية، إثر الهجمة الجبانة التي تعرض لها بعد نجاح الاحتفال بذكرى التأسيس. وما زادني ألما ، هو أن هاته الهجمة، لم تكن فقط من قبل بعض الجهات المعادية للاتحاد وتاريخه؛ ولكن أيضا من قبل بعض أبنائه، أو هكذا يزعمون، الذين لم يعد لهم من هم سوى تصفية الحسابات الشخصية مع القيادة الحزبية، دون الاكتراث بنتائج سلوكهم الهدام.
كنت أتابع بعض ما يكتبه الحاقدون والمتحاملون والمتربصون والمترددون والرافضون للمصالحة التي دعت إليها قيادة الاتحاد الاشتراكي. وكان عجزي عن الكتابة وعدم قدرتي على الرد على تلك الكتابات (أو على الأقل على بعضها)،يضاعف من ألمي المادي والمعنوي.ويبقى ألم الكسر هينا أمام ألم العجز الذي أراه أقسى الآلام بالنسبة للإنسان.
صحيح أن أخوات وإخوانا انبروا للرد على تلك الأقلام المغرضة،ولقنوا دروسا لأصحاب الحسابات الضيقة، والذين لايفوتون أي فرصة لتصفية حساباتهم مع الأشخاص أو مع الحزب. وكم كان يثلج صدري أن أقرأ لبعض الإخوان الذين استجابوا لنداء المصالحة، فشمروا على ساعد الجد للدفاع عن حزبهم بعد أن كانوا في صفوف الغاضبين أو المناوئين.
وبقدر ما كان هذا يثلج صدري بقدر ما كان يذكرني بعجزي. فكم كنت أود أن أساهم معهم، ولو مساهمة بسيطة، وأضم صوتي إلى صوتهم لتعضيد صفوف الأوفياء لحزبهم، مهما كانت الظروف !لكن لا سبيل إلى ذلك. فكل ما كنت أقوى على فعله، هو مشاركة تلك الكتابات الرصينة مع أصدقائي الافتراضيين حين أصادفها في الفيسبوك.
وما دام الأمر يتعلق بالحديث عن الألم (الألم النفسي، أقصد؛ أما الحسي أو العضوي، فما تحدثت عنه إلا عرضا أو لنقل إلا من أجل إبراز هذا الأخير كسبب للألم النفسي)، فلا بد من الإشارة إلى أنه قد انضاف إلى ألم العجز ألم الحزن والأسى. ففي المدة الأخيرة، انطفأت شمعة من شموع الاتحاد وشبيبته ونسائه؛ فكان فراقا أليما، تمثل في انتقال أختنا العزيزة الغالية «انتصار» إلى جوار ربها.
إن قلبي (كما قلوب كل الذين عرفوا الراحلة عن قرب وأحبوها، وفي طليعتهم بن الشبيبة الاتحادية ورفيقها في السراء والضراء، الأخ علاء بختي الذي لازمها طيلة رحلة العلاج التي دامت أكثر من ثلاث سنوات، وما ضجر أو اشتكى) مازال يعتصر حزنا على غيابها الأبدي.
لقد أبكت برحيلها الداني والقاصي وتجمع حول جثمانها لتوديعها إلى مثواها الأخير، جمهور غفير من الاتحاديات والاتحاديين من أكادير إلى طنجة ومن فاس إلى وجدة، يتقدمهم الكاتب الأول للاتحاد، الأخ إدريس لشكر وعدد من أعضاء المكتب السياسي والمجلس الوطني والمكتب الوطني للشبيبة الاتحادية والمنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات، فضلا عن تمثيليات سياسية وجمعوية وازنة من مشارب مختلفة،وطنيا ومحليا، ، نظرا للسمعة الطيبة التي كانت تتمتع بها لدى الجميع.
لكن، كل هذا لم يثن بعض السفلة عن استغلال مرضها ووفاتها لحسابات دنيئة، فأرادوا أن يصنعوا من رحيلها إلى دار البقاء دليلا على فشل المصالحة، كما لو أنهم كانوا يتحينون هذه الفرصة للتشفي وتصفية الحسابات الشخصية والسياسية، دون اعتبار للفاجعة وللمصاب الجلل.
ولايمكن أن يصدر مثل هذا السلوك إلا عن أناس، أقل ما يمكن أن يقال فيهم، أنهم عديمو الأخلاق والضمير، وفاقدو الشعور الإنساني. فأن يركب بعضهم على الفاجعة التي حلت بنا، من أجل تصفية حسابات شخصية مع الكاتب الأول أومع بعض القياديات والقياديين، لهو-لعمري- منتهى الدناءة والنذالة والخسة. وكم هو مؤلم-فعلا- أن تشعر أن في محيطك، سواء القريب منه أوالبعيد، عينة من هذه الكائنات.
رحم الله أختنا انتصار وأكرم مثواها؛ ودعواتنا بالشفاء لمرضى النفوس ومعتلي الضمير.

الكاتب : محمد إنفي - بتاريخ : 26/12/2019