ثقافة التدمير وواجب المواجهة…
فدوى رجواني
هناك حقائق تاريخية وأخرى راهنة لا يمكن إنكارها إلا من قبل من لا تاريخ له، ومن يرى الراهن بعيون أصابها الحول الفكري وعطل التياسر، في نسختيه «الثورية الشعبوية» والاسلاموية التكفيرية، قدرته على النظر العقلي والعقلاني لما يعتري مجتمعنا من تناقضات، وما ينتظر وطننا من رهانات حقيقية.
يقول التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، أن المغرب لم يجد طريقه الصعب والمعقد نحو الديمقراطية، التي بطبيعتها صيرورة ونمو وتطور لولبي لا ينتهي ولا يكتمل أبدا، إلا بعد أن حصل توافق تاريخي على ضرورة نبذ العنف وتحقيق مصالحة وطنية والانتقال من الصراع التناحري إلى التنافس الديمقراطي وفق دستور جديد ومتجدد.
ويشهد التاريخ القريب أنه منذ ذلك التوافق التاريخي بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية الديمقراطية التقدمية، انتعشت الديمقراطية ببلادنا، وتحققت مكاسب مهمة على المستوى الدستوري والحقوقي، وفي مجالات العمل السياسي والنقابي والجمعوي، وحول قضايا المرأة والحريات العامة؛ مما أتاح لكل التعبيرات السياسية والفكرية، حتى وإن كانت هامشية، التعبير عن ذاتها، وممارسة أنشطتها، بل التظاهر والاحتجاج، وترديد شعارات «ثورية جدا» و»جذرية جدا». وكان أكبر المستفيدين من المصالحة وجبر الضرر، ومن «الريع الحقوقي» والعمل الجمعوي «المقاولاتي» اليسراويون تحديدا، ومن التناوب السياسي والعمل المؤسساتي من بوابة تدبير الشأن العام الإسلامويين قبل غيرهم.
ويشهد التاريخ ان أول من نظر ودعا ومارس النضال الديمقراطي، في بعديه الشعبي والمؤسساتي، عبر جدلية تاريخية صاعدة، ووفق رؤية تاريخية موضوعية لموازين القوى داخل المجتمع، هي الحركة الاتحادية المتجددة، التي كان التقرير الاديولوجي للمؤتمر الاستثنائي مرجعا لها، ونبراسا لممارستها النضالية. في ذلك العهد، اعتبر الاختيار الديمقراطي انتكاسة ثورية، وخطا إصلاحيا، ومساومة مع النظام من قبل قيادة البورجوازية الصغيرة.
حين أبانت إستراتيجية النضال الديمقراطي نجاعتها، بعد مسار نضالي مليء بالتضحيات والألم والاستشهاد حتى، التحق كثير من أصحاب الجملة الثورية، وإن كان البعض منهم فعل بعد تردد، بالعمل السياسي الشرعي والمؤسساتي، فخاضوا الانتخابات، ودخلوا قبة البرلمان ، وسيروا مجالس، و»قاتل» بعضهم لولوج مؤسسات دستورية حاتمية.( استثني من هذا التخبط السياسي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي قامت بمراجعة فكرية جريئة، وتبنت شعار دمقرطة الدولة والمجتمع منذ لحظة التأسيس).
ومما لا يقبل الجدل، أن تجربة التناوب التوافقي فتحت آفاقا سياسية واعدة، كان أهم ملامحها تفاعل المواطن مع الحياة السياسية، وعودة الثقة بالحكومة، وإحياء الأمل في الإصلاح والتنمية. غير أن إجهاضها عمدا، وعن سبق إصرار، من قبل « المركب الاستغلالي المصالحي» و»جيوب المقاومة»، أدى إلى إجهاض الأمل وكبح الدينامية الجديدة، وإرباك القوى الحاملة للمشروع الديمقراطي، التي اختارت السكوت عن ضرب المنهجية الديمقراطية، والاستمرار في تدبير محدود ومتحكم فيه للشأن العام؛ مما أساء لصورتها، وقلص من شعبيتها، وأفسح المجال، إلى جانب تحولات اجتماعية وثقافية عميقة وسياقات إقليمية ودولية متقاطعة، أمام صعود قوة سياسية/ اجتماعية لا يهمها من الديمقراطية سوى العملية الانتخابية التي حملتهم إلى السلطة.
ويشهد الواقع الراهن، أن إجهاض المجهود التنموي لحكومة التناوب الأول الذي حاول، رغم الظرفية الاقتصادية الصعبة، تقوية الاستثمار وإعادة توزيع الثروة ( الرفع من الأجور) وإنصاف البادية ( الكهربة والماء) ومأسسة الحوار الاجتماعي، وإطلاق مشروع إصلاح التعليم( الميثاق الوطني للتربية والتكوين)، أعاد (الإجهاض) عقارب التطور الديمقراطي إلى الوراء؛ وهو أمر طبيعي لأن الديمقراطية لا يمكن أن تنمو وتتطور في بيئة اجتماعية واقتصادية بئيسة، يعمها الفقر والحرمان والإقصاء والشعور بالدونية، وتنخرها الأمية في مختلف صنوفها ومستوياتها.
ويتبين من التجربة أن التفاوت الحاصل بين التطور الديمقراطي في شقة الدستوري/ التشريعي/ القانوني/ المؤسساتي من جهة، والوضع الاقتصادي الاجتماعي والثقافي المتردي من جهة ثانية، أدى حتما إلى حدوث نكوص في الوعي الديمقراطي، وذبول الأمل في الإصلاح، وتراجع الثقة في السياسة الحكومية، خاصة أن التدافع القوي بين الأحزاب السياسية القوية انتخابيا، والذي تجاوز في مناسبات كثيرة قواعد الخطاب السياسي المسؤول والمتزن، قد أسهم في تبخيس السياسة والمؤسسات الدولتية. وقد كان للخطاب «البنكراني» عن التحكم ومعاكسة الإرادة الشعبية، ثم عن خذلان الإخوة الذين أعمتهم الغنيمة فنسوا الحركة والعقيدة، قسط وافر في تبخيس الأحزاب بما فيها العدالة والتنمية، والسياسة والعمل الحكومي، وفي إذكاء الحركة الاحتجاجية والخطاب الشعبوي.
وفي ظل هذا المناخ المطبوع بالتشكيك في مصداقية الحكومة، تصاعدت الحركة الاحتجاجية في مناطق مختلفة من المغرب، قاسمها المشترك أنها عانت من التهميش منذ الاستقلال.
لم تفلح كل محاولات الوساطة، وكل التصريحات الواعدة، والمبادرات الفعلية في تهدئة الأوضاع وتغليب منطق الحوار. في غياب الوساطة الحزبية، وغياب قيادة مسؤولة للحراك، مفوض لها بالتفاوض وبحث الحلول الممكنة، كان الصدام والعنف والاعتقال ثم المحاكمات والأحكام القاسية، وكانت المقاطعة. وهي التطورات التي تفاعل معها الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي ما فتئ بعض روادها يحرض على مزيد من الاحتقان من وراء الحجاب دون أن يكلفوا أنفسهم حتى المشاركة في وقفة تضامنية. ومن مفارقات مشهدنا السياسي السريالي، أن بعض قواعد الحزب الأغلبي يتزعمون ثقافة التدمير، دون أن تعمل القيادة الراشدة على نهيهم عما هم فيه محترفون، بل منهم من شبه رئيس الحكومة ببنعرفة ومز الانقلاب على الشرعية.
هكذا ضاع الخياطون في جلابيبهم، وضاعت الحقيقة، وتوارى العقل. مقابل ذلك شاع الخطاب الغوغائي في كل مجلس، وتناسلت الزعامات الزاعقة، فازداد اللبس لبسا والالتباس التباسا، وأصبحنا فعلا أمام أزمة مركبة واختيارات صعبة ومضرة بالمسار الديمقراطي الذي قطعنا فيه أشواطا، لكن دون أن نحقق الطفرة النوعية المنشودة، لعلل فينا، ولمتانة التقليد والمحافظة في بنيات الدولة والمجتمع على السواء.
أن يعيش المغرب مخاضات صعبة كالذي نعيشه اليوم ليس حالة جديدة، وهو البلد الذي اجتاز، بعد الاستقلال وبداية السبعينات، عواصف سياسية هوجاء بسبب التدبير اللاديمقراطي للصراع الذي بلغ أوجه باللجوء إلى السلاح ولعنة الانقلابات الدموية من جهة وإلى افتعال المؤامرات وإعدام المعارضين من قبلالنظام.
في تلك الشروط المأزومة تفجرت الانتفاضات، ونشأت البلانكية واليسراوية بكل تلاوينها، و»أبدع» منظرو اليسراوية تحاليل أشبة ب « انقل والصق» «copier- coller» عن تجارب ثورية عالمية، اعتبرت أن النظام يعيش أيامه الأخيرة جراء نضج الشرط الثوري موضوعيا، في إطار أزمة الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية وآخرها، وما على النخب اليسارية سوى تحقيق الشرط الذاتي ب»بناء الحزب الثوري تحت نيران العدو». إنها اليوطوبيا في أبهى تجلياتها، لكن كان لها ما يبررها وطنيا ( القمع الأسود)، وكونيا( حركات التحرر الوطني والصراع بين المعسكرين)، وكانت تمتح من مرجعية فكرية ومدرسة سياسية واضحة، وكانت لها قيادة شجاعة ومتمرسة في النضال النقابي والطلابي والجمعوي.
مع الأسف أن تضحيات اليسار الماركسي اللينيني خلال السبعينات كانت أكبر بكثير من المكتسبات على أهميتها الثقافية والفكرية، مما يؤكد أن طريق الإصلاح المتدرج أنفع وأجدى للبلاد والعباد ضمن سياق ثقافي واجتماعي وسياسي يحكمه وعي متأخر. ولنا بهذا الصدد في المآلات المأساوية ل» الثورات العربية» أقوى حجة عل صحة هذه الأطروحة.
ومما هو أكيد أن «الأزمة» الراهنة ليست بنفس العمق والقوة التي طبعت زمن الاختيار الثوري وموسم الانقلابات، رغم الصدى الإعلامي الناجم عن التطور المذهل لانفتاح المغاربة على تكنولوجيات الاتصال الحديثة ونزوعهم العجيب لاستعمالها في ما يحزن ويؤلم دون ما يسر ويفرح. فمغرب اليوم ليس كمغرب الأمس، سلبا وإيجابا، وإن كان مغرب اليوم استمرارا تاريخيا جدليا لمغرب الأمس، على اعتبار أن الحاضر يحتوي الماضي ويتجاوزه. وبناء عليه، فإن الاتجاهات العقلانية ذات التوجه الإصلاحي، والتي خططت للانتقال الديمقراطي وهندست لعملية التناوب التوافقي، ما زالت – رغم ما أصاب صورتها من خدوش السلطة وما اعترى جسمها من وهن الطريق في معنيه المادي/ الفزيقي والرمزي/ المعنوي- حريصة على استكمال البناء الديمقراطي باعتباره صرحا متكامل العمارات، لن يصان ولن يكتمل إلا عبر توافق وطني جديد، تشارك في بلورته كل مكونات المجتمع المغربي دون إقصاء. وبالمقابل، فإن النزعات اليسراوية تحت مسمياتها المختلفة، والتي لا يخلو منها أي حزب معتدل، لا بد أن تجد في الأزمة الراهنة فرصة للتعبير، عن وعي أو غير وعي، عن مكنونها الثوراني الرفضوي، والانتشاء بترديد شعارات بعضها مستورد من قبيل ( ارحل) وبعضها بالي عتيق ، ومقولات تجاوزها التطور الموضوعي للبنيات الاجتماعية والسياسية من قبيل مقولتي المخزن والكومبرادور ، معتقدة أن زمن الثورة حل من جديد، وأن النصر قريب. ومن عجائب الدهر أن تلتقي اليسراوية الجديدة، البئيسة فكريا والمتهافتة سياسيا، مع اطروحات الأصولية الدينية ومشتقاتها السياسية، مع اختلاف المصطلح والإحالة والمرجع. كلاهما ينكر ما عرفه البلد من تقدم، ويمارسان إرهابا فكريا على من يخالف نهجهما، ويتوعدان المخالفين بأن عاقبتهم مزبلة التاريخ حسب دعاة اليسار، ومأواهم جهنم في اعتقاد الأصولية التكفيرية.
اجل، مغرب اليوم ينعم بالاستقرار الذي لم يكن أبدا نفيا للحق في التعبير والتظاهر، وهو مغرب دولة الحق والقانون والمؤسسات، ولم تخل أية ديمقراطية من أخطاء وتجاوزات، وهو مغرب التعددية السياسية والتداول على الحكم، رغم ما يشوب التدافع الانتخابي من تزييف وغش، وهو مغرب التسامح والتعايش رغم نزوعات التطرف والانتصار لهويات فرعية. وفي ذات الوقت، ما زال لم يقطع مع ثقافة الريع السياسي واقتصاد الريع، وما يتصل بهما من فساد مالي وإداري وتوزيع غير عادل للثروة اجتماعيا ومجاليا، وما زالت ديمقراطيته معرضة للنكوص وقابلة لان تكون مطية ل»استبداد/ديمقراطي» شبيه بالنموذج الأردوغاني.
إن تعزيز المسار الديمقراطي للمغرب لن يتم إلا عبر:
– عدالة اجتماعية ومجالية ضمن نموذج تنموي جديد يسعى إلى خدمة الإنسان المغربي عبر تأهيله للمشاركة الواعية في إنتاج الثروة وفي اتخاذ القرار وفي تدبير شؤونه المحلية والوطنية؛
– إرساء دعامات دولة قوية تستمد شرعيتها من خدمتها للشعب، دولة متصالحة مع ذاتها ومع المواطنين، تنصت لنبض الشارع وتتفاعل معه إيجابيا؛
– انتصار قيم المواطنة الحقة وثقافة الحق والواجب واحترام القانون والمؤسسات من قبل الجميع أفرادا وجماعات.
على هذا الأساس تتحمل النخب السياسية والثقافية مسؤولية تاريخية لإنقاذ ديمقراطيتنا الناشئة من العبث ومن مخالب ثقافة التدمير. إنها مسؤولية مزدوجة اتجاه الدولة والمجتمع، إذ على النخب ممارسة النقد ومعارضة النزوع التسلطي للدولة ولجم جبروتها، والنهوض بتأطير المجتمع وتنمية وعيه الديمقراطي. بمعنى آخر أن النخب الديمقراطية الحداثية مطالبة اليوم باستعادة المبادرة وصياغة ميثاق وطني جديد وبناء كتلة ديمقراطية جديدة وواسعة جديرة بإعادة الاعتبار للسياسة.
أقول قولي هذا وأنا واثق بأن الجماهير المستبدة لن يقدروا سوى على إبداء تعليقات ساخرة أو ماكرة… وقد يلجأ عديمي الأخلاق منهم إلى السباب في الشخص والانتماء. ردود أفعال هؤلاء لا تعنيني إلا باعتبارها تمظهرات مرضية لداء البؤس الفكري والضحالة السياسية التي هم ضحاياها. من يهمونني ليسوا بالضرورة من يوافقونني الرأي، وإنما هم القادرون على النقاش المسؤول والرصين لقضايا الوطن الذي يعلو ولا يعلى عليه.
الكاتب : فدوى رجواني - بتاريخ : 13/07/2018