جبهة البوليساريو وفرصة النجاة
محمد بنمبارك (*)
بعد المقالين السابقين عن أساليب تدبير الصراع بين الجزائر والمغرب، حيث صلب وجوهر وحقيقة المواجهة، يأتي الدور على جبهة البوليساريو لفحص رؤيتها للأوضاع الراهنة وهي تتابع كيف تحول المشهد بالمنتظم الدولي وقوفا إلى جانب الحق وعدالة القضية المغربية بشكل ثابت وراسخ. لاسيما بعد توالي الاعترافات الدولية، وتراجع العديد من الدول الافريقية عن الاعتراف بالجبهة الظرفية، بل هناك دول إفريقية باتت تطالب بتعليق عضويتها بالاتحاد، وهو القلعة التي كانت تتحصن به الجزائر وتستغله، لكن العودة الموفقة للمغرب للاتحاد الإفريقي وضعت حدا لفوضى وعبث الجزائر وحلفائها داخل أروقة هذا الاتحاد، الذي سلم مقاليد تدبير هذا النزاع إلى الأمم المتحدة، بفضل جهود الدبلوماسية المغربية.
لكن قبل هذا وذاك دعونا نستفسر عن ماهية قضية البوليساريو؟ التي تدعي باختصار أنها تدافع عن « الشعب الصحراوي» وتنصب نفسها «ممثلا شرعيا» له بغاية « الانفصال وإنشاء «دولة»، فما مدى مصداقية هذه الادعاءات من الناحية الواقعية والنظرية والتاريخية؟
بالعودة إلى سنوات 1974، 1976،1975، تظهر الصورة جلية من خلال العديد من الوثائق والأبحاث والدراسات التاريخية، لما نجد ودون عناء أن الأمر في مجمله يعود لكيان أفرزته ظروف سياسية نمت في بؤرة التدافع الجيوسياسي المغربي الجزائري، وواقع صراع إيديولوجي مرير بينهما بالمنطقة، تشكلت في ظله مجموعة صحراوية مغربية معارضة، احتضنتها الجزائر ومعمر القذافي ووفرا لها تسليحا نوعيا تشكلت معها عصابات مسلحة، ودفعا بها لخوض حرب ضد المغرب، الحديث العهد باسترجاع صحرائه، في أكبر خيانة إقليمية من الأشقاء. وقد شاركت في تلك المعارك فِرَق من الجيش الجزائري.
التاريخ كشاهد، يحكي أن الصحراويين لم يسبق أن كانت لديهم دولة خاصة بهم، بل كانت الصحراء امتدادا ترابيا للمغرب ولقبائلها روابط البيعة بسلاطين المملكة، وهي الحقائق التي أكدتها محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري 1975، أما العوامل والأسس المفترضة لتكوين كيان الدولة/الأمة فلم يكن لها وجود.
المثير للدهشة في هذا النزاع، تلك التحولات السريعة الغريبة في الموقف الجزائري، فمن الدفاع عن مبدأ عام يعكس التضامن مع الشعوب من أجل التحرر، إلى تبني قضية الصحراء إلى الدعوة لتقرير مصير الشعب الصحراوي إلى المطالبة بالاستفتاء إلى إنشاء جبهة البوليساريو إلى تأسيس «الجمهورية العربية الصحراوية» واحتضانها داخل «أراضيها» كل ذلك في ظرف سنتين، وهي حالة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. فبات البوليساريو بين عشية وضحاها يشكل كيانا مستقلا في غياب لكل المقومات الأساسية لتأسيس دولة، دون شعب بمفهومه السياسي، ودون أرض ضامنة للحضور الجغرافي للوطن ودون سيادة. فعن أية دولة وأمة تتحدث الجزائر وصنيعتها البوليساريو؟ التي تأسست على كَمٍّ هائل من المغالطات المضللة والحقائق المزيفة. فإذا انتفت شروط وجود «شعب»، تنتفي معها صلاحية من يَدَّعي قيادته، طبقا للقاعدة الفقهية « الفرع يَسْقُط إذا سَقَط الأصل».
لابد هنا من تسليط الضوء سريعا، لمعرفة دوافع الاقدام الواسع للعديد من الدول عبر العالم، التي ساندت الأطروحة الجزائرية ودعمت ما يسمى «الشعب الصحراوي وجبهته وجمهوريته»، سنجد بأنها قامت على قاعدة البؤرة الثورية لدى أوساط سياسية يسارية عبر العالم بالالتفاف على مفاهيم سياسية وفكرية فضفاضة، أفرز معه انطباع لدى قسم من الرأي العام الدولي بأن هناك شعبا صحراويا يريد الاستقلال، وما الجزائر سوى فاعلة خير، في ظل غياب أي بحث أو تدقيق لحقيقة هذا «الشعب» المُخْترَع.
تحول المشهد وقتها من حقائق التاريخ والجغرافيا وقواعد القانون الدولي، إلى الأيديولوجيا، حيث الصراع بين التقدمية والرجعية عربيا، ودوليا بين المعسكرين الرأسمالي الليبرالي والاشتراكي الشيوعي. وإذا كان زمن المعسكرات الإيديولوجية قد اختفى اليوم ولم يعد له أثر، فإن فاعل الخير قادة الجزائر ظل على حاله، تحول الموقف لديهم إلى عقيدة أقاموا عليها دعايتهم السياسية والدبلوماسية والمعززة بالدعم المالي والعسكري على مدى نصف قرن ولازالوا. القضية دخلت اليوم مرحلة اللاعودة، حيث انكمش أنصار الاطروحة الانفصالية الواهمة وتراجع زيف البوليساريو وحكامهم.
البوليساريو تتخبط منذ سنوات في مشاكل جد معقدة وهناك تضارب في المواقف بين قادتها وصراعات، وظهرت أصوات قيادية تَحَّلَّت بالواقعية متجاوزة الخطوط الحمراء الجزائرية، حين دعت قبل سنوات، إلى التغيير في النهج ومراجعة الخط السياسي للجبهة. نذكر منهم: امحمد خداد، الموريتاني الأصل، أحد أبرز قادة الجبهة رئيس ما يسمى بلجنة شؤونها الخارجية، المتوفى سنة 2020، مصطفى سيد البشير، الذي كان يشغل، منصب «وزير» لما يسمى بـ «الارض المحتلة والجاليات»، الناشط الصحراوي محمد سالم عبد الفتاح، والقيادي أحمد ولد سويلم.
وقد اجمع هؤلاء على عجز الجزائر والبوليساريو عن إقناع المنتظم الدولي بأطروحتهم، معتبرين أن المغرب كسب قضية الصحراء، وأن المناصب الحكومية للجمهورية وهمية غير ذات قيمة، حين تُصَنِّفهم وكالة اللاجئين الدولية كلاجئين، بمن فيهم رئيس الدولة ابراهيم غالي الذي تتعامل بصفة لاجئ، وأكدوا أن حالة اليأس الضياع تطبع القيادة في ظل غياب شروط الدولة قابلة للحياة والمصير المجهول للجبهة، واستمرار الاعتماد كلية على الجزائر، وكشف أحدهم أن أغلب قادة البوليساريو، تعود أصولهم إلى مناطق خارج الساقية الحمراء ووادي الذهب ومن الجزائر وموريتانيا ومالي وعديمي الجنسية، لا تربطهم أية صلة بالصحراء، ويطالبون بالانفصال.
خارج نطاق القيادة الانفصالية المهتزة الأركان، هناك المأساة الإنسانية للاجئين، بمخيمات تندوف، الذين أقحمتهم الجزائر والبوليساريو في منطقة النزاع كمحاولة لاختراع «شعب صحراوي»، وترفض الجزائر الامتثال للقرارات الدولية الداعية إلى إحصائهم والكشف عن هوياتهم، والذين يعيشون على المساعدات الإنسانية في ظروف صعبة ومقلقة، محرومين من أبسط الحقوق وشروط الحياة الكريمة، تُقْتَل أحلامهم وتطلعاتهم، ويُصَور احتجازهم غير الطوعي في غيتوهات «نضالاً ضد عدو»، في أكبر مأساة إنسانية تجري على أرض الجزائر. وتعمد البوليساريو الى تضخيم أعداد قاطني المخيمات من خلال استقطاب البدو الرحل من مناطق متفرقة جنوب شرق الجزائر الى جانب قبائل صحراوية وامتداداتها في شمال موريتانيا ومالي وغيرها، لاستخدامهم كورقة ضغط سياسية للتلاعب بها دوليا وضد المغرب.
وهو الامر الذي يختلف كُلِّية عن أوضاع ساكنة مختلف مدن الصحراء المغربية، حيث توفرت لديهم كل فرص العيش الآمن والمستقر من سكن وعمل وتجارة ومرافق إدارية وقضائية وصحية وتربوية وتعليمية ورياضية وترفيهية وسياحية وبنيات تحتية من طرق وموانئ ومطارات وغيرها، فضلا عن انخراطهم في الحياة السياسية والمدنية وفي التنظيمات الحزبية مع ضمان تمثيليتهم في مختلف المؤسسات الدستورية، البرلمان بمجلسيه وتدبير شؤونهم المحلية عبر مجالس الجهة والمجالس البلدية. فضلا عن كون الأقاليم الجنوبية أصبحت مركزا دبلوماسيا وقطبا حيويا للاستثمار والسياحة والنشاط الاقتصادي الواسع وطنيا وإفريقيا ودوليا.
ويرى العديد من المحللين السياسيين والمراقبين الدوليين آنه الأوان لجبهة البوليساريو التوسع في الفهم والاجتهاد للخروج من الأَسْر لفكرة الانفصال التي سيطرة على عقلية قياداتها ردحا من الزمن، وتبين مع هذا الرَّدْح أن الدعوة للاستفتاء والاستقلال مشروع وهمي غير قابل للتطبيق، لم يتمكن لا من اقتلاع المغرب من جدوره ولا إقناع العالم بذلك.
كان يفترض أن يتمعن قادة البوليساريو في خُطب الملك محمد السادس وتأخذها على محمل الجد وتجري قراءة لظاهرها وما بين سطورها بشكل عقلاني منفتح براغماتي بروح وطنية، بعيدا عن أي غلو أو تعصب خارج نطاق المِلَّة الجزائرية.
في ضوء ذلك، على البوليساريو الانتباه إلى السياق التاريخي الجيوسياسي، الذي يتحكم في قضية الصحراء، والذي يَبْرُز كعقيدة ثابتة لجزائر تعتبر المغرب عدوا أبديا، وتأسيسا على هذه المُسَلَّمة، يصبح ملف الصحراء مجرد ذريعة تخدم مصلحة استراتيجية للجزائر، وبالتالي تظل مسألة هذا النزاع مجرد ملف من بين ملفات عالقة. وهذه حقيقة على قادة البوليساريو إدراكها واستيعابها، لأنها مرتبطة أساسا بالدور الذي يلعبونه لصالح حكام الجزائر ليس إلا….
ويبدو التساؤل مُلِحا على الصعيد الإقليمي حول دور البوليساريو ومكانته في هذه الجغرافيا الواسعة النطاق عربيا وإفريقيا، فأين يمكن نضع تنظيما بحجم رؤية مجهرية «بوليساريو» مرهون لدولة أخرى أثبتت الوقائع على مدى 49 سنة أنه غير قادر على الحياة دون سند حاضنه, فحينما يجري الحديث عن التوازنات الاستراتيجية والمصالح الجيوستراتيجة والاقتصادية والأمنية والعسكرية والبشرية بالمنطقة وموازين القوى بين دول مركزية: المغرب، موريتانيا، الجزائر، تونس، السنغال والدول المتاخمة للصحراء كمالي والنيجر وتشاد، واستحضار أهمية بقية دول الشمال الافريقي ليبيا ومصر، عندها يَنْمَحي اسم البوليساريو لافتقاره لكل المقومات الأساسية لحجم وحقيقة الدولة.
وعلى الجبهة أن تعرف حقيقة حجمها عسكريا وتستفيد من درس مغربي بليغ، لما تجرأت ميليشياتها على اقتحام معبر الكركرات، فقد بدأت عندها كل الأمور تتضح جليا للمغرب، وتبين أن البوليساريو قد فتحت جبهات حرب أخرى للقتال، لم تكن لتُغامر بها منفردة وتتحمل عواقبها، لولا التوجيه القيادي للجيش الجزائري بهدف، غبي غير محسوب العواقب، محاصرة المغرب جنوبا. ولعل مثل هذا التطور الخطير هو الذي دفع القوات المسلحة الملكية منتصف نوفمبر 2020، للسيطرة كلية على المعبر وتطهيره من مقاتلي الجبهة دون عناء، وتعبيد الطريق وتسهيل ورفع وتيرة عبور السلع والبضائع والمسافرين في أمن وسلام. في رسالة مغربية صارمة لحكام الجزائر بالدرجة الأولى، الذين خسروا الرهان وتحطمت آمالهم للهيمنة على المعبر الحدودي ذي العمق الموريتاني الإفريقي البالغ الدلالة السيادية.
لا شك أن البوليساريو تدرك جيدا أن الاطروحة الجزائرية آيلة للسقوط. وبات على قادتها التمتع بسعة الأفق والالتفات إلى مصيرها، وعدم إهدار الفرصة التاريخية واتخاذ القرار المناسب في التوقيت الأنسب، على الرغم من إدراك أن الجبهة لا تملك حرية اتخاذ موقف مستقل عن الجزائر.
وهو ما يفرض معه السؤال الملح التالي: حول كيفية فك هذا الارتباط الأسطوري بين النظام الجزائري والبوليساريو وظرفيته؟ وهل البوليساريو قادرة على التحرر من قبضة الجزائر، وإسقاط ما بيدها من أوراق اللعبة؟ وهل الجزائر بدورها قادرة على استيعاب تحولات المشهد الدولي والافريقي حول مغربية الصحراء، والانتقال الحاسم والشجاع إلى مرحلة الحل؟ أم أنها لازالت تحت وقع الصدمة والاحباط والتخبط ؟ تمارس كعادتها لعبة اختراع الاوراق وخلطها والتشويش العبثي.
* دبلوماسي سابق
الكاتب : محمد بنمبارك (*) - بتاريخ : 29/11/2024