حديث في الفكر القانوني المغربي .. بين سلطة النص وروح العدالة

n عــمـر صـبـار
منذ نشأة القانون، رافقه سؤال جوهري: هل نحتكم إليه لأنه عادل، أم فقط لأنه مفروض؟ في هذا الحوار، يتواجه «فيلسوف القانون» و»القانوني الوضعي»، في نقاش عميق حول مصدر الشرعية، وحدود النص، وعلاقة القانون بالحرية والتكنولوجيا، مع استحضار السياق المغربي وتحدياته.
شرعية القانون:
بين السلطة والمعنى
الفيلسوف: دعني أبدأ بالسؤال الجوهري: من أين يستمد القانون شرعيته؟ من مجرد صدوره عن سلطة معترف بها؟ أم من تطابقه مع ما نعتبره عدالة في وعينا الجمعي؟
القانوني: من الاثنين، لكن لا يمكن للقانون أن ينتظر ضميرًا جمعيًا متقلبًا، هو يسير وفق منطق الدولة والمؤسسات. غير ذلك هو الفوضى.
الفيلسوف: هذا تحديدًا ما ناقشه غوستاف رادبروخونيتشه وفوكو، حين ينفصل القانون عن القيم، يصبح أداة للسيطرة لا للعدالة. وروسو نبّه إلى أن القوانين قد تُقنّن الظلم حين تُصاغ باسم الأقوياء.
القانوني: لا أنكر وجود قوانين جائرة. لكن العدالة لا تتحقق بالنص وحده، بل عبر وعي مجتمعي ومؤسسات مستقلة. لا يجب تحميل القانون ما لا يحتمل.
القاضي بين النص وروح القانون
الفيلسوف: وهل القاضي مجرد منفّذ؟ أين روح القانون؟ أليس عليه أن يكون عقلانيًا وأخلاقيًا؟ حيث قال رادبروخ، بعد الحرب العالمية الثانية، إن القاضي الذي يطبّق قوانين ظالمة يشارك في الجريمة.
القانوني: نعم، يملك القاضي سلطة التفسير، لكن ضمن حدود النص. فوكو بدوره حذّر من التأويل المنفلت، لأنه قد يتحول إلى سلطة جديدة،فالتوازن ضروري.
الفيلسوف: بل فوكو كشف أن القانون نفسه أداة للضبط الاجتماعي. العدالة تتطلب مساءلة الجوهر: من يضع القانون؟ من يستفيد من العقوبة؟ القانون ليس محايدًا، بل يعكس البنى السلطوية.
القانوني: لا يمكن تعميم هذا الطرح، هناك قوانين عادلة ومحاكم مستقلة. وفي السياق المغربي، لا يمكن إنكار ما تحقق في العقود الأخيرة من تقدم على مستوى ضمانات المحاكمة العادلة واستقلال القضاء، وإن بقيت تحديات.
تجاوز النص باسم العدالة؟
الفيلسوف: لست ضد القانون، بل مع مساءلته. كما قال دريدا: «العدل يتجاوز القانون». أحيانًا، يكون كسر النص هو التعبير الحقيقي عن العدالة،فالحراكات الاجتماعية تعبّر عن أصوات لا تمثيل لها. ألم نر في احتجاجات الريف مثلا كيف طُبّقت القوانين على نحو يُسائل مدى عدالتها؟
القانوني: تجاوز القانون يهدد الاستقرار. يجب أن يأتي الإصلاح من الداخل، لا من خارجه.
الفيلسوف: الإصلاح من الداخل ممكن فقط إذا كان الداخل ديمقراطيًا. حين تُمنَع الحريات باسم القانون، تصبح المقاومة شرعية. حيث أكد هابرماس أن القانون الذي لا ينبع من نقاش عمومي حر هو قانون بلا شرعية، وإن بدا قانونيًا.
القانوني: هذا طموح نظري، لكن الواقع يفرض قواعد. الفلسفة لا تتحمل كلفة القرارات، أما القاضي فيفعل. ومن هنا جاءت الحاجة إلى التوازن التشريعي، كما حاول ذلك دستور 2011 بالمغرب، وإن بقي التنزيل التشريعي موضع نقد.
العقوبة: ردع أم إصلاح؟
الفيلسوف: كيف ننظر إلى الإنسان؟ كخطر يجب ضبطه؟ أم ككائن أخلاقي يمكن إصلاحه؟ القانون الجنائي كما يُمارَس اليوم في مجتمعاتنا، ومنها المغرب، غالبًا ما يعكس الصورة الأولى.
القانوني: ليس الأمر أبيض أو أسود. هناك توازن بين الحزم والإصلاح. هناك اليوم توجه نحو العدالة التصالحية، كما يظهر في إصلاح القانون الجنائي المغربي ومشروع قانون بدائل العقوبات السالبة للحرية.
القانون والذكاء الاصطناعي: نهاية الإنسان القانوني؟
الفيلسوف: نصل إلى سؤال جديد: أين موقع الذكاء الاصطناعي؟ هل ما زال للعدالة وجه بشري حين تصدر الأحكام عبر خوارزميات؟ من يُحاسِب الآلة إن أخطأت؟ وهل نُشرّع لها، أم نُشرّع معها؟
القانوني: لا بديل عن الإنسان، الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة. فالمهم من يضع القواعد التي تعمل بها هذه الأدوات. ولا بد أن يتدخل المشرع المغربي مبكرا.
الفيلسوف: أخشى أن نصبح خاضعين لقواعد تضعها الخوارزميات ذاتها. وعندها، لن تبقى العدالة ممكنة إلا كفلسفة. ما لم تُصَن القيم، ستُختزل العدالة إلى معادلة رياضية.
رُبّما يبدو هذا الحوار غير مكتمل، لكنه عن قصد كذلك؛ فالغرض ليس تقديم أجوبة نهائية، بل تحفيز التفكير وطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين القانون والعدالة. هذا النص دعوة مفتوحة للقارئ — أكان قانونيًا أو فيلسوفًا أو باحثًا — للتأمل النقدي في ما وراء النص، ولمساءلة ما نعدّه مسلّمًا عبر مزيد من التأمل، وذلك ما نطمح إلى متابعته في الجزء الموالي.
الكاتب : n عــمـر صـبـار - بتاريخ : 10/05/2025