حرب الإبادة الإسرائيلية والضمائر الغربية
صبحي حديدي
جديرة بالانتباه، والردّ إلى سياقات عامة أو خاصة، فضلاً عن طرافتها أحياناً، تلك المتغيرات التي تطرأ على تفكير هذا أو ذاك من الكتّاب الأوروبيين، تأثراًــ وعلى نحو مباشر، كما يتوجب التشديد ــ بحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة خصوصاً، والفلسطينيّ أينما تواجد في الضفة الغربية والقدس وفلسطين التاريخية عموماً.
ولعلّ ما يحظى بجدارة خاصة إضافية هو طراز من التحوّل غير الإجمالي، أي ليس ذاك الذي يتأثر بحرب الإبادة في محصلتها الشاملة، فحسب؛ بل انقلابات الرأي والموقف والخلاصة بين 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، حين كانت الرؤوس «حامية» وحروب التضليل الإسرائيلية الشعواء على أشدّها، وبين المسارات اللاحقة التي اتخذتها الإبادة وتجلت في جرائم حرب التجويع وقصف المشافي والملاجئ ومنظمات الإغاثة الدولية، فضلاً عن فظائع المجازر اليومية.
بين هؤلاء الكتّاب استقرت هذه السطور على البريطاني بول فالليلي: المعلّق المميز في صحيفة الـ «إندبندنت» البريطانية، والكاتب التقدميّ إجمالاً، وصديق الثقافات غير الغربية والمجتمعات النامية، وصاحب سلسلة من الأعمال الجسورة في شؤون الدنيا والدين.
يُشار، هنا، إلى مؤلفات مثل «السامريون الفاسدون: أخلاق العالم الأول ودَيْن العالم الثالث» «أرض الميعاد: أقاصيص السلطة والفقر في العالم الثالث» «السياسة الجديدة: التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية للقرن الواحد والعشرين» «الحملة الصليبية الخامسة: جورج بوش ومَسْيَحة الحرب في العراق» و»النزعة الخيرية: من أرسطو إلى زوكربرغ «.
بعد عملية «طوفان الأقصى» بدأ فالليلي على غرار مبتدأ الغالبية الساحقة من الكتّاب في الغرب: إطلاق صفة الإرهاب على حركة حماس والتأكيد على عدد من الانتهاكات الفظيعة بحقّ بعض الأطفال والشيوخ في مستوطنات غلاف غزّة (اتضح، لاحقاً، أنّ معظمها ملفّق مختلَق) والمصادقة على أنّ أعداد القتلى اليهود ذلك اليوم هي الأعلى ليس على امتداد 75 سنة من عمر دولة الاحتلال بل منذ الهولوكوست… ثمّ أخذت نظرته تحملق على نحو أوسع نطاقاً، وأشدّ إدراكاً للحقائق، حين كانت أعداد ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية قد تجاوزت الـ15,000، «بينهم الكثير من الأطفال والرضّع» كما كتب، وحين «تجاوز التدمير 60٪ من المنازل، وتضررت على نطاق واسع الطرقات وشبكات الطاقة وخزانات المياه» كما أشار أيضاً.
فإلى أين اتجه فالليلي، على ضوء هذه المعطيات؟ الأحرى، أيضاً، التساؤل عن تحولات موقفه بعد أن تجاوزت أعداد الضحايا في صفوف الفلسطينيين أكثر 36 ألف شهيد، بينهم نسبة كبيرة من الأطفال، و81 ألف إصابة؛ وبعد تدمير المزيد من المشافي والملاجئ، وممارسة التهجير، وارتكاب مجازر من عيار قصف خيام النزوح وإبادة اللاجئين إليها حرقاً بالنار؛ وبعد قرارات محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات، بحقّ دولة الاحتلال وكبار مجرمي الحرب أمثال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت…؟
لقد شاء الركون إلى موقف أخلاقي، أقرب إلى طوق نجاة يجنّبه إدانة حرب الإبادة الإسرائيلية بما هي عليه، عن طريق الذهاب إلى القديس توما الأكويني، ابن القرن الثالث عشر، ونظرية الحرب العادلة؛ فاستعاد ما كان قد انتهجه بصدد الحرب الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة سنة 2014، وكفى بذلك إراحة لضمير بدا قلقاً، في الحدود الدنيا.
وهكذا لاحظ أنّ للحرب العادلة معاييرها، كأن تكون القضية عادلة، وأن تُخاض الحرب بنوايا حسنة، وأن تتحلى بالسلطة المشروعة، وأن تكون أوّلاً قد استنفدت الوسائل الأخرى لحلّ المشكلة.
فهل كان فالليلي يعيش، حقاً، في عالم ما بعد حرب الإبادة الإسرائيلية؟ أم ظنّ أنه لا يستغفل العقول ولا يُعمى الأبصار، إزاء الوحشية الإسرائيلية؟ أو، في كلّ حال، هل اعتقد بالفعل أنّ هذه المنجاة كفيلة بإراحة ضميره، إذا صحّ أنّ أهوال قطاع غزّة قد أرّقته؟
المنطق السليم يخلص إلى أنّ النفي هو الإجابة على الأسئلة السالفة، وسواها، بصدد يقظة ضمائر غربية قلقة لا تستفيق إلا لكي تلفّق أو تختزل أو تزيّف؛ الأمر الذي يفضي، تلقائياً وعلى نحو مشروع تماماً، إلى وضع هذه الحالات في سياقات أخرى ليست أقلّ دلالة من حيث مقادير المأساة، وإنْ كانت أوسع نطاقاً من حيث استدخال الظواهر الأعرض والأعمّ.
كما حين يعود المرء إلى موقف سابق من فالليلي، بدا في حينه مدوياً لجهة ارتباطه المباشر بما أطلق عليه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن تسمية «حملة صليبية» ضدّ «الفاشية الإسلامية».
ذلك الموقف اختصره فالليلي في السؤال التالي: هل تمكّن الإسلام، خلال السنوات والعقود الأخيرة، من إخراس حرّية التعبير بوصفها واحدة من القِيَم الكبرى في الغرب؟ وبين الوقائع التي سردها بصدد ذلك «الإخراس» ثمة عجز البابا عن إقناع المسلمين بأنه اعتذر بما يكفي عن اقتباسه (سيئ التقدير، في نظر فالليلي) عبارة الإمبراطور البيزنطي الذي اعتبر الإسلام «شريراً وغير إنساني»؛ وإقلاع بعض القرويين الإسبان عن عادة قديمة توارثوها عن أسلافهم، هي حرق دمية تمثّل النبيّ محمّد، احتفالاً بانتصار المسيحيين على المسلمين في الأندلس؛ أو اضطرار المسؤولين عن دار أوبرا برلين إلى إلغاء عرض «إيدومينو» عمل موتزارت الشهير، مخافة إثارة غضب المسلمين بسبب مشهد مستحدث يجري فيه قطع رؤوس إله البحر بوسيدون، ويسوع، وبوذا، ومحمّد.
ماذا عن مظاهر الإخراس، التي تصل إلى درجة نشر الشرطة في الحرم الجامعي والساحات العامة واستخدام الغاز المسيل للدموع؟
ولكن… كيف يسكت فالليلي عن إخراس حرية التعبير، اليوم، من جانب السلطات ذاتها التي تزعم الحفاظ على حرّية التعبير وتنتهج الديمقراطية ودولة القانون، ضدّ شرائح واسعة من ممثلي الرأي العام وطلاب الجامعات والكتّاب والفنانين، كلما اتصل الأمر برفض حرب الإبادة الإسرائيلية، بطرائق تعبير سلمية وقانونية ومشروعة تكفلها الدساتير الوطنية؟ ماذا عن مظاهر الإخراس، التي تصل إلى درجة نشر الشرطة في الحرم الجامعي والساحات العامة واستخدام الغاز المسيل للدموع، في تظاهرات التضامن مع أهل غزّة، في برلين وباريس ولندن ونيويورك؟ جوهر ما غاب عن سؤال فالليلي هو الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة متماثلة متطابقة) معقدة شائكة متباينة، ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى سلسلة اسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات.
في عبارة أخرى أشدّ وفاءً للمشهد: ثمة السياسة أوّلا، وقبل العقائد؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين.
واحتقانات هذا التناقض الصارخ، بين ما يزعمه الغرب من حرص على الحريات العامة وحقوق التعبير، على مستوى الحكومات ونماذج غير ضئيلة من ممثلي المجتمع المدني، وبين ممارسات التضييق والحظر والمنع والإلغاء كلما اتصل الأمر بدولة الاحتلال الإسرائيلي؛ كيف لها أن تمرّ من دون عواقب وخيمة، سياسية واجتماعية وثقافية، لا ينجو السلم الأهلي من آثارها المباشرة؟ وكيف لا تُردّ إلى سياقات النفاق والمداهنة، فضلاً عن أنساق التواطؤ المباشرة وغير المباشرة، مع جرائم الحرب الإسرائيلية؛ هذه النماذج من يقظات الضمير الأقرب إلى تصنيع أطواق النجاة منها إلى انتهاج موقف أخلاقي واضح الانحياز وصريح اليقين؟
فالليلي ليس أكثر من نموذج على زيف تلك اليقظات، بالطبع؛ إذْ ما خفي من نماذج أخرى لا يتجاوز ألعاب الأكروبات، أو التعرّي العلني، أو حتى تصنيع الأكاذيب الاشدّ افتضاحاً ورخصاً ورداءة، هنا وهناك في أرجاء هذا الغرب المعاصر.
الكاتب : صبحي حديدي - بتاريخ : 16/07/2024