حسن أوريد… والحق في اليأس…
إدريس جبـري
… قرأت مؤخرا مقالة مركزة ومكثفة، مكتوبة بوجعٍ وألَم وأسى، كمن يكتب بإبرة حادة على مآقي عينيه، وقد جاء من أفق مظلم حالكٍ ومسدود. كانت المقالة، تحمل عنوان:» لا شيء يعجبني»، ومن توقيع الكاتب والمفكر الأستاذ حسن أوريد. وهو ليس ككل الكُتّاب ممن يَكتبون ترفاً، وكتبه كثيرة ومتنوعة، أو يُقرؤون على عجل، ولا هو من المفكرين الذين يستسهلون ثقل الفكرة ومآلاتها، وله مؤلفات عديدة في هذا المجال. إنه حسن أوريد، بمسار ليس ككل المسارات، وبرمزيات لها دلالات وتبعات. قرأت المقالة، كما أقرأ جُل كتبه، وأستمع إلى مختلف محاضراته في مختلف المناسبات والسياقات، بكثير من الاهتمام والعناية، والاعتبار أيضا، فهو مِن طينة من تمرّس على الكتابة، وصارت شرط وجوده، وحبّس حياته للفكر في قضايا وطنه وأمته، وقراؤه نصب عينيه.
قرأت المقالة، على قصرها وكثافتها، برهبةٍ وتهيب. أعدت القراءة، وأنا أستحضر ما خطه الكاتب على مساره الفكري والأدبي، من موقع المفكر المحلل، والشاعر الأنيق، والروائي الأريب، والباحث في العلوم السياسية بحساباتها، وفي الوقت ذاته العاشق للأدب بفسحة بلا ضفاف، وتأملت خلاصات المقالة ومخرجاتها، وكأني أمضغ حَفنةً من زجاج مكسور، وأتلمظ كلمات مسقية بدمع مالح. هل من كتب هذه المقالة هو نفسه الذي ألّف كتبا كثيرة، متنوعة المشارب، ونشر مقالات ودراسات، بأفق المستقبل وهاجسه؟ أين حسن أوريد من هذه المقالة؟ هل خاب انتظاري أم وقع الطائر في القفص، وتورط الربيء في فخ خصومه وأعدائه؟
ترددت كثيرا في طرح مثل هذه الأسئلة، ومُضمرها، وبالتالي الكتابة فيها، تفاعلا مع كاتب كبير، ومفكر قدير، ومثقف بين «برزخين لا يبغيان»، بصيت يتعدى الحدود، وشهرة تتجاوز الآفاق، منطلقا من فرضية مفادها أن المقالة وما ورد فيها لا تشبه كاتبها، على الأقل في تمثّلي الصغير، وأنا أستحضر ابتسامته العريضة، وجديته «الصارمة»، وهو يولد الفكرة ويرعاها حتى تستوي وتستقر عند متلقيها، بلغة منتقاة. غامرت في التفاعل مع مقالة، يبدو لي أنها كُتبت بنفَسٍ واحد، وتجرأت على استنطاق بعض المسكوت فيها، وهو كثير، قد يقرب القارئ من فهم ما يُعجب الكاتب بالنفي، وما لا يعجبه بالإثبات: «لا شيء يعجبني»: صرخة أم صدمة؟ أمل أم يأس؟ تفاؤل أم تشاؤم؟ ما عاد شيء يُعجب حسن أوريد… !!!
– 1 –
لم يختر الكاتب المفكر حسن أوريد جريدة القدس العربي في لندن، منبرا لنشر مقالته تلك اعتباطا، وصفحات الجرائد المغربية مُشرعة له. فهو يعرف حق المعرفة، أن جريدة القدس العربي، تاريخ برمزياته «التقدمية والقومية والدولية»، ويدرك حق الإدراك خطها التحريري المدافع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروع. فهي الجريدة التي تأسست سنة 1989، مباشرة بعد الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية سنة 1988، خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر الذي أقيم في الجزائر، وفيه تلا الرئيس الشهيد ياسر عرفات نص الميثاق الذي صاغه الراحل الشاعر محمود درويش.
تنوير وتذكير: في تلك الأجواء «التحررية»، قايضت الجزائر القضية الفلسطينية مقابل قضية الصحراء الغربية المغربية. فقد استقبل رئيس المجلس التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطيني ياسر عرفات في إثناء إقامة مؤتمر للإعلان عن دولة فلسطينية، زعيم جبهة البوليساريو ولد عبد العزيز المراكشي، وأعطاه الكلمة، فشبه المغاربة بالصهاينة. كان ذلك يوم 22 أبريل 1987، لمّا «استُدعي ممثل البوليساريو إلى اجتماع المجلس الفلسطيني في الجزائر وألقَى خطابا شبّه فيه-كما تفعل باستمرار الدعاية الجزائرية-الوضعين في الصحراء وفي فلسطين». (العروي، الخواطر، 3/61) (انتهى).
قف تنبيه: في هذا السياق التاريخي، واستنكارا لقرار قادة فلسطين واستشناعا له، خاطبهم الراحل الملك الحسن الثاني قائلا: «لقد فضلتم الوهم على الحقيقة، والضلال على الصواب، والانتهاز على الوفاء، واستبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير…»
على أساس هذا الموقف المريب، والطعنة الغادرة تلك، لم يكن أمام الراحل الحسن الثاني، سوى اتخاذ قرارات قوية نابعة من عمق الوجدان المغربي وكرامته، وبعبارات ساخطة، قائلا:» لقد أصدرنا أمرنا إلى جميع ممثلينا، كانوا رسميين أو غير رسميين، في الأحزاب السياسية، أو الهيئات الأخرى، أنهم إذا حضروا أي حفل دولي، وقام أي فلسطيني يتكلم عن فلسطين أن يغادروا مكان الاجتماع، وأقول، ولا أريد التهديد، ولكن أنا ضمير المغاربة، فإذا قام فلسطيني يتكلم عن فلسطين، وبقي أي مغربي جالسا، فإنه انتقاما لروح شهدائنا الذين مثلّوا بالصهاينة، سيلطخ باب داره بذاك الشي اللي ما كيتذكرشي (أي الغائط). (انتهى).
– 2 –
إذا كان حسن أوريد، قد اختار نشر مقالته «لا شيء يعجبني»، بتزامن مع اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء الجنوبية، واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل (10 دجنبر 2020)، وعلى صفحات منبر القدس العربي يوم 15 دجنبر 2020، فإنه لم يختر الصورة المصاحبة لمقالته والمؤطرة لها: «لا شيء يعجبني». لا شك أن الصورة من اقتراح هيئة تحرير الجريدة. وهي تمثيل بصري يشد العين لحالة وجود جليس وحيد وحزين ومهموم على كرسي، ضمن كراسي فارغة، تحيل على «الطبقة البروليتارية»، يبدو أنها تعكس ما بدواخل نفس الجليس، أو الكاتب، من حيرة وفراغ، وقلق وإحباط، وغضب وإدانة، وخيبة ويأس… لا شيء يُعجبه… لم يعد شيء يعجبه…كما كان… أو كما ينبغي أن يكون…حيرة الجامعي…ووهْمُ الجُندي… فمن أحال القضية الفلسطينية إلى صفقة…؟ … لا شيء يعجب حسن أوريد…لا شيء… قد يكون متعبا من السّفر…من الحلم… لا ترنما…لا ترنما… تلك كانت حالة الشاعر الفلسطيني الكبير، في قصيدته الشهيرة: «لا شيء يعجبني»… وذلك تناص بائن.
إحباط مقيم. مفارقات فاقعة…»أقفُ على التنافر بين ما آمنت به شابا وما آل إليه واقع الحال في خريف عمري». حلمٌ صار كابوسا…سقط جدار برلين (1989)، إيذانا بنهاية الحرب الباردة، وسيادة قيم الحرية والعدالة والديمقراطية. غير أن شيئا من ذلك لم يحدث… فكان من الطبيعي ألا يعجبه شيء…لا شيء… يعجبه… وقد دخلت الولايات المتحدة الأمريكية، و»من يؤازرها» على خط الحُلم العربي، وسيّرته كابُوسا…. أسى…أسى… لا ترنما …لا ترنما… وكأنه يردّد في أعماقه، وفي سياق مغاير، مقاطع من قصيدة مديح الظل لمحمود درويش:
… أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا…
… نعسنا، أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا…
… فعلا، نعسنا، فأيقظتنا طائرات أمريكا في العراق(2003)، وقد برّت بوعدها الأول، فأمعنت في «إرجاع العراق إلى العصر الحجري»، وخالفت وعدها الثاني بإقامة دولة ديمقراطية نموذجية بالمنطقة، تنعم بالحرية والرخاء… لا تزال العراق، حتى هذه اللحظة، لم تبرأ من «ندوب الحصار، من تجويع وتقتيل على مهل، والإجهاز على القيم الجامعة له»…لا شيء يعجبه… فقد تحول الحلم إلى كابوس…
كان حسن أوريد، ومنذ شبابه، يحلم «بنهاية مأساة الشعب الفلسطيني، وإقامة دولته على أرضه المحتلة». وكانت أمريكا تقدم نفسها وسيطا نزيها في كل القضايا العربية، بما فيها القضية الفلسطينية، وها هي «تطعن» القضية وأهلها، وتعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل… ويتعمق الجرح، في خريف العمر، لمّا بلغ مدى العصا مشارف المحيط الأطلسي للوطن … لا أمل في «معادلة الأرض مقابل السلام»… لا قدسية ظلت… ولا حقٌ مصان… حُلم مجهض، ما أقسى ألم الإجهاض، خاصة إذا كانت أعراض الحمل كاذبة… لا شيء يعجبه… من حقه ألا يعجبه شيء…
ومما يزيد من قسوة الألم، عندما يكون سببه من ذوي القُربى، لمّا يدّعون «أن القضية الفلسطينية مقدسة، وأن حقوق الشعب الفلسطيني مصونة، وقد أحالوها صفقة أو صفقات». مفارقة صارخة، تلك التي يعيشها أولئك الذين «فُرض عليهم التّطبيع»، من «بعض إسلاميينا من بلدي ممن كانوا يقيمون الدنيا لصحافية ترتدي فستانا…» إحالة على حادثة رئيس الحكومة السابق من العدالة والتنمية لما أوقف جلسة بالبرلمان، وأصر على طرد الصحافية من البرلمان بسبب لباسها، وحادثة طرد الوزير السابق المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني لصحافية، ما يزال طريا في الذاكرة، بدعوى أن فستانها لا يليق بالاحترام الواجب للبرلمان، ويخدش الحياء! في مقابل ذلك، استكانوا، وقد استأنف المغرب علاقاته بإسرائيل، بل وقّع كبيرُهم صكّ التّطبيع، وزّكَاه كَبير كَبيرهِم، وشهد له، بعدما وظفوا القضية الفلسطينية في الحشد وتكثير السواد. «القتلة يقتلون القتيل ويمشون في جنازته»؛ لم يَعد التطبيع «إبادة حضارية»، كما قال كبيرهم في موقع غير الموقع. لا شيء يمكن أن يعجبه… وما «آل إليه واقع الحال في خريف العمر…»… لا شيء يعجب…لا شيء… حُلم يصير كابوسا…
– 3 –
عندما يفقد المرء الأمل في تحقيق حلم يدركه اليأس، ويتملكه الإحباط، ويستبد به القنوط. أينما ولى حسن أوريد وجهه فثمّ ما لا يُعجب… كل شيء لا يعجب…جفاء مقيم بين المغرب والجزائر، وعداؤهما مستحكم، وهما «يبنيان الأسوار حقيقة لا مجازا لفصل الجسد الواحد، ويتنافسان في شراء الأسلحة على حساب الصحة والتعليم والشغل…» ضاع حلم الوحدة المغاربية… ضاع… بعدما ضاع حلم وحدة العالم العربي… وضاع حلم «نهاية مأساة الشعب الفلسطيني». أمريكا وراء الباب، وها قد أذكت جمرة الجفاء، لمّا اعترفت بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وإن لم يذكرها الكاتب، وما أومأ إليها، وأشرفت على استئناف العلاقات مع إسرائيل، تحت رعاية «الفتى اللوذعي جاريد كوشنر، وهو يشق بعصاه بحر الظلمات»…أشباح…أشباح…لا شيء يعجبه…حملٌ كاذب…
– 4 –
ويتضاعف الألم، ويستفحل الإحباط، ويكبر الفشل، خاصة عندما يدرك المرء، وبعد مسار طويل من العطاء والبذل و»النضال»، وأن أقرب أحلامه إليه قد تبخرت في الدفاع عن «لغة أمه الأمازيغية باعتبارها مكونا ثقافيا وسوسيولوجيا وتاريخيا لشمال إفريقيا، لا غنى عنه لمن يروم أن يعرف موضوعيا تاريخ شمال إفريقيا وثقافتها والبنية الذهنية لساكنتها من أجل أن يعيش البعدان العربي والأمازيغي في بلاد المغرب في وئام كما التحما في القضايا المصيرية». حتى هذا الحلم «الحميمي» قد تبخر. وهم الانتماء، وقسوة الأخوال والأرومة. هذا «البربريست» بالأمس، صار اليوم «عنصريا»، وهو «ينادي بتجاوز خطاب الهوية» المتوحشة… اختلط الحابل بالنابل، وأصبح للأمازيغية والناطقين بها وجهة أخرى…وتقديرا آخر… أمريكا وراء الباب… صمت…صمت… ومن الصمت ما قتل…لاشيء يمكن أن يعجب حسن أوريد… تواطؤ…وتخاذل… وغدر…وقمع…وخيانة…وتطبيع…لا شيء يُعجب حسن أوريد…
– 5 –
يصعب على من امتهن حرفة الكتابة، أي جنس من الكتابة، أن ينقطع عنها، بقرار، من أي موقع كان، ولسبب مهما عظم. لكن، أن يصل كاتب ومفكر إلى حد التفكير في قرار الانقطاع عن الكتابة، فمعناه أنه بلغ مبلغا من اليأس والإحباط والعجز والانهيار… «حتى الكتابة لا تعجبني». إنه إعلان عن إفلاس وكساد تامين. فلم تعد الكتابة، وقد مارسها حسن أوريد مدة طويلة حتى صارت حدود وجوده، تغير شيئا، مما كان يحلم أن يغيره؛ بل ولا تتيح له حتى فرصة الحلم في التغيير. الامتناع عن الكتابة هو حصيلة يأس عمّ، وإحباط استحكم. كل شيء لا يعجبني… حتى الكتابة لم تعد تعجبه…
كيف تعجبه وكل شيء مُملى من الخارج، آتٍ من الآخر… غير العربي… غير الإسلامي…غير العراقي… غير الجزائري…غير الفلسطيني… غير المغربي…غير الأمازيغي…. كل شيء قد انهار وتلاشى. ألم تستفق الولايات المتحدة الأمريكية، بعد نعاس عميق، لتعترف فجأة بسيادة المغرب على صحرائه الجنوبية، بعد مناورات دامت أزيد من أربعة عقود ونصف من الزمن؟ ألم تعترف بذلك موازاة مع «التطبيع» مع إسرائيل، بمباركة أمريكا… أمريكا هي الطاعون…والطاعون أمريكا…؟ ألم يفشل حلم نهاية مأساة الشعب الفلسطيني؟ ألم يتعمق الجفاء بين المغرب والجزائر، وتلاشى حلم الوحدة المغاربية؟ ألم يكن «الربيع العربي» مجرد حمل خادع؟ ألم يختلط الحابل بالنابل في شأن الأمازيغية، لغة وثقافة وحضارة، حتى صارت ضد الحلم، ومسوغ تفرقة واصطفاف؟ ألم يعش حسن أوريد كابوس مفارقة «إسلاميي» بلده، وبراغماتيتهم المقيتة؟ ألم ينقلب سُلم القيم؟ ألم تتماهى الحقيقة بالأشباح؟ أما تزال الكتابة قادرة على تغيير الواقع، وصناعة التاريخ؟ لا أمل في الأمل…
– 6 –
…إنها شهادة على سيرورة تاريخية عاشها الكاتب المفكر حسن أوريد، من فتوة الشباب إلى خريف العمر… لا شيء تغير…لا شيء تحقق…لا شيء تجسد…لا شيء يعجب… كل ذلك، وغيره، مدعاة لليأس والقنوط، ومسوغ لتسويد الأفق، وتكسير الأقلام، وفقد الثقة…إنها صدمة قوية تفقد المعنى في الحياة وقيمتها…لا شيء يعجبني…. حتى نفسي لم تعد تعجبني… كما قال «الحاج» حسن أوريد، نهاية النهايات…لكاتب ومفكر جاء من الهامش فوجد نفسه في قلب المركز… وجرّب كل المواقع، وخَبر السياسة وخبرته، فانتهى به التطواف إلى الحيرة والتيه واليأس، فلا هو استمر في المركز، ولا هو عاد إلى الهامش… يأسُ الخاتمة… أم صفاء البدايات… اعترافات رَواء مكة… ذلك موضوع لحديث آخر…/.
الكاتب : إدريس جبـري - بتاريخ : 29/12/2020