حكومة اليوسفي والنموذج التنموي الجديد؟
الحسين بوخرطة
الحديث عن نموذج تنموي جديد ببلادنا ما هو في نهاية المطاف إلا تعبير مدروس، في إطار الاستمرارية، عن الحاجة إلى التفكير في اختيارات جديدة في مختلف المجالات التي تهم الدولة والمجتمع على السواء، اختيارات تستند عن تشخيص وتقييم حصيلة المراحل السابقة، وتستحضر التطورات الدولية، تطمح الدولة من خلالها استغلال كل الفرص المتاحة وطنيا ودوليا، للمرور إلى مرحلة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية أكثر تقدما عن سابقتها.
إن النموذج التنموي ما بعد الاستقلال، بخيارات الاعتماد على القطاع الأول (الفلاحة وسياسة السدود)، وما ارتبط به من مبادلات تجارية للمواد الفلاحية والمواد المعدنية الخام، جعل البلاد تمر من الحدث الهام المسمى ب»المغربة»، لتعيش، مع مرور السنوات، أزمات هيكلية كان أصعبها أزمة المديونية لسنة 1980. لم يكن المغرب في تلك الفترة الحرجة، نظرا لأوضاعه السياسية والحقوقية الداخلية، قادر بمجهوداته الذاتية، على تجاوز إعاقاته واختلالات تدبير مرافقه وقطاعاته الرسمية، لتجأ الدولة اضطراريا إلى المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبالتالي الدخول في مرحلة التقويم الهيكلي الذي دام لأكثر من عشر سنوات.
أمام هذه الأوضاع الصعبة، كان مفروضا على النظام المغربي إيجاد الآليات لتحقيق نوع من التكيف التدريجي لهياكله الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية. وازدادت الحاجة إلى التفكير الاستباقي في السبل لإخراج الوطن من وضعيته المتأزمة مباشرة بعد سقوط حائط برلين، بحيث أعلن المرحوم الحسن الثاني اختيار التوجه الاقتصادي النيوليبرالي. فبعد اتفاقية واشنطن الدولية، انخرط المغرب خلال سنوات التسعينات، منذ بدايتها، في دعم المبادرة الحرة والخوصصة. فبالرغم من الإرادة المعلنة لخلق التحولات الضرورية في نموذجه التنموي، مقارنة مع اختياراته زمن الحرب الباردة وما وازاها من قرارات لتشييد مقومات اقتصاد السوق، حافظت الدولة على أدوار ريادية في قيادة التنمية السوسيواقتصادية، ليبقى وزن تدخلاتها الاقتصادية ملموسا من خلال نفقاتها مقارنة مع الناتج الداخلي الخام.
لقد تميز تدبير التنمية خلال أكثر من ثلاث عقود برفع شعار مراقبة عمليات التمدين بمنطق لا يتماشى والتحولات الطارئة في الهياكل الإنتاجية والاجتماعية، الشيء الذي جعل مسلسل خلق الثروة خارج الزراعة في المناطق الريفية ضعيفا جدا. لقد انعكس هذا التوجه بشكل سلبي على الاستثمارات الاجتماعية في العالم القروي، خاصة في التعليم والصحة، مقارنة مع العالم الحضري. وباستفحال هذا التمايز، توسعت الهوة بين العالمين السالفي الذكر، إلى درجة تحولت مع مرور الوقت إلى عرقلة للتنمية الشاملة للبلاد. في نفس الوقت تبين بالواضح أن الجهاز التنفيذي لم يكن يتوفر على أي إستراتيجية أو مقاربة مندمجة وشاملة وديناميكية لخلق الثروات في مختلف المستويات الترابية في إطار سياسة محكمة لإعداد التراب الوطني.
لقد أدرك المغرب، وانتبه منذ البداية، لوقع تحولات التوجه النيوليبرالي عليه بصفة خاصة، وعلى دول الجنوب بصفة عامة، وتعامل بالإيجاب في تعاطيه مع ضرورة الانفتاح الاقتصادي في سياق العولمة. لقد قرر الملك المرحوم الحسن الثاني الانفتاح على أحزاب المعارضة معترفا بالاختلالات الخطيرة التي تعرفها البلاد، والتي تراكمت بفعل سوء التدبير الذي دام لعقود مضت. لقد طالب صندوق النقد الدولي بتشخيص وضع المملكة، وشكل تقريرها سنة 1995 مناسبة لإعلان العبارة الشهيرة في القاموس السياسي للبلاد «المغرب مهدد بالسكتة القلبية». لقد نزل عاهل البلاد بكامل ثقله السياسي من أجل تحويل الفترة الانتدابية 1992-1997 إلى مرحلة لإضعاف جيوب المقاومة واللوبيات الضاغطة، ليصبح متاحا تسليم مفاتيح الحكومة إلى المقاوم اليوسفي. لقد دشن هذا الأخير بكل قوة مسارا جديدا لتمكين البلاد من تجاوز اختلال تدبير التنمية زمن الانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي (زمن اقتصاد السوق)، لينخرط المغرب في دينامية جديدة نجحت نسبيا، بالرغم من الصعوبات، في تجاوز العجز التاريخي في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية.
لن أتطرق لعمل حكومة التناوب التوافقي لكوني قد خصصت لها مقالا طويلا ومفصلا تحت عنوان «الرمزية السياسية لحكومة عبد الرحمان اليوسفي»، لأنكب في مقالات قادمة على خيارات الدولة المغربية ما بين 2002 إلى يومنا هذا، خاصة الوقوف وقفة تأملية في الدعوة الملكية لبلورة نموذج تنموي جديد. إنها، بحكم الواقع، وباستحضار تحديات ورهانات عالم اليوم، ومنطق الاستمرارية في تحقيق تراكم المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دعوة لتجديد منطق قيادة التغيير على أساس احترام الجودة في الفعل والحكامة الجيدة في التدبير.
خلاصة
لقد عاش المغرب بعد خمس سنوات من عمر التناوب التوافقي، زمن حكومات السادة ادريس جطو وعباس الفاسي وعبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني (إشراك كل الأحزاب الوطنية). إنه زمن استكمال تهيئة التراب الوطني بتشييد التجهيزات الكبرى، وزمن محاولات الاستجابة لنظرية «الامتيازات المقارنة» « Les avantages comparatifs »، وسيطرة هاجس الحفاظ على التوازنات العامة وميزان الأداءات، ولو على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب المغربي. إنه زمن اللجوء إلى القنوات الإعلامية لإبراز الإمكانيات الطبيعية والبشرية والاستثمار في مجال التكوين المهني لتأهيل الطبقة النشيطة، وبالتالي تحقيق التجسيد الميداني للمحفزات الجذابة للرأس المال الوطني والدولي. إنها مرحلة تميزت، كما تم التخطيط لذلك، بتدفق رؤوس الأموال الاستثمارية على بلادنا، وبمبادرات جادة لتقوية مكانة الدولة في الخريطة الجديدة لتوزيع العمل دوليا. لقد توج مسار المرحلة الثالثة، مرحلة حكومة اليوسفي وما قبلها وما بعدها، باستنتاجات ومؤشرات عبرت كون انتقال الاقتصاد المغربي إلى القطاعات العصرية الأكثر إنتاجا لم يترتب عنه ارتفاع مقبول في نسب النمو السنوي، لتبقى علاقة القوة الرأسمالية بالعمل والتنمية الاجتماعية ضعيفة إلى أبعد الحدود.
والمغرب يستعد لمرحلة جديدة، بنموذج تنموي جديد، أرسل جلالة الملك محمد السادس إشارات مهمة إلى الشعب المغربي، كان أبرزها تكريم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بتسمية شارع مهم بمدينة طنجة وفوج من القوات الملكية المسلحة باسمه. إنها إشارات تجسد أن هذا الهرم كان له الفضل في خلق التحول في التاريخ المعاصر للمملكة المغربية.
الكاتب : الحسين بوخرطة - بتاريخ : 05/10/2019