حكومة متغولة في زمن الهشاشة: أين الدولة الاجتماعية؟

بقلم: محمد السوعلي (*)
كيف يمكن أن نبني دولة اجتماعية حقيقية في ظل تفاقم الغلاء، وانهيار الطبقة الوسطى، واستشراء الفساد، وتردي الخدمات الأساسية؟ وهل تكفي الشعارات لطمس واقع اقتصادي واجتماعي مأزوم يُنذر بانفجار الثقة في المؤسسات»
في خضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي يعيشها المغرب، تتصاعد تساؤلات مشروعة حول قدرة الحكومة الحالية على تنزيل شعار «الدولة الاجتماعية» في واقع يتسم بغلاء متصاعد، وتآكل للطبقة الوسطى، وتفاقم للهشاشة الاجتماعية، واستفحال للفوارق الاقتصادية. وإذا كانت المؤشرات الميدانية تكشف عن انكماش القدرة الشرائية واتساع الفجوة بين الفئات، فإن اختلالات أخرى أكثر خطورة تتسلل إلى المشهد الوطني، من بينها استشراء الفساد، ضعف الثقة في المؤسسات، تفاقم البطالة، تراكم المديونية، وانهيار قطاعات حيوية كالصحة والتعليم. كما تتفاقم هذه الأزمة مع تصاعد تحديات الأمن الغذائي والاقتصاد غير المهيكل وهجرة الكفاءات والفجوة الرقمية.
هذا المقال يحاول تفكيك هذه المعضلات من خلال أربع محطات رئيسية: أزمة الثقة وغلاء المعيشة، تآكل الطبقة الوسطى والفساد، الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية العميقة، ثم رهانات الإصلاح والخروج من النفق.
أولًا: أزمة الثقة وتفاقم الغلاء… شرخ يتسع
تتهاوى صورة «الدولة الاجتماعية» أمام واقع يومي يزداد قسوة، إذ سجل مؤشر ثقة الأسر المغربية 46.6 نقطة فقط خلال الفصل الأول من سنة 2025، وهو ما يعكس أزمة ثقة بنيوية لا مجرد تراجع ظرفي. هذا التآكل في الثقة تغذيه السياسات الاقتصادية التي فشلت في التصدي للغلاء المتفشي. فقد بلغ معدل التضخم سنة 2024 نسبة 4.3%، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بأكثر من 7.5%، وتضاعفت أسعار سلع حيوية كالحبوب والزيوت بنسبة تراوحت بين 30% و50%. مقابل هذا الانفجار في الاسعار، ظلت الأجور جامدة، مما أدى إلى إعلان 42% من الأسر عن عجز مداخيلها عن تغطية حاجياتها الأساسية.
غياب التدخل الحكومي الناجع، واستمرار المضاربات، عمقا من معاناة المواطنين، وأدى إلى انسحاب تدريجي للثقة الشعبية من الخطاب الرسمي، وجعل الدولة تبدو عاجزة أمام تقلبات السوق وفشل آليات الحماية الاجتماعية.
ثانيًا: تآكل الطبقة الوسطى واستشراء الفساد… انهيار ركيزتي الاستقرار
الطبقة الوسطى، التي طالما شكلت الدعامة الأساسية للاستقرار الاجتماعي والسياسي، باتت تواجه خطر الانقراض. فقد تراجعت نسبتها إلى أقل من 25% حسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي لسنة 2024، مع ارتفاع تكاليف المعيشة إلى مستويات لا يقدر عليها معظم الموظفين، الذين لا يتجاوز متوسط دخلهم 5500 درهم شهريًا، مقابل حاجيات معيشية تفوق 8000 درهم.
في موازاة هذا الانهيار الطبقي، يتفاقم استشراء الفساد، الذي أصبح عقبة مركزية أمام أي مشروع إصلاحي. المغرب تراجع إلى المرتبة 97 عالميًا في مؤشر مدركات الفساد، وسط غياب شبه كلي لربط المسؤولية بالمحاسبة. الزبونية والرشوة صارتا قواعد غير معلنة لتدبير الشأن العام، مما أضعف مصداقية المؤسسات وزاد من تعميق أزمة الثقة الوطنية.
هذا الوضع المزدوج، الذي يجمع بين الإفقار الاقتصادي والانهيار الأخلاقي، يهدد بتفكيك العقد الاجتماعي الذي ترتكز عليه الدولة الحديثة.
ثالثًا: هشاشة اقتصادية واجتماعية تهدد تماسك الدولة
لا تقتصر مظاهر الهشاشة على الغلاء والفساد، بل تمتد إلى بنية الاقتصاد نفسه، حيث تساهم القطاعات غير المهيكلة بنسبة 30% من الناتج الداخلي الإجمالي، مع تشغيل أكثر من 2.4 مليون شخص دون حماية اجتماعية. هذه الوضعية تعمق الفوارق الاجتماعية، وتزيد من ضعف الموارد الضريبية الضرورية لتمويل الخدمات العمومية.
إلى جانب ذلك، تعاني النساء من بطالة مرتفعة بلغت 42% في المدن مقابل 22% للرجال، مع استمرار غياب التغطية الاجتماعية عن العاملات القرويات. أما الصحة والتعليم، فهما في حالة انهيار شبه معلن: الانفاق الصحي لا يتجاوز 6% من الميزانية، فيما تظل نسب الأمية مرتفعة تتجاوز 28% وطنيا و40% قرويا.
وتتعمق الأزمة مع التبعية الاقتصادية للخارج، حيث ترتبط 68% من المبادلات التجارية مع أوروبا، إضافة إلى نزيف الكفاءات الذي يحرم البلاد من رأسمالها البشري. هذه العوامل مجتمعة تضع المغرب أمام تحدي وجودي يتمثل في الحفاظ على نسيجه الاجتماعي والاقتصادي.
رابعًا: نحو إصلاح جذري أو الغرق في الأزمات
إن تجاوز هذا الوضع يتطلب ثورة إصلاحية شاملة تتجاوز الحلول الترقيعية الظرفية. يتوجب أولا فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبرى بما يساهم في تمويل العدالة الاجتماعية. كما يجب تحويل دعم الطاقة إلى دعم الزراعة المستدامة، وإعادة هيكلة خدمة الدين لصالح القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم.
إلى جانب ذلك، من الضروري إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد بصلاحيات حقيقية، وتعزيز اللامركزية وربط تمويل الجهات بتحقيق نتائج اجتماعية وتنموية ملموسة.
تقدم تجارب البرتغال ورواندا والأوروغواي نماذج ملهمة على أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بإرادة سياسية صلبة واستثمار في الإنسان. دون ذلك، ستظل شعارات «الدولة الاجتماعية» مجرد حجاب يخفي وراءه واقعًا متصدعًا ومجتمعًا يسير بخطى متسارعة نحو الغليان الاجتماعي.
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات
الكاتب : بقلم: محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 06/05/2025