حلم قديم…

الشافعي عبد الجليل.

قبل عشرين سنة من الآن، سأل أستاذ تلامذته في قرية نائية ذات موسم دراسي، في ابتدائية قرية تنبتُ في كبد سهل مبسوط مزركش، زاهي الألوان كزربية أطلسية. سأل أستاذ القرية التي تصعب الحياة فيها وإن كانت على السهل.
سهل وصعوبة، صعوبة على السهل!!
قرية حاقت بها الخضرة من كل جانب، كما تحيق الهالة بالقمر. زهر منتش، طير مغرد، شجر باسق، أكمة ٌموغلة، وأناس عادية أحلامهم…
سأل أستاذ القرية التي يعانقها نهر سبو المقدس بيد، ويخاصرها بيد ثانية في رقصة أبدية:
– ماذا تريدون أن تصبحوا حين تكبرون…؟
رفع التلاميذ أناملهم،الصغيرة تماما كأحلامهم،وعيونهم جذلى.
-أستاذ، أستاذ، أنا أريد أن أصير شرطيا…
-ولماذا؟
-لكي… لكي أقبض على اللصوص، ولكي يكون لي زي أزرق جميل مثل زيهم. قال الجالس على يسار الصف الأول.
– أستاذ، أستاذ، أنا أريد أن أصير طبيبة.
-لماذا؟
– لكي أداوي الناس من الأمراض.
أجابت التلميذة الخجولة التي لا تفارق المقعد الأخير، في نشاز مدرسي صارخ، هي المجتهدة الذكية الوحيدة التي لا ترتاح إلا في المقعد الأخير، والتي لم يفلح الأب، ولا المعلم في ثنيها عن قرارها، إصرار ظلت تحير الأستاذ دواعيه…
أما أنا فأريد أن أصير عاملا في الضيعة القريبة من المدرسة.
أجاب التلميذ الذي لا يرى في البعد عن القرية حياة ممكنة.
– لماذا؟
– لأني أريد أن أصير مثل جارنا الذي يسوق الجرار الأحمر الضخم، ويمتلك فرسا جميلة سريعة، كي أفتخر بهما أيضا كما يفعل أبناؤه…
ظل الأستاذ يستمع بجلَد الأنبياء، لكل الإجابات التي صارت في هذا المنحى، وحين كان سؤاله. لماذا؟ تعليلا لطبيعة الحلم، كانت الإجابات كلها من أجل الآخرين، تطبيب الآخرين، حماية الآخرين… إلا تلميذا واحدا،أدهش الأستاذ حين خرج عن سرب الأحلام الجاهزة المتوارثة، والتي تعاد على مسامعه كل دخول مدرسي، حين يسأل تلامذته في الحصص الأولى، عن أحلامهم، حتى أنه بات قادرا على توقعها قبل البوح بها، غدا بإمكانه أن يقرأها في صفحات عيونهم الواسعة السوداء…
لماذا أغلب أهل البادية يتميزون بمقل واسعة، يسكنها سواد قاتم أخاذ؟ كان يتساءل الأستاذ بين الحين والآخر.
أحلام البدو تتشابه كما أشكالهم وطريقة عيشهم، هذه هي القناعة التي كونها الأستاذ انطلاقا من مكوثه الطويل بين ظهرانيهم، هو القادم من حي الملاح بفاس.
– أستاذ، أنا أريد أن أصير كاتبا…
هكذا جاء الجواب عامرا، كما تعمر سنابل قمح القرية في كل مايو، دون أن يرفع أصبعه.
تفاجأ الأستاذ من الجواب، فقد كسر أفق تلقيه وأخرجه من نمطية إجابات تلاميذ القرية. عرف التلميذَ من بحة صوته المجروحة الحزينة التي تميزه، ترك الطبشور الذي كان يكتب به الأحلام على السبورة بخطه الجميل. سبورة معطوبة تتخللها ثقوب من كل جانب، كما الوطن…
استقى هواء من رئتيه ونفخ بفمه على يمناه كي يزيل عنها بقايا الطبشور،وكأنه يحاكي ساحرا يخرج أشياء تبهر الأطفال من قبعته، اتجه نحوه زارعا ابتسامة صادقة على محياه الجميل، ثم سأله:
-لماذا تريد أن تصير كاتبا يا بني؟
أجاب التلميذ:
– لأني أحب ذلك، لأن الكتابة خالدة والإنسان فانٍ، أريد أن أصير كذلك، لا لأجل أحد. بل لأجلي…
حين صرح التلميذ بحلمه في أن يغدوَ كاتبا، سمع وراءه كرنفالا من الضحك…
ذلك التلميذ كان أنا.

الكاتب : الشافعي عبد الجليل. - بتاريخ : 29/06/2018