حوار مع صديق شذرات في المسألة الدمقراطية

  محمد الحبيب طالب

 

 1-

أمهلت نفسي لبعض الوقت،ريثما يتبين الخيط الأسود من الأبيض،في واقع الصراع على سورياو في المنطقة عامة،بينما كان سقوط النظام في حواري السابق مع صديقي المشار اليه ،قد جرى في الأسبوع الأول لهذا السقوط المفاجئ.وكانت الوقائع حينها ليست جلية بعد و مشبعة بإسقاطات مسبقة على مستقبلها.فهل أثبتت الأشهر الفاصلةإلى اليوم أحكامي الفورية وقتها،و هل أظهرت التطورات أفقا عاما ،و في أي اتجاه؟

قبل ذلك، أود التذكير للتوضيح و حسب،أن غرضي مما ختمت به مقالتي السابقة في المقارنةبين الوضع الفرنسي تحت الاحتلال النازي في عهد المارشال بيتان و حكومة فيشي و الوضع في سوريا تحت حكم”سلطة الأمر الواقع”بقيادة أحمد الشرع (الجولاني سابقا)،كان يستهدف الخلاصات التالية:

– في الحروب ،هزيمة أو إنتصارا لنظام ما عبر التاريخ،لا يتوقف على عامل واحدفاصل،مهماكانت درجة تقدمه على العدو.والمثال الفرنسي السابق،المندرج فيزمننا المعاصر الحديث ،يخفظ إلى حد كبير من الرأي الشائع حولأن الديمقراطية كفيلة لوحدهالضمانالنصرالحتمي.ومثال فرنسا،وهي أم الدمقراطية الغربية،في هزيمتها السريعة أمام الاحتلال النازي،من الأدلةالتاريخية على نسبية أي من العوامل المجتمعية المتراكبة،و الفاعلة، نصرا أو هزيمةفي الحروب.

– وقد تميز الحكم النازي بطبيعته القوميةالشعبويةالعنصريةالدكتاتورية.لكنه صعدإلى الحكم بانتخابات برلمانيةفي ظروف إقتصادية –إجتماعيةمأزومة،و الشعب الألماني يعاني من ترسبات لشعور عام بالإذلال القومي من جراء تبعات الإذعان للشروط المفروضة على ألمانيافي هزيمتهابالحرب العالمية الأولى.مما مكن النازيون من استغلال هذه الظروف مجتمعة لسيادة الأيديولوجية النازية القومية العنصريةعلى المجتمع.ومن تم الصعود بالديمقراطية ثم الانقلاب عليها بدكتاتورية قومية شعبوية. الديمقراطيةالمؤسسية إذن ،إذ ا فقدت ماهيتها الإنسية وطنياو اجتماعيا و عالميا, تتحول إلى مجرد آليةمن آليات حكم أقلية حتى لو كانت ذ ات شعبية عارمة.

-أما وجهة المقارنةتحديدا بين الوضعيتين الفرنسية و السورية ،ليس بداهة في عمق الثقافة الديمقراطية المجتمعيةفي الأولى،بينما هي من الضحالة في الثانية. لكنهما معايشتركان في اللحظة التاريخية لكل منهما، أن جماهير واسعة في كل منهماحملت آمالا واهمة إما في درء توسع الاحتلال النازي و إنهائه، كماكان الحال في فرنسا.و إما أملا في إنهاء الاقتتال الداخلي لاستعادةاستقرار الوحدة الوطنية، و رفع الحصار الاقتصادي الدي أنهك المجتمع ماديا و نفسيا. كما هو الحال اليوم في سوريا .و في الحالتين ،سيشتركان معا، ولو بعد فترة ،في أن طريق الخلاص هو نفسه كما كان في فرنسا ،بعد انطلاق المقاومة الشعبية و بدعم عسكري بقيادة الجنرال دوغول ،كذلك سيستفيق الشعب السوري أيضا على أن مقاومته للاحتلال الإسرائيلي هي المدخل الرئيس لتخلصه من الانتظارية الواهمة و من أدران الانقسامات الطائفية و المذهبية، ولاستعادته لوحدته الوطنية المستقلة و الكاملة السيادة.

-2

فكيف وقع إذن ما وقع في سوريا ؟ و ما هو تفسيري لهذا الوقوع المفاجئ؟   

في ه ذا الجواب ، سأستغل في صياغته بعض الوقائع المستجدة التي لم تكن حاضرة وقتها في الحوار.و لغزارة التأويلات و التفسيرات لما وقع ،وخاصة ممن يسمونهم بالخبراء المختصين، لا أرى فائدة في تقييمها واحدة واحدة.لكنني ألاحظ توا ما يلي:

– لا أحد يملك وقائع يقينية على ما حدث من تسليم للسلطة بلا مقاومة ، و بانسحابات متتالية للجيش، مع ترك أسلحته و خلع بدلاته العسكرية. و لا أحد يزعم أن من دخلوا حلب و حمص و حماة و دمشق ، دخلوهاظافرين  في معارك قتالية، أكسبتهم انتصارا مبينا ،إلا مَنْافتقد لذرة حياء من كذبه البواح.إنه إذن ،تسليم و استلام و حسب وليس بالمعركة الظافرة قط

-هذه الصورة اليقينية لوحدها، تفوح منها رائحة مؤامرة ما.لكن ممن و كيف ؟!

هنا يذهب البعض إلى ملء فرغات الأدلة المقنعة ،باختلاقأجوبة من رؤوسهم،يعتبرونهامنطقية و واقعيةبالضرورة .و من بينها خصوصا ،لابدو أن إجماعا دوليا قد حصل،و في مقتضاه التخلي عن النظام السوري. و خاصة عبر تفاهم على تنازلات متبادلة بين أمريكا و روسيا(وحتى إيران) في أكرانيا مقابل سوريا (ولإيران تعليق الضر بة العسكرية الأمريكية المزعومة و القادمةحتما). هذ ا  التفسير الساذج و السطحي سرعان ما ينهارمنطقه كلما توغلنا في تحليل شبكة التناقضات المعقدةبين كل الأطراف الفاعلة في المنطقة ،بموازين قواها و أهمية سوريالديها في استراتيجية كل منها محليا و دوليا،و لو بمعيار الربح و الخسارة في أية مساومة من هذ ا القبيل. لعل المتتبع يدرك جيدا,أن جميع القضايا الكبرى الجارية في الصراع الدوليمع الصين أو في أوكرانيا أو مع إسرائيل في فلسطين و لبنان و اليمن  و مع ايران،ما زالت جميعا تغلي على صفيح ساخن ،و لا مقدمات ديبلوماسية مضمونة النتائج بعد، تتيح لتقديم تنازلات  مسبقة من هذ ا المستوى و في منطقة لها وزنها النوعي على مسار الصراع الدولي. وبتعبير آخر ،لا يمكن لأي طرف ،كما يقول المثل المغربي “ان يشتري الحوت في البحر” قبل صيده.و لسخافة و تبسيطية التحليل  السابق ، كان بإمكاننا أن نكتفي بسؤال واحد: إذ ا كانت المصلحة الروسيةهي فقط استمرار قاعدتيها  العسكريتين في سوريا ،ألا يمكن ضمان بقائهما في تفاهم جديد مع تركيا الفاعل الأكبر في سوريا اليوم، لتشابك مصالحهما و حاجاتهما لبعض،كما كان من قبل ،و على الرغم  من اختلافهما السابق من النظام السوري؟! المسألة في النهاية أكبر من القاعدتين الروسيتين على أهميتهما ،و بالتالي ،سقوط النظام السوري الحليف، هو في المنظور الاستراتيجي الروسي و الإيراني خسارة كبرى لهما .

-ما يتم غض النظر عنه في تلك السيناريوهات كثير و فاقع للغاية. و منه استصغار كلي لمآسي و مضاعفات حرب دولية و إقليمية طاحنة على سوريا لأزيدمن أربعة عشر سنة ، تظافرت فيها كل عناصر الحرب الشاملة(لأزيد من ثمانين دولة ،سميت بالصديقة “للثورة السورية”). استخدمت فيها  كل الوسائل : القتالية والمخابراتية والاقتصادية و الدبلوماسية و الإعلامية و الأيديولوجية  الطائفية  المذهبية .و استمرارها الإعلامي إلى اليوم ،أي بعد سقوط النظام ،يسعى الى تحميل المسؤولية كاملة على النظام لوحده وكأنه الاستثناء عالميا في ما يقولونه استبداداوحشيا و مجرما.وكأن تلك الحرب الشاملة وبتلك الطاقات الهائلة لم تكن سوى دعوات للخير و نسائم منعشة للحرية و الديمقراطية.

-3

و لأني لا أريد السباحة على نفس علو أمواج هذ ا البحر الإعلامي المظلل ، فإني أختزل تفسيري لواقعة سقوط النظام السابق في الحيثيتين التاليتين:

* من جهة ، الواقعة الوحيدة بين أيادينا و تحت أنظارنا ، و التي يمكن استنطاقها أن يكون أقرب للحقيقة ، ليس سوى الانسحابات المتتالية للجيش السوري ، إما لاختراقاتتآمرية داخل قياداته، و هذا متوقع من جيش منهك ويعاني ضباطه وجنوده من شظف العيش و من انهيار المعنويات لدى المجتمع برمته من شدة تداعيات الاقتتال الداخلي عليه ،معطوفة على قساوة العقوبات و الحصار الخارجي على وحدة المنظومة الاقتصادية الوطنية،لتفككها و تراجع مواردها و منافعها.وعلى وحدة الروابطالمجتمعية ،و على مستوى المعاش و نمط الحياة عامة.لهذ ا كان الاختراق متوقعا في مثل هده الظروف العسيرة الاحتمال، لاسيما و أنها الطعم الجاذب لاشتغال جبهة المخابرات، و هي من الجبهات الرئيسة في الحرب الشاملة ،و التي لم يتوقف أبدا التركيز عليها.

* ومن جهة ثانية ، لم يكن ذ لك إلا جانبا واحدا فقط،أما الجانب الآخر ، فسيحيلنا حصرا الى الدور التركي الصانع و الفاعل الرئيسي في هذ ا الانقلاب على النظام ،و الراعي للحرب الشاملة على سوريا منذ  أول اندلاعها. و من دون الدخول في تفاصيل العلاقات التركية – السورية المتقلبة ،يلفتنا  أنها  مرت بسنوات عسل بين النظامين ،بلغت حدا غير معتاد في علاقات الصداقة الحميمة بين أسرتي الرئيسين ،وبانفتاح موسع على الصادرات التركية،أثارت تنافسيتها غضاضة غير خفية من المستثمرين السوريين. وبدون الوقوف على أول سبب مكثوم في تنافر العلاقات بين تركيا و قطر حليفها العضوي و بين سوريا ،حيثكان السبب ،رفض سوريا لمشروعهما في إقامة ممر للغاز القطري يعبر سوريا إلى تركيا و منها إلىأوروبا.وكان الرفض السوري ناجما عن أضراره التنافسية على غاز الحليف الروسي .و لذلك سأذهب مباشرة الى التذكير بالعناصر الكبرى التالية:

أولا ،أن تركيا دولة كبيرة الأهميةفي الحلف الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي سابقا و في المنطقة عامة ما بقي هذا الحلف. و هي أول دولة إسلامية اعترفت فورا بالكيان الإسرائيلي وما زالت تحتفظبعلاقاتها الطبيعية معه على جميع المستويات،على الرغم من بعض التوترات التي تحدث بين الحين و الآخر.

وثانيا ،لانسداد أفق انضمامها لعضوية الاتحادالأوروبي .و المانع في الحقيقة،ليس سوى أنها بلد إسلامي كبير،لا يتوافق مع الثقافة المسيحية الثاوية فيالمجتمعات الأوروبية وفي الاتحاد الأوروبي أيضا.ناهيك عن توسع النزوعات العنصرية ومنها خصوصا “الإسلام-فوبيا”.

و ثالثا ،أن تركيا،لعلمانيتها الفوقية و القسرية في بدئها،و في مجتمع كانت و ما زالت ثقافته الدينية طرقية بالأساس، و لها خلفية سياسية إمبراطوريةعثمانية.

 نجم عن كل تلك الترسبات العميقة قلق في هوية المجتمع بين انتسابين للغرب أو للشرق.عدا مشكلتها المزمنةمع الأكراد ،و مع العلويين الاكثر حساسية تجاه اي سلوك مذهبي ،و هما معا يمثلان  نسبة غير قليلةفي التركيبة الوطنية لتركيا.ولعل في تظافر تلك العناصر الكبرى ما يفسر لنا  لماذا أيديولوجية الحزب الحاكم تتسم بطابع إسلامويسياسويبرغماتي  إلى أقصى الحدود ، لا تشدها  مبادئ  لعقيدة دينية صلبة ، كما هو في الشأن الإيراني مثلا .و لماذا  كانت لتلك الأيديولوجية تطلعات جيوبوليتيكية عثمانية الخلفية،والتي لازالت تداعب مخيالها الاستراتيجي و لو في حدود الممكن،و لهذا محاولتها الدؤوبة لتمثيل قيادة الحركات الاسلامية السنية في حدود السياقات التي تتيحها لها علاقاتها الغربية- الامريكية-الاسرائيلية.

و العنصر الاخير ،و الذي يهمنا اساسا من تلك، أن لتركيا، و لدوافع جغرافية و اقتصادية و سياسية ، حاجيات و مصالح قومية مع جيرانيها الروسي و الإيراني ،و إن كان ميلها قويا للغرب. و من ذلك ،مواقفها من أزمة أوكرانيا  ،ومن أزمة سوريا وشراكتها لروسياو إيران في منصة استانا.وهذه الاخيرة هي بيت القصيد في موضوعنا هذا.وهنا لا بد لي ان اقف سريعا عندمحطات فاصلة في ما حدث في سوريا.

-4

*قبل الازمة ، كانت الدولة السورية قد جمدت كليا ملفها القديم في اقتطاع  تركيا للواءالاسكندرون من ترابها الوطني.و جاء  التدخل التركي  العسكري في الازمة بحجة التهديد الذي يمثله الوجود الكردي السوري المسلح (قسد) على الأمن القومي التركي ،و معه وقوف تركيا لجانب كفاح الشعب السوري من أجل الحرية و الدمقراطية ضد قمع و استبدادية النظام . هيمنت تركيا علىالجانب الغربي الشمالي من سوريا ، حيث تجمعت معظم الفصائل المسلحة تحت المظلة التركية(ما عدا قسم (قسد)  في الجانب الشمالي الشرقي بحماية أمريكية). و مساحة الطرفين تقدر بعشرين في المائة (20%) من المساحة السورية الكلية ، و بما تحتويه من موارد كبيرة الحساسية في توازنات الاقتصاد الوطني (الزراعة، البنزين و الماء)  . و ما يلفت في التدخل التركي المباشر أنه حمل مؤشرات تشي وكأنه إحتلال دائم ،من إحلال العملة التركية وتغيير مناهج التعليم الى رعاية حكومة مؤقتة و تمويل وتدريب الفصائل المسلحة . بينما لم يعد بمقدور تركيا تنفيذ تهديداتها التصفوية لقسد للحماية الامريكية لها إلا في معارك منتقاة بحذر شديد من استفزاز تلك الحماية.

   بعد هذه الصورة العامة للوضع السوري في الشمال ، يمكن لنا أن ننتقل الى الدور الفاصل لتركيا في الانقلاب الأخير على النظام السابق.ويحضرنا للوهلة الاولى الطلب الشهير لأردوغان برغبته في لقاء الأسد لتصفية الأمور العالقة بينهما،ورفض الأخيرلهذا اللقاء ما لم تتعهد تركيا رسميا بانسحابها الكلي من سوريا. هذا الطلب الذي  قوبل بالكثير من اللغط الاعلامي ، حتى و إ ن صح أن  روسيا و ايران ساندته ،فإن سياق الأحداث يبين ، انه كان من قبل أردوغان مجرد  مناورة تمويهية لا غير ، بينما كان الاستعداد  للنقضاض على النظام جاهزا، ومن الأدلة على ذ لك تصريح نتنياهو، بعد ايام قليلة من طلب اردوغان ، و لعلمه بما يحضر في الكواليس ،مهددا،بأن “الأسد يلعب بالنار”.وليس استثناء في التقاليد الدبلوماسية أن الرئيسينفي اي نزاع كبير لا يلتقيان إلا بعد تمهيد من المسؤولين الأدنى لدراسة الحلول الممكنة للقضايا و تقديم أرضية متفق عليها للقاء الرئيسين.و ثم ماذا كان  يمنع أردوغان من أن يعلن بالصيغة التي يفضل أن تركيا ملزمة بالانسحاب الكلي، و إلا كما قال الأسدفي جوابه الكامل غير المنقوص إعلاميا “عند ويل للمصلين”،إذا كان كذلك ،فلمادا لا أقابل نتنياهو أيضا ؟!

دعنا من هذه الجزيئات التي قيل فيها الكثير لتحميل المسؤولية فيما وقع لعنادالرئيس السوري ،ولولا ذلك لجرت الأمور على أحسن ما يرام. ولننظر لما وقع من زاوية أخرى أهم. قد لاتكون منصة “استانا ” وضعت صراحة حل كل الخلافات الممكنة بالتشاور و الاتفاق الجماعي بينها ،و ألا ينفرد أي طرف بسلوكمغاير مستقل يحطم قوام وجود هذه المنصة . لكنه عُرف يوجبهالهدف المشترك و صدق الارادة  من إنشاءالمنصة ،بغاية التعاون الجماعي لتثمير الخطوات الإجرائية من أجل الوصول إلى حل نهائي يحافظ على السيادة الوطنية السورية ، ويراعي ما هو أبعد في المصالح المشتركة على مستوى المنطقة بما يقدمها و يرسي أمنها و استقرارها . غير أن تركيا ،و التي ظلت تراوغ وتماطل في ما التزمت به من خطوات اجرائية تجاه المليشيات التي تحتضنها ، فضلت ان تتنصل كلية من تحالفها في استانا ،و أن تفاجئ الجميع ،إلا أمريكاو بالتبعية إسرائيل ،بما قامت به . انه سلوك انفرادي انتهازي بلا ريب ،و يعيد التأكيدعلى ما قلناه عن الطبيعة الأيديولوجيةالسياسوية المفرطة البرغماتية،وعن التقلقل في الهويةالحضارية و ترسبات المخيلةالعثمانية . ولعمى الحسابات البرغماتية الانتهازية الآنية ،لم تتوقع تركيا جيدا أن طمأنتها لإسرائيل على لسان الشرع ،لا يطفئ عطشها العدواني التوسعي. فكانت فضيحة بالجلاجل (كما يقال) للسياسة البراغماتية الانتهازية ،الضيقة الأفق دائما و في أي مكان.

-5

-ويبقى السؤال قائما ، ما هي السمات العامة للوضع الراهن في سوريا ؟و أي مأزق وجد الحكم الجديد نفسه فيه؟

كما سبق، أصرف النظر دائما عن التفاصيل ، لكي أنتقي و أشدد على السمات البارزة المعروفة التالية:

أ لعل أخطر واقعة صارخة في الوضع الجديد ، أن سوريا لم تعد دولة قائمة الأركان، و إنما هي مجرد سلطة ، مطعون في استقلاليتها السيادية ، مشكوك في طبيعتها الأيديولوجية و اختياراتها المجتمعية الجديدة ، المعلن عنها.وليس لها ما يبرر انتسابها العضوي لمسيرة المجتمع المدني السوري الحق . وقطعا هي لا تملك كل المؤهلات لقيادة دولة تقع في إحدى بؤر الصراعات الدولية ،ولها تاريخ حضاري ، مهما قيل في نقائص حكامه السابقين ، إلا أنهم كانوا من صلب التطور المجتمعي ،كما هو في حاضرهم ،لا من شواذ  غياهبه. قرائن هدا الحكم عديدة، و لعل أهمها :

*لا يوجد في سوريا اليوم أي مؤسسة سليمة من مؤسسات الدولة،سوى ما يسمونه مجازا، جيشا و أمنا.وهو ليس إلا إسما مستعارا لنفس المليشيات السابقة لهيأة تحرير الشام ،بخليطها السوريو الأجنبي ،بينما فُكك الجيش العربي السوري بالكامل، واستمر إغماض العين عن الاستعانة بأطره و جنوده، إن لم يتم اعتقال و تعذيب (وحتى إغتيال)من سلموا أنفسهم بحسن نية للحكام الجدد.و الأنكى من ذلك ،أن إسرائيل قامت في الحين و بلا تردد ،بضرب كل المنشآت التسليحية الدفاعية الرئيسة للجيش الوطني السابق .كما تم تسريح الآلاف من العاملين في الجهاز الإداري وفي باقي مرافق الدولة ،بما فيهاالسطو على المؤسسة الدينية الرسمية السنية التوجه باعتقال مفتيها الشيخ ” البوطي”، وبعد ان اغتالوا نجله و أعلن سماحه لهم.

*وعلى الرغم منكل الخطابات الرسمية للسلطة الجديدة ،المطمئنة و الواعدة بالحوا ر و اشراككل المكونات  المجتمعية في بناء الدولة وفق قواعد حقوق المواطنة المتساوية ،و في مرحلة انتقالية قصيرة تؤسس لدستورجديد ومؤسساتتمثيلية ديمقراطية بالمعايير الحديثة ،كانت الممارسة الفعلية تتناقض و هذا الخيار المعلن المطمئن، بينما هي في الحقيقة كانت تسعى لما تسميه أدبياتهذا الرهط من الحكام”بالتمكين”،وغايته احتكاركل المفاتيح الرئيسة للسلطة بيد أتباع من هم اليوم حكاما و استتباع  باقي قوى المجتمع لاختياراتهم و هيمنتهم. وكذلك كان في الحوار الوطني الذي طبخ على عجل،وانتقيت أسماءه بعناية.فكان مجرد مونولوج خاطف حاورت السلطة فيه نفسها . وبالمثل ،ما سمي بالإعلان الدستوري الدي مطط المرحلة الانتقالية لخمس سنوات، و منح معظم سلطات القرار لرئيسها الانتقالي الحالي،ثم عدا صياغاته الاخرى الملتبسة القابلة لتأويل محافظ و ارتدادي.  

وعلى نفس المعيار التمكينيالإقصائي تم تشكيل الحكومة الجديدة ، و التي لا  تعبر في عضويتها عن أي تمثيلية معتبرة و متوازنة.و الأخطر من كل ذلك ، تقوم الدعاية الموالية بشد العصبية المذهبية السنية . لعلها تكسبها لصالح أن الحكم القائم يمثل خلاصها من نظام طائفي علوي سابق، و للتغطية أيضا على مجازر الإبادة المنظمة التي لحقت بالعلويين و غيرهم من سكان منطقة الساحل حيث يتمركزون . هذه المجزرة، و غبرها من أشكال الفلتان الأمني الذي تقوم به العصابات المسلحة “الحليفة” في مناطق أخرى ، رفع منسوب الهواجس المذهبية و الطائفية والإقوامية واللاثقة في المستقبل المنظور لدى كل مكونات المجتمع السوري.

 

و هكذا،يبدوا أن الوضع السوري الإجمالي سيظلعلى حاله ، كما هو على السطح السياسي لمرحلة ستاتيكية قد تطول ، إلى أن يتضح  الاتجاه الغالب الذي ستستقر عليه الصراعات الجارية عالميا و بالأخص منها ، ما يجري في المنطقة بين  أمريكا و إيران في الملف النووي من جهة أخرى.و تتضمن هذه الوضعية استاتيكية المعلقة العناصر التالية :

1) في ظل تفاقم الهواجس الحذرة و الانكفائية على الذات، و في أجواء اللاثقة في سلوكيات الحكم القائم ، لا يمكن لتصورات المرحلة الانتقالية و للدستور القادم إلا أن تأتي من قبل كافة  المكونات الأخرى مشروطة و مدموغة بتلك الهواجس وقاية لهويتها الفرعية ، بينما يسعى الحكم إلى مركزية للدولة الجامعة ، لكن بعقلية هيمنيةمذهبية اقصائية. و لهذا من المرجح أن يبقى الوضع على حاله بين شد و جذب لن يخلو من استعمال القوة المباشرة ، أو غير المباشرة بالحمايات الخارجية. و المعضلة لدى الحكم أنه لا يستطيع أن يذهب بعيدا في تصور ديمقراطي للدولة المركزية الجامعة، المبنية تمثيليتها وفي كافة المؤسسات على المساواة في حقوق المواطنة ، لأن معضلته بنيويةو خصوصا من تلك التنظيمات الأجنبية  من مختلف الأجناس الداعمة له. و هي لا تدين بعقلية الوطن و المواطنة ، و تؤمنبأن كل من يخالف عقيدتها في غزوتها الظافرة هو غنيمة مستباحة لها ، مما سيشرع الأبواب حتما ، إما لفوضى قادمة و إما لتوثرات دموية متلاحقة، و إما لاقتتال داخلي بين تحالف السلطة القائمة.

و ليس بعيدا عن هذا المعنى، أن أحمد الشرع برر في حوار صحفي معه، رفضه للشرط الأمريكي بإفراغ قيادات الجيش القائم من الأجانب، و السماح للقوات الأمريكية بحرية الحركة ضد من تحسبه منهم إرهابيا. فأجاب قائلا بأن هذا التصرف في تقديره سيؤدي الى اقتتال داخلي، بينما الحاجة ماسة الى الأمن و الاستقرار. و في مقابل الشرط الثاني، باخلاء سوريا من الفصائل الفلسطينية المقاومة، أكد على أن الحكم الجديد عازم على ضمان الأمن لكل جيرانه، بما فيهم اسرائيل

2) إدارة ترامب الحالية ، تضع المسألة السورية في أسفل سلم أولوياتها ، أو تابعة لما ستجنيه من المحطات العربية في فلسطين و لبنان و اليمن، و من لقاء ترامببقيادات عربية في زيارته القادمة القريبة الي المنطقة. ولذلك نرى الادارة تكتفي بالتأني و التدرج في تعاطيها مع السلطة القائمة في سوريا، و بما يفيد الضغط عليها لتسريع تطبيع علاقاتها مع إسرائيل .و للتقدم نحو إقامة دولة قريبةمن النموذج العراقي للتزامها أصلا بحماية الأكرادالسوريين ، و مع الإبقاء على سوريا تحت تقاسم النفودين التركي و الإسرائيلي .هذ ا التعاطي المتدرج و المتأني ،و بأهدافه العليا السابقة ، في انتظار  ما ستؤول اليه الحصيلة العامة ذات الأولوية ،ظهر جليا في تخفيضرتبة تأشيرة دخول الهيئة الدبلوماسيةالسورية للولايات المتحدة، بما يعني أنها هيأةغير معترف بعد بحكومتها .و ظهر في التقسيط المتريث في رفع كل العقوبات الاقتصادية الواردة في قانون قيصر ، وهي الأمل العاجل  المنقذ لسلطة الأمر الواقع من الأزمة الاقتصادية و تداعياتها المزرية و المهددة لاستقرارها.و ظهرأخيرا، في ما صرح به ترامب في لقائه بنتنياهو ،في مشهد التقريع النرجسي الإعلامي المعتاد مع زواره ،مهنئا  صديقه أردوغان على ما أنجزه في سوريا، و منبها صديقه المدلل نتنياهو إلى أن يتعامل بعقلانية مع حصة أردوغان الكبرى في سوريا .وكأنه قال : ” أسمع  تجشؤك من كثرة ما التهمته بشره و ما فعلته بالقوة لإنجاز حلمك الكبير و القديم في سوريا أهنئك لكن تريث و تعقل مع صديقنا اردوغان “

 و ذلك ما جرى فعلا بعد هذه النصيحة في اجتماعلقادة أمنيين من الطرفين” التركي و الاسرائيلي”في أدرببجانلتسوية و تهدئة الخلافات بينهما ،و خاصة في ما يتعلق بإقامة قواعد عسكرية تركية على مقربة من ما تعتبره إسرائيل مناطق عازلة في نفوذها الناري.و كيف لا، و تركيا تحفز الحكم  السوري القائم ،ولا تعترض قطعا على تطبيع كامل  وارد في أجندته.غير أن لإسرائيل و لاعتداءاتها مطامع أوسع في سوريا لم تحسب لها الحساب تركيا مطامع تربكها و تمرغ مزاعم استحقاقها لقيادة المنطقة الإسلامية  السنية.‍‍

 

و في جميع الأحوال ، فلا شك في أن ، تقاسم النفوذ التركي – الإسرائيلي ،و شروط الولايات المتحدة لاعترافها الكامل بالسلطة القائمة و لرفع العقوبات الاقتصادية ، و توجسات الهويات الفرعية و أغلب المجتمع السوري،و المذابح المذهبية مع الفلتان الأمني المستمر،في مقابل سلطة غير قادرة على انعاش العافية الاقتصادية و لا على استثباب الأمن و السيادة الوطنية ، لا شك في أن هذه العوامل مجتمعة ستكرس وضعية اللادولةالىحين أن تستقر قضايا الصراع الاخرى في المنطقة على اتجاه معين ،و الأرجح فيه ،أن إسرائيل هي التي ستدخل  في أزمة فوضى سياسية نكوصية متواصلة،وحينها لا مناص من أن الشعب السوري و قواه الديمقراطية الحقة، هي التي ستستعيد المبادرة  في مواجهةالاحتلال الإسرائيلي ،و التخلص من أوهامالانتظارية و توجسات الهويات الفرعية نحو بناء الدولة بهويتها الجامعة التحررية و الوطنية الحقة,

-6

وإذا عدنا الى المسألة الديمقراطية ،و قد حاولت أن أقدم عنها شذرات سياسية أساسا ، لم تحفل بتحليل ما هو دستوري و مؤسساتي و قانوني ، و أملي ان اتناولها من هذه الوجوه، إن تمكنت من ذلك لاحقا. ((إذا عدنا) فإن أول ما تبادر الى ذهني ، أمام هذا العجز الفاضح لمجتمعاتنا العربية في التحول إلى أنظمة ديمقراطية متقدمة ،تتخطى فعاليتها حواجز التخلف و التأخر ،القولة الشهيرة القديمة عن سوريا ، عندما خرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي باتفاقية كامب دايفيد، حينها قيل “لا حرب نظامية بدون مصر ، و لا سلام بدون سوريا” و أظن أن هذه القسمة بين الحرب النظامية و السلام لكل من البلدين ، أكدتها التجربة الى اليوم.

فالحروب النظامية توقفت ، و بقيت الدولة السورية طيلة العقود السالفة ، أكبر معيق لسلام مع إسرائيل .و الذي بات شرطه التخلي عن فلسطين .لكن أهم ما تنطوي عليه هذه القسمة بين البلدين أكبر من ذلك بكثير،لأن خلفيتها العميقة ،و التي أكدتها تجربة  الصراع العربي – الإسرائيلي أكثر من غيرها ،أنه لا حل للقضية الفلسطينية جذريا ،لخصوصية الاحتلال الإسرائيلي الإحلالي و التوسعي،إلا إذا وُضعت القضية لدى كل قطر ، و لديها جميعا في استراتيجية موحدة للأمن القومي بكل أبعاده ،الدفاعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية . هذا الخيار لم ترق له قط التجربة العربية، إلا في لحظات استثنائية تضامنية في حدها الأدنى و  لم تدم طويلا .وعلى النقيض من ذلك  كان المعنى السياسي العملي الوحيد لشعار القطر أولا، السائد اليوم، ليس الا  التخلي عن أي استراتيجية للأمن القومي و في القلب منها القضية الفلسطينية ،ولا أدل على ذلك من أن معظم تاريخ العلاقات القطرية كان صراعات بينية تدميرية في كل محطاته الكبرى . إلى أن وصلنا إلى هذا  المستوى من العجز  الفاضح رغم كل المؤهلات المشتركة لتكون المجموعة العربية  قوة إقليمية في مستوى تحديات عصرها . وقد كنا في الماضي القريب نقول ، أن الدولة القطرية غير قادرة لوحدها على التنمية الاقتصادية بمقاييس التطور التكنولوجي  و المعرفي في حاضر معولم، و يقوم فصاعدا ،على التكتلات الكبرى ،القومية و ما فوق القومية ،و اذا بنا اليوم ، نرثي الدولة القطرية نفسها إلى ما قبلها من تفكك بارز أو مبطن للكيانات القطريةذاتها و من انعدام مذل للسيادة الوطنية و القومية معا .

 

 إنه قانون التنمية الاقتصادية في عصر العولمة ، كيفما كان نموذج التنمية و نمط إنتاجها . و خيرمثال على ذلك ، ما أسميناه باكرا ” بالنمور الأسيوية” .و التي اعتمدت في انطلاقاتها على انتقائها لتنسيقات تكاملية جهوية .في بداية الثمانينات انعقد مؤتمر قمة عربي  خصص لأول مرة اجتماعه، و أقر، خطة عربية للتنمية المشتركة و للتكامل الاقتصادي. و أين نحن منها اليوم في أوضاع السودان و ليبياو سورياو اليمنو العراقو لبنان؟ عدا ان التكامل الاقتصادي يقتضي الاستثمار المتبادل و المشترك  للمدى البعيد، و بما يفرضه من تغليب للمصالح المشتركة بدل ربح اقتصادي و سياسي وازعه الوحيد حماية المصالح الفئوية  المهيمنةو الضيقةو المخفية وراء شعار ” القطر أولا

لكن غياب الاستراتيجية الموحدة للأمن القومي بكل ابعادها، وغلبة الفتنة البيئية القطرية بدلها ، لا يلغي من حساباتنا عند تحليل محدودية التجارب التحررية (لارتباطها العضوي الموضوعي التاريخي والجيوبوليتيكي)الدور الكبير للفتن البينية في فشلها.ناهيك عن أخطائها و قصورها الذاتي. التنبيه لمركزية هذه الحيثية النقدية في غياب استراتيجية للأمن القومي و عجز الدول القطرية في الخروج من أسوار التخلف و التأخر ، و الأدوار الكبرى  المدمرة و الفاصلة للصراعات البينية، التنبيه ضروري و أشد إلحاحا في هذا الزمن الرديء الذي اضحى فيه الخيار القومي الوحدوي في الحسابات العالمية المعاصرة، ترفا فكريا زائدا عن الحاجات المحلية أو لغة خشبية فات أوانها. ولا يخفى علينا في هذا السياق أدوار الإعلام المحلي و الخارجي و خيارات السياسة التعليمية في تكريس و نشر هذه العاهات بشتى الأساليب “التثقيفية و الوسائل التجهيلية.

و استكمالا لنفس المنهاجية النقدية .ينبغي عند أيةانعطافة لأزمة شاملة ، أن نضع تحت المجهر عمارة المجتمع بأكملها ، لا مستوى واحدا منها  فقط ، باعتبار أن الجميع يكون حينها مسؤولا ,. و في  هذه الذروة ، يكون المجال السياسي هو المعبر عن كافة التناقضات التي تنحر المجتمع بما هو حصيلتها و مرآتها في آن واحد , و مع أن تلك التناقضات في الممارسة السياسية لا تكون على نفس المستوى من النضج القابل للحل دفعة واحدة . وهنا تحديدا ،تظهر كفاءة النخبة ، بكل أصنافها في الحكم او المعارضة و يظهر مدى قدراتها على ضبط خطواتها لتستجيب بعقلانية و بعد نظر لاستحقاقات التقدم.

وقد لا يعطي المخاض لبناً لصالح التقدم و للمجتمع عامة.و حينها يكون الفشل هزيمة للنخبة جمعاء و للمجتمع نصيبه من المسؤولية هذه هي الفكرة الحاكمة في تصوري للتجربة السورية المأساوية،وهي في التالي :

لأنني في المبتدأ لا أنازع بالمرة في أن النظام البعثي في تطوره العام، كان نظاما أمنيا سلطويا إلى حد كبير،كأغلب الأنظمة العربية و سواها .ولذلك لن أقف عند هده الخاصية التي أشبعت إعلاميا و كتابةبالتفاصيل  الصحيحةو حتى المظللة. و التضخيم الإعلامي السودوي معتاد في كل تجارب القطيعة مع نظام سابق.لكن هذه التجارب تبين أيضا ،أن المجتمعات مع مرور الزمن تعيد التوازن  لذاكرتها الجمعية و لسرديتها  التاريخية ،سلبا و ايجابا .وفي شذراتي السابقة في المسألة الديمقراطية نوهت الى ان الأنظمة ، التي استنسخت بشكل ما مؤسسات التجربة السوفياتية في قيادة الحزب الواحد و لو كانت لفافته جبهوية بصلاحيات محدودة ، لا بد له ،وكيف ما كانت شعبيته قوية ،من أن يعمل على تنمية دولة الحق و القانون ،و على صون حيوية المجتمع المدني في التعبير و الابداع و الدفاع عن المصالح الفئوية المستقلة لان هذه  هي روافع الانتقال نحو مجتمع اشتراكي ديمقراطي ومؤنسن، إذاما تظافرت مع الرافعة الركيزة في التنمية الاقتصادية المستدامة و ذات الرعاية الاجتماعيةالمتواصلة التوسع و الجودة . و إذا ما اختلت حسابات هذه المعادلة ، فلا شيء يقي من الانهيار و الدوران المفرغ وراء أسوار التخلف و التأخر.

و ما يخص التجربة السورية هنا، أن البعث جاء الى السلطة بانقلاب عسكري ، بعدنضال سياسي مدني ليس بالقصير .وهذه إحدى مفارقاته مع الانقلاب المصري الذي لم يكن يملك أداة حزبية سابقة . و لذلك ، كانت القيادة الانقلابية المصرية متعددة الهوى الايديولوجي، من الاسلامي الى الليبرالي الى الاشتراكي الى الوطني و حسب،و كان هذا الحال من الاسباب الرئيسة  في تلعثم مسارها ،و في الانتكاسات التي اصابتها ، الى ان تم “انقلاب القصر” على خياراتها القومية و الاجتماعية و التحررية و التي كان مدبرها وضامنها الاكبر زعامة عبد الناصر .بينما جاءت الحالة السورية في السلطة من حضن حزب سابق ،أيديولوجيته في المنطلق كانت قومية رومانسية”في سبيل البعث لصاحبه زعيم الحزب الروحي ميشيل عفلق”  ،أكثر منها فهما علميا تاريخيا .و التي ستتطور نسبيا بتبني الحزب “لاشتراكية وسطية” إن جاز القول .و خاصة في مراس تحديات وجوده في السلطة.و لربما كان للمنطلقات النظرية التي أقرها المؤتمر السادس للحزب في سنة 1962 تأثيرا ما في التخفيف من ايديولوجيته القومية-الاشتراكية الرومانسية الموروثة.و في كل مراحله لم تسعفه الايديولوجية المتقلقلة ،بين منشئها القومي الرومانسي من جهة و بين مصالحه السياسية الحزبية السلطوية . و هذه قضية تحتاج الى تفاصيل لمحطات لم يكن فيها دائما منسجما مع مبادئه.ما يلفتنا في هذه العجالة ، أن ظاهرة تزاوج الجيش و السلطة ،لم تكن ظاهرة  محض سورية ( و ان تعددت انقلاباتها السابقة)،و لاعربية استثنائية ،حيث كان لها سوابق و لواحق في تجارب عالمية مختلفة ، سواء كان منها ما يخدم اجندات رجعية إمبريالية ( كما جرى في الشيلي على إلندي و في أندونيسيا على سوكارنو و في إيران على مصدق ) وكما كان منها من عبر عن روح وطنية تحررية في الكثير من بلدان العالم ،  وكان منها ما استمر لمرحلة أو حلقة وسيطة لتسليم السلطة لمدنيين منتخبين ( كما جرى في البرتغال و في السودان سوار الذهب) و منها أيضا من حكم ورا ء الانتخابات الديمقراطية ،و المثال الأبرز كان في باكستان و تركيا . و في جميع الحالات و في أي بلد مهما كان متقدما و ديمقراطيا ،للجيش مكانته في صنع القرار . خاصة في تلك التي تعتمد على القوة ولها صناعات حربية تصديرية ضخمة في فرض مصالحها و في صنع قرار أجندتها الامبريالية ،و حالة أمريكا و إسرائيل نموذجية في هذا الصدد. وهذا الدور الخفي للجيش في السلطة ، كبير او صغير هو من أركان ما يعرف اليوم بالدولة العميقة .

        و في جميع التجارب الانقلابية العربية ،و التي سميت بالأنظمة التقدمية لمعايير اقتصادية و اجتماعية و سياسية ذات ميول تحررية ،غير ما كانت عليه الانظمة السابقة و لو بليبراليتها البرلمانية الشكلية ،كانجذرهاالموضوعي ،ضعف المجتمع المدني في تمثيليته لما تعانيه الطبقات الشعبية و كتلتهم الكبرى الفلاحون،و الانقلابيون من هذه الأصول الاجتماعية و كأنهم يعوضون ضعفها بقوتهم العسكرية الأكثر تنظيما و حداثة .

ومع استمرار بقايا الاحتلال (قواعد عسكرية) و الهيمنةالإمبريالية (قناة السويس،وبترول العراق وحلف بغداد).و كان الحافز الأكبر أيضا حرب 48 و تكريسالاحتلال الإسرائيلي بقرار التقسيم . كان لسوريا في هذا الواقع خاصية انفرادية ، لأنها كولاية موحدة للشام الكبرى تعرضت الى تقسيم استعماري في اتفاقية سايس بيكو . أفضى إلى فلسطين المحتلة و الأردن و لبنان ،و حتى الباقي في سوريا الحالية كان معرضا لتقسيم أكبر في أربع أو خمس دويلات طائفية،لولا الثورة الوطنية السورية في 1926 التي حمت وحدة سوريا الحالية .أليس هذا ما يفسر لماذا كانت سوريا القلب النابض للعروبة .ومن المحقق أنها هي التي طالبت و ألحت بطواعية في قيادة شكري القوتلي بالوحدة مع مصر . و ظلت جماهير ها الكاسحة (حتى في زمن الانقلاب الانفصالي)مع عبد الناصر تحديدا لزعامته الوحدوية العروبية . ولاختلاف تلك الخصوصية التاريخية في تقسيم ولاية الشام الكبرى ، يمكننا ان نلحظ ان شعبية حزب  البعثالتي توسعت بفضل انقلابه على حكم انفصالي معزول ، تحاشى عبد الناصر على اسقاطه بتدخل عسكري كان  مضموناجماهريا سلفا ، كي لا يعطي أي انطباع على أن الوحدة مفروضة عسكريا ، و لأن شعبية الحزب ، بعد الشعبية التلقائية لعبد الناصر ، كانت ايضا بفضل هويته الوحدوية رغم رومانسيتها و اهتجاسهابنزوع حزبي سلطوي ، ظهر في مفاوضات الوحدة و في غيرها ،فإن حيازة الحزب للسلطة على يد عسكريين ،حتى و لو كانوا بعثيين ، سيحكمها منطق آخر غير منطق الانتفاضة الشعبية التي يقودها الحزب ، بعد مراس نضالي طويل ينال فيه مصداقيته و زعامته منها . لا سيما و ان الجناح العسكري حتىو لو كان حزبيا لبيئته التنظيمية ، يكون أقل ارتباطا بالحراك الشعبي ،و يحمل في الأغلب نزوعات فوقية أمنية سلطوية .و لمجرد أن السلطة جاءت على ظهر دبابة تتغير موازين القوى داخل الحزب نفسه . لصالح العسكريين الممسكين بالسلطة ،و يعود الحزب تابعا لها و في خدمتها ، وهكذا تضمحل هويته الأصلية في خدمة المجتمع كمثقف جمعي و منظم له ، و تكبر  فيه أو على هامشه الجيوب الانتفاعية المتزلفة للسلطة و خاصة في بيئة تنعدم فيها المنافسة  السياسية الحزبية حتى و لو كان البعض يشارك الحزب الحاكم رسميا نفس الاختيارات الكبرى المبدئية.     

إنها سيرورة الانكماش البطيء لشعبية الحزب و للمجتمع المدني عامة ، و لو بقي للسلطة نفس تقدمي و تعاطف مجتمعي لايحرك  ساكنا ، و لا نحتاج إلى أدلة إثبات كثيرة ، إذ تكفي هذه الإشارة القوية في علاقة الحزب بالسلطة و السلطوية ؛ فمن المعروف أن انقلابين متتاليين تصحيحين، كانا كل منهما على الاخر من نفس الحزب صاحب السلطة إسميا ) أمين الحافض، الأتاسي ، حافظ  الأسد  (  صحيح  أن  الدوافع  كانت  لخلافات  سياسية  في تسيير  شؤون الدولة ، لكن الواقعة ، بحد ذاتها،   تبين أن الخلافات  لم تحسم فيها قيادة الحزب) القطرية و القومية( بالطريقة السلمية الديمقراطية ، و إنما حسمها العسكر .و ذلك  يكشف التحولفي  ميزان  القوى  داخل  الحزب  نفسه  لصالح جناحه  العسكري . و كما  بينت أيضا  التناقضات الحادة بين جناحي ذات الحزب ،  السوري و العراقي ، و التي بلغت ما لم تبلغه أية خلافات  أخرى،  و كانت واحدة منها  ، إعدام مجموعة قيادية بعثية  عراقية  بتهمة  التآمر  لصالح  الجناح  السوري  .و  قبلها انفرطت القيادة القومية و توقفت الاتفاقات بين الجناحين القطريين لتطوير المصالح المشتركة بين البلدين .و كان الجيش في البلدين من يقرر و ليس الأغلبية الحزبية  الحاكمة .النزعة السلطوية إذن كانت هي الأقوى و هي الغالبة على الديمقراطية الحزبية أولاو المجتمعيةثانيا .و هي الغالبة أيضا على ما كان للحزبين من فائض قوميوحدويرومانسي، و الذي كان مفخرة لهوية حزب البعث في البلدين !

لا يمكن لهذه الخاصية السلطوية التي لزمت تطور الحزب في منشإه الانقلابي و التي تسفر بالضرورة عن شخصنة مطلقة للسلطة ، أن يغير منها مجيء رئيس للدولة مدني لم يأت مباشرة من المنظومة العسكرية ، لأنه هو نفسه يتقمص فوراالشخصية العسكرية و عقليتها بصفته القائد الأعلى للجيش و يعرف مسبقا أن الجيش هو ر كيزتهالأقوى في السلطة و الحزب سيستمر تابعا لها ، و أسوء ما في  هذه التبعية أنها تستولد ضمورا لدور الحزب في المجتمع ، و وتفرز جيوبا  لمصالح فئوية على هوامشهتنبني  على  التزلف و التسلق، النفعي  الانتهازي ؛  يخنق  ما تقدمه  السلطة  من  إصلاحات  اجتماعية  و  اقتصادية حقيقية .و مع هذا النمو المرضي تطال القبضة الأمنية كل شيء ، لأنهاتغدو الأكثر جدارة لضمان استقرار النظام، بينما يتراخىانشداد الجماهير العاطفة و تتقلص القاعدة الاجتماعية الأوسع للنظام نفسه.

الصورة أعلاه كانت مجرد شيما عامة، حاولت أن تفسر ظواهر سلبية كانت موجودة، وحتى متنامية، لكن ديناميات الوضع الملموس أكثر تعقيدا، فالحزب المدني و تنظيمه العسكري البعثي لم يكونا على انفصال عمودي متوازي، ولا السلطة البعثية كانت حرة في حركيتها بمعزل عن تفاعلها مع مؤسسات الدولة الأوسع، في الحكومة و الإدارة و الجيش و الأمن، و الجبهة المساندة و قوى وازنة في المجتمع. فالشيما السابقة اذن لا تتمظهر إفرازاتها ميكانيكيا بقدر ما تتطور في دينامية مركبة يتصاعد خطها البياني السلبي في تناسب طردي مع ازدياد الخلل في معادلة الروافع الأساسية التي أوضحتها في شروط المرحلة الانتقالية التحررية و التنموية (إنماء دولة الحق و القانون و صون حيوية المجتمع المدني و الحرص على توسيع الرعاية الاجتماعية الخ…)

 

و مع أن سوريا  البلد  و  بالمقاييس العربية  ،  دولة  متوسطة  المساحة  و  الموارد و السكان ، لكن  موقعها  الجيوبوليتيكي  المركزي  في  صراعات  المنطقة   يجعلها  في  عين  استهدافات  إسرائيل  ،  و  كل  من  يخشى  اختياراتها  الوطنية  التحررية.  و  مع  ذلك  لا  يمكن  لأي  محلل  موضوعي ،أن يتجاهل أنَحزب  البعث ،سواء  في سوريا  أو العراق (تأميم  البترول  العراقي في  زمنه  كان  جرأة سياسية  كبرى  في  وجه  الإمبريالية) قد  أنجز إصلاحات  اقتصادية  ذات  وزن كبير  ،  بتوجيه  من  الدولة  و بتحكمها  في  بعض  المصادر  الاقتصادية  الكبرى  .وفضيلتها  في  سوريا  ،  أنها  (  كما شقيقاتها ) بلا  بنية  عربية  استثمارية  و  تخطيطية  متكاملة  (  الشرط الذي  أوضحته  سابقا  ) فأنها   قد حققت  قدرا  كبيرا  من  الاكتفاء  الذاتي  في  الزراعة  و  المحروقات ،  و بنفس  المعيار  ، قدرة  شرائية  مناسبة  لطبقة  وسطى  خاصة  في  المدن  ، و  تدعمها  رعاية  اجتماعية  في  التعليم  و  الصحة  و دعم للأسعار  في  مواد  أخرى  ،  و من المميزات  الاستثنائية،  أن  الدولة ، طيلة  عقودها  قبل الأزمة ، لم  يكن  على  رقبتها  ديون خارجية غربية من صندوق النقد  الدولي  أو  سواه ،  ما عدا ديون  الاتحاد  السوفياتي  و معظمها في  مجال  التسلح ،و  قد  الغتها  روسيا  بعده.  من  تعرف على  سوريا  في  الستينيات و طيلة  عقود  قبل  الأزمة ، سيلحظ أن  المشهد  العام  للتركيبة  الاجتماعيةفي  المدن هو مشهد للطبقة وسطى عريضة في مستوى العيش و نمط الحياة، و على الرغم من تنامي التفاوتات الطبقية من˶ فوق˵ ببروز فئات أكثر ثراء و من ˶تحت ˵في مستوى معاشي أدنى بفعل النزوح القروي خاصة.  لا  شك  انَ  هذا  هو  السر  في  أنَ  مدينتي  دمشق   و  القسم  الأكبر  من  مدينة  حلب (و مدن أخرى)،  و هما  الأكثر  سكانا ، و معقل  التجارة  و الصناعة  و  الإدارة  ،بقيتا  الأكثر  تحفظا  من  ثورة  لم  يريا  فيها  مستقبلا.

 هذا  الوضع  الاقتصادي  –  الاجتماعي  المستقر  ، سيتقلب  رأسا  على  عقب ،  بعد  اندلاع  الأزمة  من  أحداث  درعة  في  2011.  و  انطلاقها  بسبب  العنف  الذي  ووجهت  به ،  لا  يعفي الباحث  من  أن يتوجه  رأسا  إلى  أنَ أغلب  المناطق  المحيطة  بالمدن  ،  و  التي  طالتها  الاحتجاجات  تدل  على أزمة  اجتماعية  قروية  أساسا ( وفي التأطير السياسي الحزبي)،  و على  اختلال في  التنمية بين  مختلف  المحافظات .

تطور الأزمة فيما بعد قلب الوضع السوري قلبا جذريا أبطل كليا المقارنات الممكنة على جميع المستويات ، حيث يجوز التعبير أن سوريا ما قبل الأزمة، كانت لمجتمع ينمو رغم كل النواقص و الاعتوارات ، و هي غير سوريا ما بعد الأزمة المنهارة و المهدمة أركانها كلية. و ماكان ذلك ليحصل بهذه الوثيرة الدرامية لولا التدخل الخارجي الغربي و الإقليمي الهائلالإمكانيات و تورط المعارضة المسلحة في خدمة أهدافه. لقد سقط النظام السابق، و ما بقي منه حيا ينبض عروبة و تحررا ، أنه لم يوقع صلحا مع إسرائيل ولا تخلى عن القضية الفلسطينية . وتلك كانت مأثرته التاريخية الكبرى.

-7

  قلت في فقرة مضت ، عند ما يمر وطن ما بأزمة تطال كيانه ،ينبغي وضعه بكليته تحت المجهر النقدي ، لأن المسؤولية تكون في هذهالحالة مسؤولية مشتركة ،تتحملها النخبة بأجمعها و بكل أصنافها ،و للجماهير نصيبها الموضوعي أكثر مما هو ذاتي مباشر .لكنني في هذه اللحظة ،أريد أن أعبر بكل تواضع ، عن أن انتقادي للقوى الديمقراطية الحقة في سوريا ،ليس أستذة و لا تعاليا مني ، و انا أعرف العديد من قاداتهم المناضلين و المضحين عن جدارة و استحقاق،ثم لأني أتفهم عقليا ،  و وجدانيا الظروف المعقدة التي وجدوا أنفسهم فيها. و التي تحتاج منهم إلى تنازلات تكتيكية مؤقتة ،و إلى صبر  و تأن طويلين للخروج بأقل الخسائر للمجتمع السوري أولا و للحفاظ على وحدته و لاستئناف عافيته و تطلعاته. لكني ملزم بالبوح برأيي و لو بكلمات قليلة، امتدادا لما عبرت عنه طيلة سنوات الأزمة الفائتة، و دائما تضامنا و مساندة ،لا نكاية و لاتشفيا .فأهل مكة أدرى دائما بشعابها.

    وبهذه الروح ،أرى أن أي تقييم نقدي يتوخى الصراحة مع النفس لضبط خطوات التقدم المقبلة ، لا بد له في المنطلق ، أن يقر بأن الوضع الحالي لسوريا ،الدولة و الكيان و المجتمع ، في تقهقر مأساوي ، و أنه فشل ذريع لما سمي “بالثورة”، و كيفما وصل الصبر على الحكم الجديد ،فلا صلة جينية له إطلاقا لا بالحراك الشعبي المدني ، و لا بالقوى الديمقراطية و اختياراتها الحقة ، حتى و لو أقسم بالشهادة لألف مرة . و من تم ينبغي تحليل و تقييم الأخطاء الاستراتيجية للقوى الديمقراطية الحقة في القضايا الكبرى التالية :

  • استصغار الدورالتخريببي الحاسم و الهائل الإمكانيات لدول كبرى و لحلفائها في أكثر من ثمانين دولة ،سميت بأصدقاء الشعبالسوري ،و لخدمة استراتيجية لم تكن معادية للنظام و حسب ،بل لتحرر سوريا و تقدمها. إن وقوع المعارضة بمعظمها في هذا الشرك ،إما لتبعية خارجية ،و إما لما حسبته مجرد استغلال للتناقضات الثانوية لمصلحة الثورة ،كان خطأ استراتيجيا قاتلا . و ليس استثناء هنا تخصيصي بالتسمية منظمة قسد الكردية المسلحة ، و صاحبة مشروع للحكم الذاتي الغامض و المحمي بقوة امريكية إمبريالية كل سلوكاتها في المنطقة هي في خدمة إسرائيل .الم تكن قوات سورية الديمقراطية ” قسد”تعرف أن وصية الزعيم أوجلان بترك السلاح و التوجه الى العمل السياسي الديمقراطي كان قبل الحدث الجاري اليوم مع أكراد تركيا، وقبل ان يعلن حزب العمال التركي في مؤتمره بالعراق عن حل نفسه و تسليم أسلحته؟ الم تكن تعرف بأن الاحتماء بأمريكا (ومن خلفها اسرائيل) لمصلحة ضيقة مهما كانت أحقيتها هو موقف انتهازي عدائي ضد مصلحة الدولة و الكيان و الشعب السوري، و ضد مصلحة الأمة العربية و الشعوب الاسلامية عامة ؟!والا بأية مبادئ تبرر لجوء الأكراد الى النضال السياسي السلمي الديمقراطي في تركيا حلالا، ومع النظام السابق كان حراما ؟!

 المعارضة بأجمعها التي انجرت للوقوع في هذا الشرك،و لعدم تقديرها لنسب القوة ولأهداف الأعداء،هي التي استُغلت ضد دولتها لتخدم استراتيجية أخرى غير استراتيجيتها . و لن نحتاج إلى أدلة لإثبات أنه كان مخططا مدروسا و مهيأ للتنفيذ العملي مند 2004 اي منذ صدور  قرار مجلس  الأمن القاضي بانسحاب الجيش السوري من لبنان. و يكفينا ما صرح به وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما.حيث قال، أنه عرض عليه في زيارة له إلى لندن مخطط للإطاحة بالنظام السوري قبل 2011. و شهادة وزير الخارجية القطري الشهيرة التي اعترف فيها السيد حمد بن جاسم ، مشكورا لصراحته، ببعض الجوا نب التنسيقية بين الشركاء و بإشرافهم العملياتيعلى الميدان لنفس الغاية  الى أن فلتت من أيديهم الصيدة كما قال وقتئذ.

 

  • انزلاق استراتيجي آخر ،لا يقل عن السابق خطورة ،بل و تابع له . و أعني انزلاق المعارضة الى العمل المسلح،سواء كان عن خيار ارادي ، او بتزكية سياسية صريحة أو ضمنية، مواربة او مدارية. و هي تعلم أن حربا داخلية من هذا النوع مدعومة قطعا من قوى خارجية كبرى، و يختلط فيها الإرهاب أسلوبا و الإرهابيون الأجانب بعشرات الآلاف ، و يسودها بقوة ايديولوجية طائفية – م ذهبية متزمتة و دموية ، معلوم من أين جاءت أصولها و استعمالاتها في معارك أخرى سابقة ،و لماذا كانت الحاجة إليها لتوظيفها سلاحا ايديولوجيا في صراعات المنطقة لاستمالة وشد عصبية الأكثرية السنية في سوريا وفي المنطقة العربية و الاسلامية عامة . فما عساها أن تكون النتيجة النهائية لحرب بكل تلك المواصفات الرجعية الصارخة سوى تدمير الدولة و الكيان !

و قد لا ينطلي على من يدرك حقائق الصراع في المنطقة ،كيفحاول مهندسو البروباغندةالمظللة ،طيلة الأزمة ،في مناورة معكوسة ،أن يلصقوا تهمة الطائفية  بالنظامالسابق .لكن بقدر ما كانت هذه المناورة مفضوحة في الماضي ، انكشف اليوم في واضحة النهار ،من هو مصاب بهذا المرض العدواني العضال،”كالقاتل المتسلسل” الذي لا يستطيع الصبر على الكف عن الاستمرار في جريمته. و لعله كان من البديهيات ،أن اللجوء للعمل المسلح ، و بكل ما انطوى عليه من دعم خارجي تآمري المآرب ، لن يبرأ أصحابه من المسؤولية في كل ما أصاب الدولة و المجتمع من كوارث و خسارات فاجعة و فادحة. فالبداهة تقول ، أنهم لم يكونوا يردون على براميل الجيش النارية بالورود ، كما يزعمون ضمنيا. و  هم الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك ،باختلاقهم لعمليات كيميائية مفبركة لجر تدخل عسكري دولي ضد بلدهم و دولتهم .و بالمناسبة ،لم نر تسربا كميائيا في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على معظم مخازن التسلح الدفاعي للجيش السوري. القصد ،أنها كانت حربا داخلية هوجاء لا تدل إلا على   جنون شهوة السلطة ،و على تبعية مذلة للخارج عديمة الحس الوطني،  وحان واجب ادانتها بقوة و تعرية جميع مضامينها التآمرية على الوطن و الدولة و المجتمع.

 

  • تبخيسٌو استصغار لأولوية الاحتلال الإسرائيلي للجولان .أجل ،لقد تعاملت المعارضة مع هذا الموضوع و كأنه على الهامش لوقت آخر، بعد أن تتحقق الديمقراطية كاملة .و يزيد الأمر تأجيلا و استصغاراو تبخيسا أنها اعتبرت موقف الحكم في ه ذه المسألة ليس أكثر من ألاعيب و مناورات لكسب تعاطف الجماهير و لتركيزسلطته .و الدليل ينضح بما فيه ، لم يطلق الحكم رصاصةواحدة نحو تحرير الجولان . وقطعية هذا الدليل ،أنه في آخر التحليل ، يبين أن خلفية المعارضة كانت وطنية محلية صرفة،ولا تأبه لأبعاد المسألة استراتيجيا و في المنطقة عامة. و لذلك لم تأخذ مواقف النظام في تحالفاته دوليا و في المنطقة ،و دعمه للمقاومة ،و التكلفة التي يتحملها من أعدائه في هذا الشأن محمل التقدير اللازم و الجدي.و لهذا كانت في نظرهم مجرد تكتيكات و مناورات لا تحمل أية خطورة على النظام ،إن لم تكن مفيدة له . وما لم تترجمه المعارضة عمليا و سياسيا ، أن مسألة الجولان المحتل ليست صراعا تقليديا على قطعة من الوطن كما هو جار في العديد من بقاع الأرض. انه صراع مع محتل لا حدود له ،و له حساباته الاستراتيجيةالهيمنية على كافة المنطقة ، و على رأسها سوريا ،و مطامعه تتداخل مع مصالح غربية إمبريالية تدعمه بكل ما تملك من عناصر القوة؛ و على رأسها حليفها العضوي الولايات المتحدة.

 وبهذه الأبعاد ،لا يشبه وضع الجولان، لارتباطه بالقضية الفلسطينية و بصراعات المنطقة و بالتحالفات العضوية الأمريكية و الغربية مع إسرائيل ،(لا يشبه) أي نزاع على حدود جغرافية بين دولتين في العالم. و حتى الصراع في أوكرانيا، رغم سمته الدولية ،  لن يبلغ مستوى الصراع مع إسرائيل لا في المدى الزمني ،و لا في متانة و ثبات المصالح العضوية للغرب مع إسرائيل ،و أمريكا منه بخاصة .النجاح في هذا الصراع يعادل  رصاصة عميقة الغور في رأس النظام العالمي الامريكي الآفل. لو طرح أمر الجولان بكل هذه الأبعاد ،لتغيرت رؤية المعارضة له،و لمواقف النظام السابق في تحالفاته الرئيسية و في دعمه للمقاومة ، و لأضحت قضية الجولان عندها مدخلا لإجماع وطني دينامي و تفاعلي ،تتنامى في ظله و أفقه التوافقات الديمقراطية الممكنة ،و التي لا تستبعد الشد و الجذب،و المد و الجزر،لكنها الطريق  الأسلم لنضوج كتلة شعبية مؤطرة و قوية ،لا تفرط في حقوقها الديمقراطية ،و لا تهمش صراعها الطويل مع عدوها الرئيسي الاول ، إسرائيل . أليس هذا الخيار من تقاليد تجارب حركات التحرر الوطني الناجحة في مواجهة الاحتلال ، فما عساه أن يكون في مواجهة عدو هيمني توسعي و إحلالي. ألم يبرهن على هذه العدوانية التوسعية فور سقوط النظام ؟!

 

 4الخطأ الاستراتيجي الرابع ،أن المعارضة جنحت بأقصى اندفاعة نحو الخيار الليبيرالي ،و تقوقع برنامجها فيه . ليس صدفة ،أن أول بيان لانطلاقتهاالتحشيدية لأغلب المكونات السياسية المعارضة ،كان يوم صدور “إعلان دمشق” في 2005 ، بعد صدور قرار مجلس الامن الداعي إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان ،و كان القرار إشارة حمراء تهديدية من الغرب للنظام السوري . و بعدها جرىاغتيال الرئيس الرفيق الحريري و تماتهام  النظام السوري فورا بهذا الحدث الكبير المفجع. و كان الهدف ،تسعير الصراعات الطائفية و المذهبية ،و شد عصب السنة المذهبي خصوصا ضد سوريا النظام و المقاومة في لبنان و كل من ينتسبون إليها مذهبيا .و لا شك ان الموقعين على إعلان دمشق قد شعروا أن النظام السوري بات قاب قوسين من هبة دولية و اقليمية  ضده، و ان رياحها العاتية آتية بلا ريب . هذا التوقيت الملتبس لحراك المعارضة الجمعي جعل النظام يرد بحملة قمع قاسية ،مع أن هامش المناورة المرنة كان ممكنا و لصالح النظام نفسه .و كان من حق المعارضة ، أن تستغل أي توقيت لتناقضات تقوي هدفها الأكبر في إنقاد سوريا من القادم.اذا ما حافظت على استقلاليتها و تمعنت جيدا في أغراض صانعي الحملة العدائية.

 

 المسألة المركزية عندي ليست في توقيت الإعلان بل في المحتوى و في ما غيبه. و ما قرأته في محتواه أنه طرح إشكالية وحيدة ، انحبس فيها ،و هي إشكالية الديمقراطية . و لا غير الديمقراطية سوى من مرور الكرام ، بالنطق الخافت و السريع لمبدئ رفض احتلال لجولان ، و الوعد المطاط بالعدالة الاجتماعية.و الواضح أن هاجس البيان هو تحشيد أكبر ما يمكن من الشخصيات و التكتلات المعارضة ، دون اكتراث بأي قضية قد تثير خلافات حولها.واختزالا، أعتبر أن الإعلان كان بمثابة تأسيس مسبق لأفق المعارضة و لماسيجري مستقبلا . و كان انحيازا كليا للخيار الليبيرالي فقط.و هنا بيت القصيد.

 في التراثالاشتراكي ،الاشتراكيون (و الموقعون كان فيهم الكثير منهم) لا يعادون الليبيرالية ، كمؤسسات و حقوق ،و لكنهم يميزون بين الليبيرالية و الديمقراطية.

 الديمقراطية عندهم ذات مضامين اجتماعيةأساسا .و لهذا يحرصون أشد الحرص على تمثيل مصالح القوى الاجتماعيةالكادحة ،في برنامج تنموي تصب اهدافه في إنجاز التقدم و التحررالوطنيين .و إلا كان النظام الليبيرالي ،خاصة في شروط العصر الحالية ،نظاما ممسوخا و تبعيا ،و ما أكثر نماذجه ماضيا و حاضرا في العالم . وهذا سيطال بالضرورة ،مسألة التحالفات الدولية و الاقليمية ،و يطال أساليب تأطير الحراك الشعبي ، و التوجه الثقافي و الأيديولوجي و الاقتصادي،و بالتالي التحرك النضالي في ضوء نسب القوى داخل المجتمع لصالح من يمثلون المصالح الاجتماعية التحررية التقدمية .

الاقتصار على الخيار الليبرالي ، و تغييب كل تلك العناصر ، في حساب القوة و الممارسة و البرنامج خدم في النهاية النماذج الأشد مسخا في الليبرالية ، و ما كان له في أفضل الحالات الا أن يكون تكرارا متأخرا لماض في التبعية و التأخر المجتمعي.

و النصر للشعب السوري

الكاتب :   محمد الحبيب طالب - بتاريخ : 17/05/2025