حين يتحرر الصمت من الكلمات

ادريس الجاي

كان المهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدارالبيضاء من بدايته في الرابع حتى نهايته في التاسع من شهر يونيو/ تموز حكايات مسرحية تبحرفي عباب البحث عن الذات ، الهوية و عن إيجاد اشكال مسرحية و تعبيرية جديدة. فمثلما تستهل سيدة الحكايات الف ليلة و ليلة فصول عالمها الخيالي بحكاية الراوية نفسها شهرزاد، شرع المهرجان نشاطاته بالعمل الراقص „شهرزاد و الف ليلة و ليلة“ هذا العرض لفرقة „Balleto di Milano“ اول تقديم شكل من اشكال الفرجة الجاهزة، المؤسسة على ثراء من الالوان وسينوغرافيا باذخة المعالم باثوابها و عموم ملابسها الثرية البراقة. فمن خلال تناول موضوع اشهرحكاية شرقية في العالم، تم الاقتصار فيها على التصورات الفنتازية الاوروبية للعلاقة بين الرجل و المرأة في المجتمع العربي، فنتازيا كما يشتهي المتلقي الغربي ان يراها متمثلة في العلاقة السلطوية، التي يستحوذ فيها الانا الرجالي الدموي، المجسد في شخصية شهريار، شخصية لا تدع امام النساء المشتهات مجالا للانعتاق غير الخضوع و انتظار شمس كل يوم او اللجوء الى الحيل من اجل تفادي المصير النسائي الموحد الموت، كما  هو حال بالنسبة لشهرزاد. كان هذا العرض الذي جاء كعرض افتتاح وتكريم للبلد ضيف الشرف ايطاليا وتتويجا لليوم الاول، الذي شهد كلمات افتتاح القاها كل من نائب رئيس جامعة الحسن الثاني والقنصل العام لجمهورية ايطاليا وعميد كلية بنمسيك و رئيس المهرجان الدكتورعبد القادر كونكاي، الذي اشارالي اهمية المهرجان كفضاء للقاء والحواربين الاتجاهات و التجارب المسرحية العالمية الواعدة. كما تم تكريم مبدعين في المجال الفني صلاح الدين بنموسى والممثلة فاطمة هراندي،و في المجال الصحفي والإعلامي أحمد اكليكم، و محمد الأزور احد مؤسسي المهرجان.
من الحكاية الخيالية ينقلنا في اليوم التالي العرض المسرحي „لكن الابطال غالبا ما يسقوطون“ الى حكاية اسطورية، لجامعة هلدسهام الالمانية، عمل من اخراج  ماري سيمون، و الذي سعى الى  تفكيك الصورة البطولية للرجل من خلال اللجوء الي الرموز التراجيدية الاغريقية. انه عمل يتبنى الاختزال كمنحى لتوجه مسرحي جديد مبني على التبسيط في المؤثرات من اجل صناعة العرض المسرحي، غير انه العمل غرق في نوع من السهل الرتيب ، وحاز على تنويه اللجنة بالنسبة للمثل.
العمل الايطالي „سقوط جيا/نهاية العالم“ صرخة من اكاديمية المسرح لروما صوفيا امندوليا شراكة
مع مسرح الغيوم، في الاسطورة اليونانية القديمة تكون „جيا“ او نهاية العالم هو القدرالمحتوم علي الانسان ، اذا لم يُقلع عن و حشيته و عنفه ضد الاطفال و بفقدان جنس الاطفال تكون نهاية العالم. فهذا العرض ، الذي قدمه شباب ينتمون الى اكاديمية مسرح صوفيا، جلهم من غيراولياء، تم التخلي عنهم في سن الرضاعة. انهم يشخصون تحت ادارة المخرج المقتدر فابيو او ميدي جزءا من حكايتهم الذاتية، يجسدونها بكل ذلك الحماس و الاحترافية العالية. انهم يتحركون فوق الركح كجسد واحد، تحفهم التوجهات الصادقة في الاداء و حب الفعل المسرحي، ثمانية عشرشاب وشابة يؤثتون الفضاء باجسادهم، باصواتهم بحركاتهم ذات التموجات الجماعية، يعطون الانطباع بان التنقلات فوق الركح لا يؤديها الا شخص واحد.
عرض يعطي الانطباع بان هناك حافزا محركا فوق متعة الاداء. لقد برهن هذا العرض، و الذي فاز بالجائزة الذهبية لهذه الدورة التاسعة و العشرين، على ان قوة الابداع المسرحي لا تكمن في  الامكانيات الضخمة و لكن في جعل ما هو بسيط و متاح في خدمة جمالية المشهد المسرحي. لقد ركز المخرج فابيو كعادته على الطاقات البشرية وعلى توظيفها في تآثيت المشهد المسرحي العام، فجعل من هذا المزيج البشري انشودة و رحلة اوديسية فنية في ذات الوقت.

حين يصبح الطين لغة
حين تعرض امامنا حكاية الف ليلة يوميات شهرزاد الذائبة ليل على نهار، تقدم امامنا فرقة بيرولوك من موسكو يوميات الانسان الروسي الحديث ، انسان ما بعد مرحلة الاتحاد السوفياتي مستقات من „ يوميات مجنون“ عن القصة القصيرة للكاتب الروسي نيقولاي غوغول ، التي كتبت في ثلاثينات القرن التاسع عشر. عرض يتناول باسلوب يمزج بين السريالية و الواقعية حكاية رجل يرغب في العيش حسب اختياره و تصوراته داخل مجتمع يحرمه هذا الاختيار.  لقد عمل المخرج لوري تسالزيف في هذا العمل، الذي فاز بالجائزة النحاسية للمهرجان على الرجوع بالمشاهد الى اجواء اعمال كلاسيكية لمخرجين روسيين امثال ستانيسلافسكي اومايرخولد، ليخاطب فيه الانسان الحديث. فقد كان العمل يحيى من قوة اداء الممثل، غير انه كان يفتقر الى خط يوحد فيه ديناميكية الاحداث ة و وحدة السر، مما جعله في كثير من الاحيان يفقد قوة الترابط بين الشخص المحوري و الشخصيتين النسائيتين المضافتين، اللتان تتقمصان عدة ادوار.
جاءت المخرجة التونيسة حبيبة جندوبي الى الدار البيضاء لتروي حكاية الطين من خلال جسدين ادميين وليس عبر ادوات تخصصها الدمى، انها حكاية العلاقة بين الانسان، الذكر و الانثى، حكاية تقتات من لوحات الطين هو سيد الموقف فيها ، الطين هو السينوغرافيا، هو اللغة، هوتآثيت الفضاء، هوالاجساد المضبخة بلونه، هو الاكسسوارات و هو البدأ و النهاية. لقد صاغت الجندوبي من خلال عرضها متاهة من التأويلات، في شكل مصورات متحركة تفتح امام المتلقي فجوة للتحليق في فضاء من الخيالات و التصورات، عمل شحيح بالكلمات ثر بالتعابير و الدلالات، فالطين يتحول هنا الى مادة انصهار يذوب فيها الرجل و المرأة، مادة التوحد والتوالد، اصل الصراع الدائم بين الجنسين، فمن خلاله ينبعث الانفصال الذي يحيل على التيه في دروب يخلق من خلالها المتلقي مشاهد افتراضية يحملها معه فتتوالد ماضية في خدش الذاكرة. لقد قدمت فرقة (دمية بروديكشن) عرضا انفرد بخصوصيته داخل خريطة المهرجان، غير ان اداء الممثلين كان يسقط من حين لاخر في نوع من النمطية، التي يضيع معها الخط الرابط بين الشخصين و مادة الحكاية يحيث يغلب على ادائهما شبه بالدمى المتحركة.
إذا كان الصراع عند الجندوبي يتمحور حول الذكر و الانثى في صيغة آدم و حواء، فانه في عرض فرقة الكواكب الجزائرية، „ بنات البراح “ صراع أُسري مصدره الانانية. صراع بين آب و بناته الثلاثة، اللاتي فقدن امهن وتقدم بهن العمرغير ان الاب يعطي نفسه الاولوية في الزواج غير مبال بمشاعر و احاسيس بناته. لقد عمل المخرج فروجي مبروك على الباس هذا الصراع حلة فكاهية مع محاولة الاحتفاظ بالاجواء المسرحية و ذلك من خلال مشاهد غرف البنات الثلاثة، التي في غالبها لم تكن تعمل على اضافة بعد درامي او ميلو درامي الى الصراع ، فقد كان غياب البعد الجمالي والبناء الدوامي في هذا العمل ، كما هو في الاعمال المغربية المقدمة في المهرجان سواء في مسرحية „ والو باس“ لفرقة الفن الشرقي المقتبسة عن „ المريض بالوهم“ لموليير او „ انتظار“  المقتبسة هي الاخرى عن „ انتظار غودو“ لصمويل بكيت لمحترف مهن المسرح و فنون الدراما او „ مهمة سرية“ لفرقة محترف فنتازيا، حيث يتحدث هذا العمل الاخيرعن الخيانة المدثرت بالاخلاص، فقد وحد هذه الاعمال الميول الى النمط التلفزيوني شكلا و تعبيرا و العمل على خلق الفرجة الرخيصة من خلال استعمال اللغة النمطية السائدة في مسلسلات التلفزيونية او الصدح بالشعارات و التعابير الرنانة.

حكاية يرويها الظلام
„موت بائع متجول“ للكاتب الامريكي أرثر ميلر، الذي، قدمه فريق كلية الحسابات جامعة عين شمس. انها حكاية ويلي لومان الموظف في شركة لمدة ستة و ثلاثين سنة، غير انه يفقد خيط التعامل مع المستجدات سواء في العالم الخارجي الشركة و الوظيفة اوالداخلي بين اسرته و علاقته بابنائه. لقد بدل المخرج محمد زكي قصاري جهد من اجل تقديم عمل نيويوركي صرف ، مستعملا سينوغرافيا  ذات اجواء مكانية وزمانية مواكبة لاحراث العمل ، غير ان العمل ظل يحمل مفارقة بين الزمان و لغة العرض في شموليتها، فالعرض الكلاسيكي، الذي حاول ان يحمل سمات التجديد، قد بقي بعيدا كل البعد عن ان يصبح مصريا، اللهم الا لغته العربية، او ان يلبس الهوية النيويوركية رغم جهد الطاقم المسرحي اعطاء هذا العمل صفاته وهويته الامريكية الاصلية. فالى جانب  السينوغرافيا، التي جهدت في محاكات عوالم مدينة نيويورك زمن كتابة المسرحية 1949، كانت هناك تنقلات للانارة و اشارات الالوان دون تحديد دلالاتها الزمنية، ان المشهد العام في عمل موت بائع متجول يسعى الى ان يكون مشهدا جماليا الا انه ظل يلامس سطحية البعد الدرامي لتحولات الزمن و ربطه بالحاضر. فالعمل في كنهه ليس حكاية اسطورية مرتبطة بحيز ماضيها المنصرم.
للحكايات صفة الغرابة و مسرحية „ إمرأة سقطت من السماء“ لكلية الفن الدرامي من المكسيك تمثل هذه الغرابة في اسلوب سردها الوثائقي لاحداث حكاية واقعية لامرأة من القبائل الهندية اللاتينية تصل الى الولايات المتحدة فتُودع عشر سنوات في مستشفى الامراض العقلية و السبب هو انه لا احد يفهم لغتها، بعد عشر سنوات تهرب و تعود الى المكسيك. فبرغم اعتماد المخرج المكسيكي خوسيه دياز في عمله على الوثيقة العينية الصور و الافلام تظل البقعة الدائرية ، التي تتوسط الخشبة بقعة ربط بين عالم المصحة العقلية و العالم الخارجي، فقد بقيت هذه الدائرة تمثل فوق الخشبة فضاء الاحداث و احتفظت للمسرحية بنوع من العفوية في سردها للوقائع مع  التركيز على هويتها المكسيكية دون الاسفاف في البساطة و دون التعامل مع المجريات بنوع من الابتدال. كان الكل يجري فوق الركح من دون زوايا خفية، فالصور و الفديو شكلوا في كثير من المشاهد خلفية العمل . فكان توظيف الغناء، الرقص والملابس الهندية للمرأة ثراء للعمل في بعد خصوصيته المكسيكية الواضحة، عمل ثم التنويه به هو الاخر وبالذات بالممثلة، التي قامت بدور الهندية المكسيكية.
للحداثة حكايتها الحية و الواقعية، تطور العلاقة الانسانية في زمن التواصل الافتراضي من خلال الفيسبوك، الهواتف الذكية، التي اقتحمت حياة و يوميات الانسان المعاصر دون تمييز بين الاعمار او الجنسيات ، ة هذا ما تطرحه مسرحية „ لا أبالي“ لفرقة نيكولا كومبانيا لجامعة مدينة فوجيا الايطالية، فالعتمة هي الحيز، الفضاء الذي يواجهنا طيلة المسرحية حكاية في الظلام، مرشدنا فيها ضوء الهواتف الذكية، تحمله اجساد مسربة بالسواد، هذه الهواتف، التي تمارس سلطتها الذهنية على الممثل و المتلقي، في قسوة مهيمنة لكن في صيغة اشكال ناعمة. لقد قيدت التكنولوجيا الانسان فسار عبدا لها بمحض ارادته و بدون اجبار، هذا الادمان الاكتروني يتحرك فوق الخشبة في اشكال و اجسام هي اقرب الى ظلال منها الى اجساد بشرية تنتمي الى الواقع  و في نفس الوقت ليست منه ، تتحرك معه في نفس الاتجاه، و من يسير عكس هذا التيار محكوم عليه بالفناء. لقد اعاد الينا المخرج برلوجي بيفيالكا من خلال عرضه الذي استمر 55 دقيقة في العتمة ، مفهوما جديدا لمسرح القسوة الحديث، بفضاءه الخالي الا من اجساد او بالاحرى اشباح تتحرك وفقا لضوء الهواتف و انسياقا الى اغراءاته. فضيائها هو مناخ وانارة العرض و ابعاد الركح و الخلفية الحاضرة في الذهن الغائبة في الواقع،

انني عدت الان من الموت
لاحيا و اغني
„الجرة“ هو العمل الذي شاركت به فرقة هيونغ للرقص المسرحي من سيول كوريا الجنوبية ، عمل راقص يحكي قصة ام تتهيأ للخروج الى العمل من اجل ربح المزيد من المال، الذي تضعه في الجرة من اجل ابنتها، انها حكاية يكتبها الراقصون بلغة الجسد، بلغة ثرية بفيض المشاعر، فالجسد هنا يصبح جسرا للتغريب المسرحي، يتحول الى قرطاس تخط عليه المؤثرات الضوئية و الموسيقية قصائد صامتة كما عهدنا قرائتها في مجالات الفنون الاسيوية، لقد حولت المخرجة سونمي هونغ الاجساد في هذا العمل، الذي فاز بجائزة المهرجان الفضية الى اداة يتلاقى فيها الرقص و التعبير الجسدي بدقة مهارة تتحرك فوق خطوط بين الرقص و المسرح الدرامي، تبعث لمسات خطى تفضح يوميات قلق العصر الحديث و عياء المدن العصرية، انه السعي الكد المدفوع بالرغبة في الثراء، الذي من اجل تحقيقه لا يكفي عمر الانسان.
لكل حكاية بداية و نهاية و نهاية ما بدأت به شهرزاد كانت في الليلة الثامنة من يوميات الدورة الثاسعة و العشرين من فعاليات المهرجان حيث تناول الكلمة راوي اخير ليقص علينا تاريخ و هوية شعب من خلال سيرة اسرته و سيرته الذاتية „»اموت في المنفى“ للمخرج الفلسطيني غنام غنام : انه عمل يجسد صورة الحكواتي، الذي يحفه الجمهور من كل الجوانب يحكي في دائرة مغلقة تذكرنا بحلقة الحكواتي في ساحة جامع الفنا او في اي ساحة سوق شعبية المغربية ، انه عمل لا يتحدث عن الموت بل عن حياة الانسان الفلسطيني العادي، هذا الانسان ، الذي تتجاهل معاناته تحت الاحتلال الاسرائيلي ، التقارير الرسمية و المواثيق الدولية „من اين انت؟ من عمان.. قبل ذلك؟ من جرش.. قبل ذلك؟ من أريحا.. قبل ذلك؟ من كفر عنا.. في هذا العرض يدعو الممثل الوحيد غنام غنام الجمهور الى معانقة هذا الانسان من خلال التدخل، او الغناء يدعوه الي المشاركة في العرض بالحكي اذا رغب في ذلك، غير انه كان من الفعل المحفز للجمهور، ان يستفز نفسه بالمشاركة من اجل منحه لحظات للتبادل و الحوار والتجاوب مثل ما نشهده عند الحكواتي من هذا الصنف ، الذي استقي منه غنام غنام شكل عرضه. لقد حج الى هذا العرض فاعلون مسرحيون مغاربة و اجانب وذلك لما سبق هذا العرض من صيت ايجابي أثناء الجولة التي قام بها غنام غنام في عدد من المدن المغربية. انه عرض استطاع ان يربطنا باسلوبه الحكائي البسيط بقضية هذا الانسان سواء كنا قريبين ام بعيدين منه جغرافبا.
وقبل ان يصبح الصباح وتسكت  شهرزاد في شخص الدورة التاسعة و العشرين عن الحكي المباح، منتظرة بزوغ افق السنة القادمة لتستأنف حكيها مع الدورة الذهبية الثلاثين، قدمت الورشات المسرحية السبعة التي اطرها فاعلون مسرحيون من إيطاليا، فرنسا، لبنان ، كندا، المكسيك، المغرب، تونس تركيبا مسرحيا كتمرات لهذه التدريبات تحت اشراف المدير الفني للمهرجان عبد الفتاح الديوري من المانيا تحت عنوان الحلم الازرق حيث شارك فيه قرابة 150 مشارك كمجهود لاربعة ايام من التداريب المكثفة.

الكاتب : ادريس الجاي - بتاريخ : 22/07/2017