خوصصة التكوين الهندسي وسؤال ارتقاء الهندسة بالمغرب
الحسين بوخرطة
في سياق التطورات السياسية الأخيرة التي عرفتها بلادنا، والتي شكلت انعكاسا لتفاعل الحراك المهني القطاعي بالأداء السياسي والعمل الحكومي، والذي انتقل من قطاع التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، إلى قطاع الأطباء (الصحة)، ثم إلى قطاع المهندسين، وجدتني، بصفتي منتميا إلى هذا الأخير، ومناضلا فيه، في وضعية اضطرارية لأدلي بدلوي في شأن ما صدر من قرارات ومواقف خلال الأسابيع الأخيرة، وما تخللها من تصريحات حكومية، ومن ردود أفعال للأجهزة التمثيلية والنقابية الناطقة باسم المهندسات والمهندسين. لقد تبين أن التفاعل في هذا الموضوع يجب أن يكون هدفه هو تعميق الدراسة والنقاش في كل المستجدات، بتحدياتها ورهاناتها، بمنطق يراعي المصلحة الوطنية، وطبيعة الترابط الوثيق بين حاجة البلاد إلى تقوية المهن القطاعية المهنية، وضمان تكاملها، وتناغم أهدافها، وانشغال الدولة والمجتمع الدائم بالرفع من وثيرة تطوير القطاعات الاقتصادية الوطنية.
فإرادة مني في الإسهام في تجاوز هذه الوضعية المتوترة، وأملا في تعويضها بأرضية توافقية بناءة، ارتأيت معالجة هذا الموضوع بكامل الموضوعية بالاحتكام إلى منطق الشمولية من خلال التطرق إلى ثلاث محاور أساسية.
المحور الأول: تقييم مسلسل خوصصة التكوين الهندسي وتوقيت التفاعلات
كما هو معلوم، مسألة الاعتراف بالتكوين العالي الخاص قد تمت إثارته لأول مرة من خلال قانون 01-00 سنة 2000، لتليه المصادقة على القوانين التطبيقية سنتي 2014-2015. أما مسلسل الاعتراف بمؤسسات التكوين الهندسي الخاص، فقد ابتدأ سنة 2016، ليتوج اليوم بالمصادقة القانونية على عشرة (10) مؤسسات أغلبها جامعات للتعليم العالي، وعلى رأسها الجامعة الدولية بالرباط، والجامعة الدولية بالدار البيضاء، وجامعة محمد السادس للعلوم الصحية، والجامعة الخاصة بمراكش….إلخ
لقد تدخل الاتحاد الوطني للمهندسين المغاربة والنقابة الوطنية للمهندسين المغاربة في هذا الأسبوع، طالبين رئيس الحكومة تجميد الإجراءات المتخذة في شأن مشاريع الاعتراف ب 18 مؤسسة جديدة، التي وضعها وزير التربية والتعليم والتكوين المهني لدى الأمانة العامة للحكومة، بدافع تخفيف الضغط على المؤسسات التكوينية العمومية، منبهين إلى خطورة هذه المبادرات، ومحذرين من تكريس هاجس تغليب الربح على الجودة في مجال مشاريع التكوين الهندسي.
وهنا لا يمكن للمتتبع أن لا يطرح سؤال توقيت تدخلات الوزارة الوصية بشكل متتالي، وما ترتب عن ذلك من حراك مهني بثلاث قطاعات (التعليم والصحة والهندسة)، وسؤال توقيت ردود الأفعال الإدارية والإعلامية للمنظمتين النقابيتين الممثلتين للمهندسين، لتبقى مسألة إجلاء الغموض عن منطق هذا التفاعل مرهونا بمدى إفصاح القطاعات الهندسية الحزبية على مواقفها الواضحة في هذا الموضوع والتطورات المرتقبة المرتبطة به.
المحور الثاني: في شأن الوضع السياسي العام
إن استحضار طبيعة التراكمات والمكتسبات السياسية والدستورية التي عرفتها البلاد أصبح لا يسمح اليوم بالتسرع في اتخاذ القرارات على المستوى الحكومي، خصوصا المصيرية منها ذات الارتباط بالبنيات والهياكل التنظيمية للقطاعات المهنية والاقتصادية. إن طبيعة التفاعل الذي عرفته بلادنا ما بين الهيئات الممثلة للقطاعات المهنية والسلطات العمومية، قد أبانت بالملموس حاجة بلادنا إلى تكثيف الجهود من طرف كل الفرقاء لتوفير شروط ولادة منطق جديد في التعاطي مع القضايا المحورية للمملكة، منطق يجب أن يعكس، من خلال الممارسة، مدى ارتباط مشروعية الفعل السياسي ما بين الفرقاء بالاستعداد المتبادل للتحلي بأدبيات وتقنيات التواصل والتفاوض، والاعتراف بمزايا التريث والتأمل والتفكير الشمولي العميق. لقد أصبح لافتا للأنظار أن الاستعجال في معالجة الإشكاليات المطروحة، وطبيعة ردود الأفعال اتجاهها، ومنطق محاولات إقرار البرامج الإصلاحية، بدون اللجوء إلى مقومات مقاربات المشاركة والإشراك من مرحلة البلورة، مرورا بمرحلة التنفيذ، ووصولا إلى مرحلة التقييم، لا يمكن أن تتمخض عنه إلا النزاعات العقيمة، ومحاولات فرض إجراءات ومواقف هشة ومتذبذبة، وهدر واضح للزمن الإصلاحي المفيد للبلاد.
إن مصلحة الوطن، وحاجته إلى منظومة للارتقاء المستحق لنخبه الهندسية على أساس الخبرة وجودة التكوين والمسوؤلية، تستدعي تحويل النقاش العمومي في شأن القضايا المحورية في مسار الإصلاح الهيكلي إلى أرضية خصبة للمنافسة والاقتراح، نقاش رفيع بعمقه إلى درجة التعبير عن القدرة الفائقة لدى الأطراف المعنية على الإقناع، والاستعداد الدائم للانفتاح على الآخر، والإصغاء بعناية متناهية لأفكاره، والتعامل الجدي والموضوعي مع مبادراته.
المحور الثالث: في شأن المستجدات المتعلقة بموضوع الترخيص لمؤسسات التكوين الهندسي الخاصة والمصادقة والاعتراف بالشواهد والدبلومات الصادرة عنها
إن الإيمان القوي للمهندسات والمهندسين في مختلف القطاعات بالارتباط الوثيق بين المشروعية المهنية والسياسية وجودة تدبير الشأن العام وتسييره الناجع، فرض عليهم دائما ومبدئيا الاصطفاف إلى جانب المبادرات والجهود الجادة الرامية إلى خلق القطيعة مع المشروعيتين التقليدية والكاريزمية، طامحين باستمرار إلى تحقيق الالتقائية اللازمة ما بين كل الفرقاء المعنيين في الدولة والمجتمع من أجل إيجاد السبل الملائمة والدائمة لتنمية العمل المشترك، المؤدي إلى ترسيخ مقومات ومصادر المشروعية العقلانية. إن مؤهلاتهم وخبراتهم العلمية، التي راكموها من خلال مسارهم التكويني وتواجدهم الميداني، جعلتهم لا يطيقون التموقع إلا إلى جانب الجهات الباحثة عن السبل المسهلة لتكثيف الجهود لتأثيث أرضية سياسية مشتركة، بآليات تجعل التموقع في السلم الإداري ببلادنا لا يتم إلا على أساس الكفاءة الإيجابية الفردية، والأداء والمردودية في الدفاع الصادق على الهندسة، وضوابط الانتماء إليها، وارتقاء أدوارها في المجتمع والدولة.
وعليه، فمن خلال التعاطي الموضوعي مع التطورات المتعلقة بانفتاح قطاع الهندسة ببلادنا على القطاع الخاص، وما أثير في شأنه من نقاش وتفاعل بخصوص الترخيص والاعتراف والمصادقة الرسمية على الشواهد والدبلومات، فإنني أرى أنه من الاستعجال الإقدام على خطوات هامة تتوج بالتوافق على خلق شروط التوافق في شأن النقط التالية: إعطاء الانطلاقة الفورية للمشاورات في شأن خلق الهيئة الوطنية للمهندسين باختصاصات تجعلها حصريا المؤسسة الرسمية المسؤولة على تأهيل القطاع الهندسي من خلال:
إعداد ميثاق لأخلاقيات المهنة، والمصادقة عليه، وتحيينه كلما اقتضت الضرورة ذلك، وجعله المرجع الأساسي للتفاعل الإيجابي البناء ما بين المؤسسات العمومية بشقيها الحكومي والتكويني، والمؤسسات التكوينية الخاصة، والخريجين من مختلف الأسلاك والشعب المعتمدة سواء كانت صادرة عن المؤسسات العمومية أو الخاصة،
جعلها الجهة المختصة لإعداد نماذج دفاتر التحملات المرجعية لكل الشعب الهندسية، بسلطة عمومية تعطيها الحق في الإشهاد والمصادقة، على أساس دراسات وعمليات تشخيص دقيقة تعتمد مؤشرات معيارية متعارف عليها دوليا، على ملائمة دفاتر التحملات للنماذج السالفة الذكر، سواء تلك المعتمدة من طرف المؤسسات التكوينية المرخصة، أو تلك المقدمة من طرف أصحاب المشاريع الطامحين إلى فتح أبواب مؤسسات جديدة.
تعديل القوانين الجاري بها العمل في مجالي التوظيف والتعيين في مناصب المسؤولية بالشكل الذي يرسم انخراط هيئة المهندسين السالفة الذكر في اللجن الحكومية المختصة في هذا المجال، وبالتالي اتخاذ كل ما يلزم من الإجراءات لترسيخ الشفافية والاستحقاق وتساوي الفرص ما بين المهندسين في القطاع العام، وبالتالي تقوية المكانة التاريخية للهندسة في التنمية المستدامة والتحديث الاقتصادي والثقافي.
خاتمة:
إن ارتقاء المهن الهندسية في إطار استحضار المصلحة الوطنية، لا يمكن أن يكون خاضعا لاعتبارات موازين القوى سواء بالنسبة لمكونات الجهاز التنفيذي أو التشريعي أو لمكونات المنظمات التمثيلية والنقابية. فموضوع مكانة الهندسة في ضمان الجودة في السياسات التنموية ببلادنا لا يمكن التطرق إليه أو اتخاذ القرارات في شأنه إلا من خلال منظور شامل يجسد حرص الدولة والمجتمع على توفير مقومات وازنة، وتحصين تراكمها من أجل التقدم في بناء المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي المزدهر اقتصاديا.