دولة الإبادة الجماعية… وجيش قاتل تحت حماية العالم

سعيد الخطابي*
ما نشهده اليوم من مجازر متواصلة بحق المدنيين في غزة، واستهداف مباشر للطواقم الطبية، لم يعد مجرد جرائم حرب معزولة، بل أصبح جزءًا من نهج منظَّم لدولة كاملة تقود مشروع إبادة جماعية، تحت حماية تامة وتواطؤ دولي فاضح.
ما يحدث اليوم في قطاع غزة لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة إبادة جماعية متواصلة، تُنفذها إسرائيل بكل مكوناتها السياسية والعسكرية والقضائية، على مرأى ومسمع من عالمٍ أصابه العمى الأخلاقي والتواطؤ السياسي.
منذ اليوم الأول للعدوان، لم تكن المجازر المتتالية بحق المدنيين الفلسطينيين مجرد نتائج جانبية لصراع عسكري، بل كانت خطة ممنهجة ومدروسة، تستهدف الإنسان الفلسطيني في حياته، وكرامته، وحتى في موته. القصف لم يميّز بين رضيع في حضن أمه، أو مسعف يحاول إنقاذ جريح، أو مريض على سرير المستشفى. كل فلسطيني في غزة بات هدفًا مشروعًا لآلة القتل الإسرائيلية.
الجيش الإسرائيلي، الذي يُقدَّم للعالم على أنه «أكثر جيوش المنطقة انضباطًا»، لم يعد بالإمكان النظر إليه إلا كـ»ميليشيا رسمية»، ترتدي زيًا عسكريًا وتستبيح دماء المدنيين بقرارات مركزية من أعلى هرم القيادة. لا حديث بعد اليوم عن «أخطاء غير مقصودة»، ولا مجال لتبريرات «الدروع البشرية»؛ كل شيء موثق بالصوت والصورة، وكل شيء يجري عن عمد وإصرار وترصّد.
ثم يأتي من يحدثنا عن «تحقيق إسرائيلي داخلي»، وكأن الجلاد بات قاضيًا، وكأننا لم نختبر عشرات المرات كيف تنتهي هذه التحقيقات: إما ببراءة تامة للجناة، أو بأحكام رمزية لا تعكس بشاعة الفعل ولا تردع غيره. المنظومة القضائية الإسرائيلية نفسها جزء من الجريمة، وهي التي تغطي على جرائم الجيش، وتمنحه الحصانة، بل وتشرّع له استخدام أقصى درجات البطش.
وليس الجيش وحده من يشارك في المجزرة، فالحكومة الإسرائيلية، بكل أجنحتها السياسية، مسؤولة بالكامل عن هذه الكارثة. إنها من خططت وحددت الأهداف وأطلقت العنان للجنود لتدمير كل ما يقف في طريق «الردع». بل والأخطر، أنها تمارس هذه الحرب تحت غطاء شرعي دولي، توفره دول كبرى بالصمت، أو بالدعم العسكري والسياسي، أو بالتلاعب بالخطاب الإعلامي.
والمجتمع الدولي؟ لا صوت، لا موقف، لا تحرك حقيقي. مجلس الأمن مشلول، المحكمة الجنائية عاجزة، الجامعة العربية غائبة، والاتحاد الأوروبي صامت أو متواطئ. هذا ليس عجزًا فحسب، بل تواطؤ مكشوف، ومشاركة غير مباشرة في استمرار الإبادة. إن مئات الاجتماعات عُقدت في السابق لأسباب أقل خطورة بكثير، بينما اليوم، لا يُسمح حتى بإدانة لفظية للجريمة.
ما يجب أن يُقال بوضوح: إسرائيل ليست فقط دولة ترتكب جرائم حرب، بل دولة مجرمة من رأسها حتى أخمص قدميها، من قادتها إلى جنودها، من محاكمها إلى إعلامها، من داعميها في واشنطن إلى المتواطئين في عواصم أوروبا. وكل دقيقة تمرّ دون محاسبة هي لحظة إضافية في عمر هذه الجريمة.
لن تغفر ذاكرة التاريخ هذا الصمت، ولن تغفره الإنسانية. سيأتي يوم يُسأل فيه الجميع: أين كنتم عندما كانت غزة تُباد؟ وماذا فعلتم عندما كانت الأشلاء تُنتشل من تحت الركام؟
حتى ذلك الحين، لم يتبقّ للفلسطيني سوى رحمة السماء وعدالة التاريخ، بعدما سقطت كل أنظمة العدالة في الأرض.
إن الكيان الإسرائيلي لا يمارس هذه الجرائم كأفراد أو مجموعات خارجة عن السيطرة، بل يمارسها باسم الدولة، وبأذرعها الرسمية: الجيش، الحكومة، القضاء، الإعلام، وحتى شركائه الدوليين. كل مؤسسات هذا الكيان متورطة ومتواطئة في استمرار هذا العدوان الهمجي.
الجيش الإسرائيلي ليس مجرد جهة تنفيذية، بل هو القلب النابض لهذه الجريمة، هو الذي يحوّل غزة إلى ميدان اختبار لأسلحته، ويستخدم المدنيين دروعًا بشرية، ويمارس القتل على الهواء مباشرة. هذا الجيش لا يمكن النظر إليه كـ»جيش نظامي» وفق الأعراف العسكرية، بل هو ميليشيا منظّمة ترتدي الزي الرسمي وتستتر بشرعية دولية زائفة.
أما القضاء الإسرائيلي، الذي يدّعي فتح تحقيقات في بعض الجرائم، فهو مجرد واجهة ديكورية لا تختلف عن منظومة التبرير التي يستخدمها الاحتلال منذ عقود. ما يسمى بـ»التحقيقات» ليست إلا محاولة مكشوفة للتهرب من المسؤولية الجنائية الدولية، وتبييض صورة جيش متعطش للدماء.
الحكومة الإسرائيلية، التي تخطط وتوافق وتُصرّح وتبرر، لا تختلف عن المجرمين المنفذين على الأرض. كل قرار تتخذه هو بمثابة إذن رسمي باستمرار المجازر. وحتى الإعلام الإسرائيلي، وبعض المنصات الدولية المتواطئة، تواصل دورها القذر في تشويه الحقيقة وتبرير القتل الجماعي.
والأسوأ من ذلك، أن كل هذا يجري أمام أعين العالم: لا مجلس أمن يتحرك، لا محكمة جنائية تُدين، لا جامعة عربية تُجدي، ولا ضمير عالمي يستفيق. وكأن دم الفلسطيني مباح، وكأن المجازر اليومية في غزة لا ترقى لأن تحظى باجتماع طارئ، أو تحريك لملف جنائي عاجل، كما حدث في حروب ومذابح أخرى كانت أقل فظاعة مما يجري اليوم.
إن الجريمة مستمرة، سواء اعترفت بها إسرائيل أم أنكرت. وما وثّقته الكاميرات هو مجرد مشهد من ألف، وما خفي كان أعظم. ولو كانت هذه المجازر قد ارتكبت في مكان آخر غير فلسطين، لقامت الدنيا ولم تقعد.
لكن لأن الضحية فلسطيني، ولأن الجلاد إسرائيلي، فإن ميزان العدالة الدولي يُصاب بالعمى، ويتحول إلى أداة لحماية المجرم، لا محاسبته.
ما يحدث ليس فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل هو عارٌ على البشرية جمعاء، واختبار حقيقي لفشل النظام العالمي في تطبيق القانون على الجميع دون تمييز.
* الكاتب الإقليمي للحزب بالحسيمة
عضو المجلس الوطني
الكاتب : سعيد الخطابي* - بتاريخ : 09/04/2025