رسالة إلى تيتريت

خديجة مشتري

 

ها قد مرت أيام على فاجعة مؤلمة حلت ببلادنا، وكانت جبال الأطلس الكبير الشامخ بؤرة لها، أيام حملت الألم والجراح وفقد الأحباب والأهل وانهيار المنازل والدور ودك الأحياء والدواوير، لكنها حملت أيضا معاني الخير والتضامن والمؤازرة من جميع مكونات هذا الشعب الأبي، الذي لم يترك إخوانه المنكوبين يواجهون قدرهم وحيدين، فكم من نقمة في طيها نعمة، لقد هب المغاربة كرجل واحد لنجدة إخوان لهم في الحوز وتارودانت وشيشاوة وكل منطقة مسها الضر، وظهرت معاني التكافل بين المغاربة في أبهى صورها، ووقف العالم مشدوها أمام الملحمة التي صنعها المغاربة في أحلك لحظات حياتهم.
زلزلت الأرض تحت أقدامنا، وزلزلت معها قلوبنا خوفا على أحبابنا في تلك المناطق العزيزة على المغاربة، المناطق المنكوبة التي قدر لها لله تعالى أن تكون بؤرة الزلزال وأن تستقبل هول انهيار البيوت فوق الرؤوس، وخسف الأرض من تحت الأجسام الوديعة، أحباب نعلم علم اليقين معدنهم الصافي وطيب معشرهم وصدق طويتهم، وكم من حكايات يرويها من مروا بهم أو زاروهم في دواويرهم وبيوتهم، سواء كانوا مغاربة أو أجانب، حكايات رويت على مواقع التواصل الاجتماعي أو حفظت في الصدور والأفئدة، أساتذة المدارس يحكون كيف يستقبلون في تلك الجبال الشاهقات، وكيف يحظون بالعناية والاحترام، وكيف يتسابق السكان صغارا وكبارا لمساعدتهم على نقل متاعهم، في منظر عجيب يشبه أسراب نمل تتسابق بهمة ونشاط لإيصال حملها الثمين إلى بر الأمان. هو تعبير بهي عن حسن الضيافة واستقبال الغريب ومساعدته وحسن وفادته دون مقابل أو طلب معروف إلا ما جبل عليه هؤلاء الناس من حسن الخلق ونقاء السريرة وصفاء القلوب صفاء جداول المياه العذبة المتفجرة من صخور الأطلس الكبير…
ذات ربيع غير بعيد قادني قدر جميل إلى أحد دواوير منطقة إمليل نواحي مراكش، لألتقي صدفة شابة أمازيغية تلوح من محياها الجميل معاني النبل وتطل من عينيها إشراقة الطيبة واللطف والوداعة، لم تكن تتكلم الدارجة إلا بضع كلمات، كانت ابنتها ذات السنوات العشر تقريبا تترجم لي ما كانت تقوله والدتها، لكن صدق مشاعر الأم وإصرارها على أن أرافقها إلى بيتها لأشرب الشاي نفذ سريعا إلى قلبي، وأصابني بالذهول، أنا الغريبة القادمة من مدينة بدأت تندثر فيها شيئا فشيئا معاني الثقة في الغرباء، حتى تبادل التحية أصبح عملة نادرة بيننا، وترك مكانه للتجهم الطاغي على الوجوه في الأزقة والشوارع ووسائل النقل، فضلا عن استحالة أن تستضاف في بيت لا تعرفه في زمن طغت عليه كل مظاهر السلبية وانعدمت فيه مشاعر الثقة بين الناس، لقد كنت أجوب الغابة وحيدة كعادتي مطمئنة دون خوف من لقاء غير مرغوب فيه، كان الناس يمرون بي ويلقون التحية ويمضون إلى حال سبيلهم، بشكل عادي، هم المعتادون على السياح الأجانب الذين يتجولون في تلك المناطق فرادى أو جماعات، نساء ورجالا وأكثرهم شيبا وشيوخا يتكئون على عصي رياضية تساعدهم على المشي، متجهين في رحلات منظمة لتسلق جبل توبقال، القريب البعيد الذي تظهر قمته مكللة بثلوج بيضاء ناصعة، إلى أن صادفت هذه السيدة الطيبة قرب جدول ماء، لم تسألني من أين أتيت ولا ماذا جاء بي وحيدة إلى قريتها، كل ما فعلته أنها ابتسمت في وجهي وأصرت على أن أرافقها إلى بيتها البسيط الذي تحيط به أشجار الكرز الباسقة وتنبعث من غرفه روائح الحبق والزعتر والنعناع المزروعة في أوان فخارية منتشرة في بهو البيت وأمام الباب وفق السطح…
لم أشعر بالغربة في هذا اللقاء العجيب الذي امتد لساعات، فبعد طقوس الشاي وما رافقه من أحاديث لم أكن أفهم معظم ما يقال فيها، وضحكات وقهقهات عفوية بين غريبات لم يكن يعرفن بعضهن أبدا من قبل، أصرت مضيفتي على أن أقوم بزيارة رفقة ابنتها لنبع الماء القريب الذي يصب في صهريج كبير بنته الساكنة في هذه القرية لتجميع المياه واستعمالها في كل ما يحتاجونه من أغراض الشرب والسقي وتوريد الماشية..كانت المياه عذبة شديدة البرودة تنبع من بين صخرتين قدتا من جبل كرانيتي قاس رمادي اللون مائل للسواد، تنعدم فيه أي نبتة أو شجرة أو اخضرار، لكنه اختار أن يهب الحياة التي تنبع من أعماقه لتنتشر غير بعيد منه في شرايين الأرض القريبة وتسقي الحرث والنبات وأشجار الكركاع وحب الملوك واللوز وغيرها، لتحيلها مخضرة بهية كأنها قطعة من جنة.
عدنا إلى البيت الصغير الدافئ لأتفاجأ بوجبة كسكس لذيذة أعدتها تلك السيدة الطيبة احتفاء بي، كنت بدأت أعتاد هذه الطيبة والحفاوة الغريبتين عني ولكنهما غير غريبتين عن هذه السيدة وأسرتها بل وعلى سكان هذه المناطق كلهم، فلم تنل منهم قساوة الجبال المحيطة بهم ولم تؤثر فيهم برودة الطقس ولا شظف العيش، لقد حافظوا على قلوبهم نقية وصانوا أرواحهم من أن تحفر فيها قسوة الحياة أخاديد تنسيهم إنسانيتهم وتقضي على عفويتهم وبساطتهم ونبلهم الظاهر في الوجوه وفي الحركات والسكنات.
انقطعت أخبارهم عني فجأة، منذ وقت طويل، رغم أني وعدتهم بالعودة في أقرب الآجال، لقد أصرت الفتاة الصغيرة على أن أعود لزيارتهم مرة أخرى ولكني لم أف بهذا الوعد أبدا، لم تسمح الظروف، وكانت وعورة الطريق واستهتار سائق سيارة الأجرة وهو يقود في رحلة العودة بيد وبالأخرى يتفحص هاتفه ويدردش مع أصدقائه ويجيب على رسائله دون أن يرف له جفن، وأنا أكاد أموت من الهلع من أي خطوة خاطئة تطيح بنا في هذا الوادي السحيق، كان كل ذلك أكبر سبب لعدم وفائي بوعد أعلم أنه دين في رقبتي التي كانت ستدق ذلك اليوم بين الجبال الشاهقة التي يصل علوها إلى أكثر من 4000 متر، وفي مسالك وعرة ومتهالكة في أكثر الأحيان.
اليوم وعند علمي أن الزلزال ضرب من بين ما ضرب تلك المنطقة من الأطلس الكبير، تذكرت تلك الأسرة، وتلك السيدة التي استضافتني ببيتها وحملتني إضافة إلى ما منحتني إياه من حبات كرز وكركاع وزعتر هدية، حملتني أيضا صدق الحب وحسن المودة دون ضفاف ووعدا عاهدت الله أن أفي به ولو بعد حين…
سأعود لأزورك صديقتي، وكل ما أرجوه ألا يكون هذا الزلزال قد أصابك بمكروه أو أفقدك أحدا من أحبائك.
عزيزتي تيتريت، ما أزال أحتفظ بتلك الصور التي خلدت لقائي بكم، وسأحملها إليك، كما طلبت، في لقائنا القادم، لكن لطفا كونوا بخير، أرجو ألا يكون هذا الزلزال قد نال من طيبتكم وصفائكم.. وحبكم للحياة ، سيعود كل شيء إلى سابق عهده، رغم الصعاب ورغم هول ما تعرضتم له، سيواصل جدول الماء الصافي جريانه، وستزهر أشجار الكرز من جديد، لن يهزم الزلزال قلوبا عامرة بالحب والإيمان، مثل قلوبكم، يا أهل الأطلس ويا سكان الحوز وكل منطقة زارها قدر الله فحمدت الخالق ومسها السوء فاحتسبت وصبرت وصابرت..
سلام عليكم أيها الطيبون..
سلام على قلوب صافية لم تلوثها قسوة ولا سودها حقد..
سلام عليك أيتها الأسرة الجميلة الأمازيغية الأبية..
ولنا لقاء عندما يشاء لله…

الكاتب : خديجة مشتري - بتاريخ : 22/09/2023

التعليقات مغلقة.