روسيا والمغرب العربي..وشروط الصداقة

الحبيب الأسود

لا يمكن فصل علاقات دول المغرب العربي مع موسكو عن العلاقات العربية عموما مع الجانب الروسي، والتي أصبحت تتخذ أبعادا إستراتيجية مهمة في سياق التحولات الكبرى التي يشهدها العالم في اتجاه تكريس مفهوم السيادة، وتأسيس العلاقات بين الدول على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل ومغادرة منطقة التبعية التقليدية سواء للمستعمر أو الوصيّ السابق أو لمخلفات الحرب الباردة التي كانت تقسّم أنظمة العرب على أسس سياسية وأيديولوجية بين المحسوبين على حلف الناتو والمتمترسين وراء حلف وارسو.
وعندما أعرب وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة عن رغبة بلاده في تطوير شراكته الإستراتيجية مع روسيا إلى مستويات أعلى وأرحب، كان ينطلق من عمق الرؤية السياسية للعاهل المغربي الملك محمد السادس، ومن الثوابت التي تنبني عليها دبلوماسية المملكة وتقييمها لمواقع القرار الدولي، واعتقادها بأهمية روسيا كصديق وشريك يعرف كيف يحترم أصدقاءه وشركاءه.
تمتاز العلاقة بين المغرب وروسيا بالعراقة والتجذر عبر التاريخ، وتعود إلى عام 1778 من خلال تبادل الرسائل بين السلطان سيدي محمد بن عبدالله والإمبراطورة كاترين الثانية عندما كانا يتجهان للتوقيع على إقامة معاهدة صداقة وتأسيس علاقات تجارية تضمن معاملة تفضيلية بينهما، وقد استمرت جسور التواصل بين البلدين من خلال ممثليهما في العواصم الأوروبية، لكن الصراع التقليدي بين الروس والعثمانيين حال دون توطيد العلاقة مع موسكو عبر البحر المتوسط.
كان في تلك الأثناء وزير بلجيكا المفوض هو من يرعى المصالح الروسية في المغرب، قبل أن تناط في مارس 1882 بعهدة ممثل إسبانيا الدبلوماسي. وفي أكتوبر 1897 تمت الموافقة على تأسيس قنصلية في المغرب وتعيين قنصل عام بدرجة وزير مفوض.
عندما اشتد التنافس الغربي على طنجة وكادت تشتعل مواجهة عالمية في ذلك الوقت، قررت حكومة الإمبراطورية الروسية أن تكون قريبة من الأحداث من خلال تعيينها فاسيلي باخيراخت سفيرا في المغرب بعد أن عمل لسنوات طويلة بالممثليات الدبلوماسية الروسية في سويسرا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال، وقد وصلها بالفعل في مايو 1898 وتوجه إلى مراكش لتقديم أوراق اعتماده إلى السلطان عبدالعزيز الذي قرر بدوره في العام 1901 إرسال بعثة دبلوماسية طارئة إلى روسيا برئاسة وزير الخارجية سيدي عبدالكريم بن سليمان بالتزامن مع إيفاد بعثات مماثلة إلى باريس ولندن وبرلين.
اللافت للانتباه في ذلك الوقت، أن روسيا حاولت إقناع البعثة المغربية بأن مصلحة بلادها تكمن في تمتين العلاقات مع فرنسا وعدم الاعتماد على العلاقات مع بريطانيا. أدت الظروف التي عرفتها البلاد في أوائل وأواسط القرن العشرين إلى تراجع في مستوى العلاقات، إلى أن جاء استقلال المملكة ليعيد الروح إلى جسور التواصل من خلال إقامة العلاقات بين الاتحاد السوفياتي والمغرب في العام 1958 بزيارة العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني إلى موسكو في أكتوبر 1966، وزيارة رئيسين لمجلس السوفيات الأعلى إلى الرباط وهما ليونيد بريجنيف في العام1961، وفودكورني عام 1969، كما زار ولي العهد المغربي آنذاك محمد السادس موسكو على رأس وفد مغربي في عامي 1982 و1984، وذلك في سياق رؤية إستراتيجية ظهرت معالمها مع جلوسه على العرش في العام 1999 تشكيل علاقات متوازنة مع القوى الكبرى والمؤثرة في العالم وتقديم مصالح بلاده على أيّ أجندات أخرى، وعلى هذا الأساس، تحتل زيارة الملك محمد السادس إلى موسكو في الفترة بين 14 – 18 أكتوبر 2002 موقعا مهما في تاريخ العلاقات الروسية – المغربية، وخلال مباحثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تم التوقيع على بيان مشترك حول الشراكة الإستراتيجية بين روسيا الاتحادية والمملكة المغربية، وفي العام 2006 قام بوتين بزيارة رسمية إلى المغرب وقّعت خلالها العديد من الاتفاقيات، وبعد عشر سنوات، وصل العاهل المغربي إلى موسكو في مارس 2016 في زيارة تاريخية شهدت التوقيع على 15 اتفاقية بين البلدين في مختلف المجالات، تلاها في أكتوبر 2017 التوقيع على 11 اتفاقية بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الروسية آنذاك ديمتري ميدفيديف، وهو ما ساعد على الرفع من حجم التبادل التجاري بين البلدين ليصل في نهاية 2021 إلى 1.6 مليار دولار.
ساهم تطوير العلاقات مع روسيا في دعم جهود المملكة على مستوى العالم للدفاع عن سيادتها الكاملة على أقاليمها الجنوبية في سياق توازنات إستراتيجية عمل على تكريسها الملك محمد السادس، وقد تأكد ذلك من خلال تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف حرص بلاده على تسوية ملف الصحراء وفق قرارات الأمم المتحدة وعدم تحيز موسكو إلى أيّ طرف على حساب الآخر، وأنها تدعم جهود مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء للتوصل إلى حل للملف، حيث أوضح على هامش منتدى التعاون الروسي – العربي أن الموقف الروسي من قضية الصحراء “سيبقى متوازنا وغير متحيز وغير خاضع للتغيير”، مردفا أن بلاده تنوي مواصلة تمسكها بالخط المبدئي لبلورة وتطوير القرارات المناسبة لكل أطراف النزاع، وستعمل على دعم جهود الوساطة للمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء.
تبدو نظرة موسكو إلى المنطقة العربية أكثر عمقا من النظرة الغربية وخاصة من حيث قراءة الخلفيات وتحليل القضايا واستنتاج الدروس السياسية والحضارية، وليس جديدا أن الروس يعتمدون على مراكز متخصصة في التاريخ والحضارة وعلم النفس وعلم الاجتماع وفي العلوم السياسية للحصول على أدق التفاصيل حول الأوضاع في الدول العربية للتعامل معها بوعي وإدراك تامّين، عكس الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي كثيرا ما تكتفي بالنظر إلى السطح، وهو ما جعلها تتورط في الكثير من القضايا كالعراق وليبيا وأفغانستان لتعترف بأخطائها ولكن بعد فوات الأوان.
أصبحت دول عربية كثيرة تميل إلى ربط علاقات إستراتيجية مع روسيا رغم ارتباطاتها التقليدية مع واشنطن والعواصم الغربية، ومن أسباب ذلك أن موسكو ترفض فكرة التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولا تعمل على ممارسة أيّ ضغوط على هذا النظام أو ذاك سواء باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان أو باسم التدخل في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب والمجتمعات، ولا تعتبر نفسها وصية على أيّ بلد كان، وبالمقابل تقف بقوة لتدافع عن حلفائها المقربين كما فعلت مع النظام السوري عندما تأكدت من أن لحظة الإطاحة به بدأت تقترب.
أبدت موسكو الكثير من التعاون مع الدول العربية ودول العالم الثالث في أغلب المجالات دون أن تفرض شروطها، ودون أن تربط قبول التعاون مع هذه الدولة أو تلك بوقف التعاون مع واشنطن أو غيرها، ولعل مجال التكنولوجيا النووية أهم مجال فتحت روسيا التعاون فيه مع عدد من الدول العربية كالإمارات ومصر، وقد أعلن لافروف من مراكش أن “روسيا والمغرب يخططان لزيادة التعاون في قطاع الوقود والطاقة، وكذلك في تطوير الطاقة النووية السلمية، وتعزيز التعاون الإنساني”.
تنظر شعوب المغرب العربي كأغلب الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث لروسيا نظرة احترام وتقدير لمواقفها المناصرة للقضايا العربية، ولقدرتها على إحداث التوازن مع القوى الغربية خلال الحرب الباردة، وعندما اختل التوازن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كان العرب والمسلمون أول ضحايا التدخل الأطلسي سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وكان ما يسمّى بالربيع العربي من أبرز محطات ذلك التدخل، وهو ما جعل الكثير من العواصم العربية تتجه إلى موسكو لتوطيد العلاقات معها خشية انفراد وقوعها تحت سطوة الانفراد الأميركي وخاصة في مجلس الأمن الذي تحول إلى منصة لإصدار قرارات التدخل في الدول العربية والإسلامية ولرفع الفيتو في وجه كل من يقول لا للعدوان عليها.
أغلب الدول العربية اتجهت لتعزيز علاقاتها مع روسيا بعد أن فقدت ثقتها في واشنطن والعواصم الأوروبية الأخرى التي لن تدرك بعد أن الزمن قد تغير، وأن التبعية ليست قدرا، وأن عالم القطب الواحد في طريقه إلى الزوال، وأن لكل دولة الحق في تنويع علاقاتها وتأمين مصالحها مع من تثق به أكثر، فلا أحد مستعد الآن ليضع كل البيض في سلة واحدة، وخاصة إذا كانت سلة الولايات المتحدة التي كثيرا ما تخلت عن أصدقائها في الأوقاف الصعبة، أو حاولت ابتزازهم بشكل غير مناسب لمبدأ الصداقة بين الدول والشعوب.
عرفت موسكو كيف تحافظ على علاقاتها مع أغلب دول المنطقة دون تمييز، ودون انحياز لطرف دون آخر. نلاحظ ذلك من خلال الرفع من مستويات تعاونها مع دول الخليج العربي في ظل تطور علاقاتها مع إيران، وتوطيد علاقاتها مع المغرب دون التأثر بعلاقاتها الإستراتيجية والتاريخية مع الجزائر، ودفاعها عن الحقوق الفلسطينية المشروعة دون مساس فعلي بعلاقاتها مع إسرائيل، كما حافظت في نفس الوقت على علاقات تحالف قوي مع دمشق وأنقرة، ولم يمنعها تحالفها مع سلطات شرق ليبيا وخاصة مع قيادة الجيش في بنغازي من أن تكون لها روابط متينة مع سلطات طرابلس بما في ذلك مجلس الدولة المحسوب على تيار الإسلام السياسي والذي استقبلت رئيسه محمد تكالة أواخر نوفمبر الماضي.
ورغم كل ما قيل ويقال عن التدخل الروسي في ليبيا، إلا أنه يبقى عنصر توازن مهم، وذلك لجملة من الأسباب من بينها أن الروس يدركون من خلال علاقاتهم التاريخية مع الدولة الليبية خصائصها الاجتماعية والثقافية وجغرافيتها السياسية والأسس الفكرية والعقائدية للمجتمع، ولذلك ربطوا جسور تواصل مع كل الفعاليات المؤثرة تقريبا بما في ذلك النظام السابق الذي يصرون على تمكينه من المشاركة في الحياة السياسية وخوض السباق الانتخابي للمنافسة على الحكم، وهو ما ترفضه العواصم الغربية، التي ضغطت لإلغاء انتخابات ديسمبر 2021 فقط بسبب ترشح سيف الإسلام القذافي للاستحقاق الرئاسي.
ويرى حلفاء روسيا في ليبيا أنها ساهمت بدور كبير في مكافحة الإرهاب وخاصة في المنطقة الشرقية والجنوب عبر دعمها للجيش الوطني وتمكينه من الخبراء وتزويده بالسلاح والذخيرة وبقطع الغيار للطائرات القديمة التي كان النظام السابق حصل عليها من الاتحاد السوفياتي، وبحل مشكلة السيولة عندما تعرضت الحكومة التابعة لمجلس النواب إلى حصار مالي واقتصادي، وكان لها دور في إرساء مبدأ المصالحة في مناطق نفوذ الجيش، وحتى حضور شركة فاغنر، فقد كان له أهمية واضحة في إحداث التوازن مع ما كان سائدا من انتشار المرتزقة والإرهابيين من مختلف الجنسيات في مناطق مختلفة مع وجود خبراء أميركيين وأتراك وإيطاليين في المنطقة الغربية.
ورغم أن الغرب ينتقد الدور الروسي بكل تفاصيله، إلا أن الواقع على الأرض يؤكد أن موسكو نجحت في قطع الطريق أمام نسخة الربيع العربي التي كانت معتمدة من قبل واشنطن في ليبيا كما في سوريا وغيرها، وخاصة في علاقة بمشروع التمكين لجماعة الإخوان، وهو ما يجعل أبرز أعداء الروس هم قوى الإسلام السياسي ومن يتحالفون معها في رحلة الدوران في الفلك الأميركي في سياق استعادة لتاريخ التصادم مع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان والشيشان.
شكلت زيارة وزير الخارجية الروسي إلى المنطقة المغاربية تأكيدا على أن هناك مرحلة جديدة تمر بها المنطقة وهي غير مفصولة عن التوازنات الجديدة التي يشهدها العالم، حيث تحتل المصالح الثنائية صدارة الدوافع الأساسية لتشكيل العلاقات بين الدول والنهوض بها، مع ضرورة التعامل النديّ وتوفر الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتقارب المواقف من القضايا المصيرية والملفات ذات الاهتمام المشترك، وهذا ما يتوفر في العلاقة مع روسيا إلى حد الآن على الأقل.

الكاتب : الحبيب الأسود - بتاريخ : 28/12/2023