زمن الاحتمالات والأخيلة المشرعة

حسن إمامي

 

ربما سنحتاج لاستحضار تجربة الاعتقال المادي والملموس داخل زنزانة ما، وبين جدران وأبواب موصدة، وخلال مدة زمنية مفروضة. ربما سنسأل صاحب التجربة عن تجربته في الحصار وفي السجن وقضاء مدة وجزء من حياته محروما من الحرية، من الحياة العامة التي فيها تواصل وتبادل المشاعر وتقاسم لحظات العيش وحرية الانطلاق والتصرف. فكرة “الإنسان اجتماعي بطبعه” قد تعود بنا إلى طرح السؤال حول تاريخ شرعنتها والاتفاق عليها كقاعدة وجودية سارية المفعول. هو سؤال لن يكون للنفي أو الإثبات، بقدر ما سيكون لمناقشة النسبية التي أصبحت تهدد وجود هذا الكائن الاجتماعي بطبعه. وحينما نتحدث عن التهديد نستحضر الجائحة التي انتشرت عبر العالم، والتي ارتبطت بانتشار وباء جديد من نوعه مرتبط بفيروس كورونا الذي تعددت التحليلات حوله.
هذا الحصار المادي الذي اقترح مع الحجر الصحي، والذي حدّ من حرية التجول والتواصل، بقدر ما قامت الدراسات حول تداعياته الاقتصادية والسياسية والتنموية والمالية على الخصوص، بقدر ما بدأت تحاليل أخرى تراعي الأثر النفسي والوجودي والثقافي الذي يشكّله على الفرد الواحد وعلى الجنس البشري عموما. ولعل إيجابية انتشار وسائل الإعلام والاتصال والتواصل قد خفّفت من عبء الحجر ـ الحصار. لكنه انتشار زحف على الواقعي ونقلنا إلى مزيد فتح واتساع مساحة للذهن لكي يشتغل أكثر ويستوعب أكثر، ويبني تصورات جديدة قد تكون واقعية أو قد تكون تخييلة افتراضية. وما دام المنفلت وعيا حاضرا افتراضيا بحقيقته وأثره، فإن هذا الإنسان أصبح في مواجهة المجهول. وكم أرعبه المجهول عبر التاريخ مثلما أرعبه المهدد لحياته ووجوده. كم تفاعل مع العنصرين بردود الفعل وبإنتاج وعي ومعرفة وتصور. كانت الأسطورة مرافقة، وكان السحر وسيلة مثلما كانت التجربة واستعمال القوة وابتكار وسائل تطويرها. كانت هذه القوة مادة وتجربة، وتحولت لكي تصبح علما ومعرفة. هكذا أصبحنا اليوم نربط التطور الحضاري بالتطور العلمي غالبا. هكذا هو العالم اليوم.
الكل ينتظر اليوم. الكل يراقب ما يحصل ويترقب شيئا ما. الاحتمالات التي أصبحت عديدة في تفسير وتعليل ما يقع، بدءا بأصغر الأخطاء التي قد يرتكبها البشر وانتهاء لامنتهيا بسياسات مدبّرة ومؤامرات مفبركة لكي يقع هذا الذي يقع. كل الاحتمالات وجدت لها طريقا وخيوطا داعمة. وطبعا مع تداخل المصالح كما الصراعات حولها فإن كل طرف يجد المادة المناسبة لكي يجعلها في إخراج متقن ومنطقي، ولكي يقول هذا هو السبب، وهذا هو المصير.
والمتلقي الذي خبر تلاعب وسائل الإعلام بالحقائق وتوظيفها لها بالمقاس الذي يصنع الرأي العام والخاص ويبرر السياسات والقرارات ويشرّع الفعل السياسي البارد أو العنيف، أصبحت له قدرة على تخيل كل شيء وتصور الاحتمالات التي قد تفسر هذا الشيء والآخر كذلك. وبدرجة الذكاء والدهاء نجد كذلك درجات الغباء والجهل. لكن السياسة تحاول شق ثوب العدم بتحقيق أهدافها الواقعية والعملية. فمنبر الخطاب موصل إلى ضغط على زر أو تغيير قرار أوإنتاج…
سيناريوهات كبرى متعددة أنتجها وضع انتشار الوباء الجديد وتأثيره على مرافق الحياة وميادين العيش عند الفرد والمجتمعات. ثلاث دوائر كبرى تستقطب الاهتمام اليوم. الصين ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ أوربا. وبالنظر إليها تستحوذ دائرتا الصين و (و م أ) على الاهتمام أكثر. مركزيتان سياسيتان واقتصاديتان، قوتان عسكريتان فرضتا الحذر في اتخاذ الموقف أو الاتهام بما يقع، وبالمقابل سنتساءل لو أن دولة أضعف كانت هي سبب هذه الجائحة، كيف سيكون التصرف معها دوليا وديبلوماسيا، بالقوة وبالرمز والتوبيخ؟
وبين التجريم والتخطيء لما وقع تبقى تصورات أشكال الحروب الجديدة والتي يمكنها أن تأخذ طابعا علميا ذكيا ومتطورا مثل استعمال الأسلحة الكيماوية واستهداف الطعن الخفي غير المرئي والذي سيكون دقيقا ومركزا على تدمير معين ومحدد. وهنا تأتي نظرية المؤامرة المشتركة بين القوى العظمى لأجل التخفيف من التزايد الديموغرافي المهول لعدد سكان العالم. كيف سيفعل انتشار فيروس معين في الحد من التناسل عند الأجيال المقبلة، وكيف سيسبب العقم عندها. أقصى درجات الاحتمالات التي تجعل سياسة الكبار مريرة على الصغار وعلى الوجود الإنساني ككل.
وداخل الخيال ستحضر نظرية المؤامرة والحرب الاقتصادية المتبادلة. تحضر النيات ومصادر خروج هذا الفيروس. داخل الاحتمالات نفترض أن الخطأ بشري فادح وقعت فيه المختبرات مثلما يمكنها أن تقع في أفدح منه مع فيروسات أخرى وغازات كيماوية سامة ومدمرة أكبر، أو مع مفاعلات نووية والتي تجعل الكرة الأرضية عبوة ناسفة قابلة للانفجار في كل حين. أصبحنا نتكلم الآن وبالملموس بعد أن تطورت التجارب أكثر من قرن من الزمن، عن الحروب الخفية غير المرئية والتي تنبعث مع الهواء ومع عناصر الطبيعة مثل الماء أو النبات أو غيرهما…
هو الخيال وقد شرعن السلاح المسافر والمحلق بحرية، هذه الحرية التي قلصت من غرور الإنسان الكائن الحي الأقوى والأذكى والأمهر، حرية جعلت الطبيعة مثلما الحيوان يسترجعان دورهما وحقوقهما الطبيعية أكثر. حتى إن التوازن البيئي أصبح حلا تنتجه الطبيعة فتقلص ثقب الأوزون مثلا أو نسبة التلوث المخيفة في المدن الكبرى وضواحيها التصنيعية… أصبحنا نخاف من فتح نافذة المنزل مثلا، لعله زاحف أو لعله دورنا في يوم قيامة أرضي نشعر به يهدد حياتنا ومصيرنا…
ربما كان مثل هذا شعور أفراد البشرية عبر التاريخ بسبب انتشار وباء ما، ولن نكون أول من سيفكر وينتج خيالا ويفترض احتمالات. هي فرصة لكي نرجع إلى براءة طفولة ونتخلص من شرور سياسة، مثلما استرجعتها الطبيعة أو هذه الحديقة الماثلة أمامي، أنا الجالس خلف نافذة تطل على الحياة التي نأملها بربيع أخضر ننطلق فيه مثل هذه العصافير اللامبالية بما نشعر به الآن.
ويأتي التسابق مع الزمن والدقيقة ومع اتفاقيات التعاقد والعرض والطلب ليجعل كل هذا لعبة ودوامة يتأرجح فيها أمل الحياة وأمل التلقيح المنقذ للأرواح.

الكاتب : حسن إمامي - بتاريخ : 21/11/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *