عبد الرحمان اليوسفي: أيقونة اليسار
ذ: محمد بادرة
سيبقى خالدا في ذاكرتنا بحكمته وتواضعه ونزاهته
بالأمس ودعنا وودع معنا كل أحرار العالم قائدا سياسيا شجاعا ومجاهدا وطنيا غيورا ومناضلا امميا وحقوقيا شريفا دافع عن الحرية والديموقراطية والكرامة الانسانية، كان مدافعا شغوفا عن قضايا بلده وقضايا امته، عاش حياته كلها وهو يحارب الظلم والفساد والاستبداد كمحامي وحقوقي وكقائد سياسي اممي وحزبي وكرئيس لأول حكومة تناوب سياسي في تاريخ المغرب الحديث .
الرحمة على الروح الطاهرة لفقيدنا الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي وارواح كل شهدائنا الاحرار الذين ساروا على طريقه وطريق رفاقه من اجل الحرية والديموقراطية .
عزاؤنا أنه خلف إرثا نضاليا وفكريا وسلوكيا وتجربة نضالية اصيلة في مسيرة طويلة واجهت ما واجهت من تحديات ومؤامرات .. نجاحات وتعثرات .. لكنها تستحق القراءة والاقتداء والسير على نهجها لان صاحبها كان صادقا في فكره ونضاله وحياته ولم بكن انتهازيا في سلوكه ومواقفه .
لقد آلمنا رحيله ولكننا لم نجزع لأن الموت حق يتساوى فيه ابناء البشر ولكن جزعنا كان اتيا من الخسائر العظمى التي منى بها الصف الديموقراطي في وطن يعشق الرجال الذين يسلكون درب الحق والحرية والديموقراطية (عمر بنجلون – عبدالرحيم بوعبيد – عبد لله ابراهيم- …) خاصة ونحن في مرحلة يتعاون فيها اكثر من طرف لاجتثاث هذا الفكر الديموقراطي واليساري – الاشتراكي لما يمثله من قوة ردع فكرية وايديولوجية تتحطم على صخرتها الصلبة كل المؤامرات الموضوعة لاجتثاث حق امتنا في الحرية والديموقراطية والعيش الكريم..
إن رحيل عبد الرحمان اليوسفي ليس خسارة لحزبنا وشعبنا ووطننا فحسب بل خسارة فادحة للفكر الانساني الاممي، وفي رحيله سيظل من المشاعل المضيئة التي تنير الساحة النضالية الوطنية بما تركه من ارث نضالي وحقوقي وسياسي وحكومي .. وأقل ما يمكن ان يبقى معلقا في اذهاننا اشراقة الامل التي تطل من عينيه مبتسما دائما و باستحياء، هذه الصورة العاكسة للأمل والحياة تشكل زادا كبيرا لإخوانه ورفاقه وزملاء دربه .. فطالما يظل الانسان مبتسما فان الانتصار على كل العوائق سياتي مهما طال الزمن وغلت التضحيات … لقد تعلم المناضلون في مدرسة الاتحاد ان الوفاء تكون للمبادئ والافكار لا للأشخاص والزعامات، وامنوا ان الصراع بين الاجيال هو اساس التطور والتقدم لكن الوقوف امام قامة وهامة وقيمة ورمزية عبدالرحمان اليوسفي قد لا تسعفنا هذه النظرية الفلسفية التي تقيم تصورا صداميا بين المناضلين وبين «شيوخهم» في الحزب او بينهم وبين الزعماء السياسيين والوطنيين في افق احداث القطيعة بين جيل الكفاح الوطني وجيل النضال الديموقراطي، ويريدها البعض قطيعة سياسية وثقافية واخلاقية على اساس نبذ وطي وتكنيس كل ما هو سابق بل ويدعو اصحاب هذه النظرة والنظرية الى احداث صراع واقتتال ايديولوجي وسياسي وتنظيمي بين جيل التأسيس وجيل البناء والتجديد بسبب تعارض الرؤى واختلاف التصورات والاهداف مما ينجم عن ذلك اذكاء روح الرفض والانكار والاقصاء والصراع بين الاب/ المؤسس والابن/المجدد او بين الملهم الايديولوجي (المثقف العضوي ) والمتعلم او المنخرط الحزبي او بين قمة الحزب وقاعدته، وكل ذلك من اجل احداث انقلاب على رموزنا وقادتنا المؤسسين للتنظيمات الحزبية او بمعنى اخر الانقلاب على الاب الحزبي بالمعنى الفرويدي.
إن ما يربطنا بإرث عبد لله ابراهيم و عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي هو ذاك التجاوب والاقتداء والحرص على تواصل الاجيال الحزبية لا تقاطعها – نتعارف ولا نتعارك – نتعاون ونتجاوب ولا نتنافر ونتحارب، لأن الشعوب التي تنسى ماضيها وتنسى قادتها ومثقفيها وعلمائها ومناضليها محكوم عليها بإعادته، كما يقول الفيلسوف سانتيانا ، كما ان من احد احد اعمق حدوسات فرويد ،تأكيده على ان ماضي الكائن البشري يمكنه ان يعينه في التفتح والتطور كما يمكن ان يحكم عليه بالشلل والعجز .
وإن استحضارنا لهذه الصورة ناتج من كوننا في السنوات الاخيرة، تعرضت علاقة المناضلين وقادتهم او قيادتهم (واقصد في الاحزاب الوطنية واليسارية خصوصا) لهزات عنيفة من جراء التحولات العميقة التي مست سلم القيم وكذا المياه الجارفة التي حملت رواسب من مقوماتنا الاصلية، فسقطنا فريسة امام وحش الاستقطاب الايديولوجي الانتخابي وتشربنا من مياهه الملوثة بالمال الحرام وبالامتيازات والمناصب، واعتقدنا ان تراثنا النضالي والحزبي والقيمي ما هو الا بناء منخور ونسيج من السخافات المرتبطة بذهنية عتيقة متجاوزة، ولذا وجب احداث قطيعة ثقافية وسياسية وايديولوجية بيننا وبين مقومات ماضينا فحصل لنا اصطدام وصدام عنيف فيما بيننا، اي بين (الانا العليا- المبادئ والقيم الحزبية الاصيلة) و(الانا الذات – المناضل او المنخرط الحزبي) وهكذا ينظر المناضلون الى قادتهم نظرة تختزن الكثير من الارتياب والشك والعداء وينظر القادة الى مناضليهم نظرة تقصير و تحجيم واقصاء، ولا يمكن ان تزال هذه العلاقة المتناقضة والمتصارعة الا من خلال احياء قدوة الاستنساخ المعنوي باقتداء قادتنا الاوفياء للنضال من اجل الحرية والديموقراطية لان الاصل هي ان العلاقة بين المناضل ورموز نضاله هو السير معا في درب التضحيات من اجل تحقيق مجتمع الديموقراطية والكرامة الانسانية .
إذا كان هناك من ارث يمكن ان يرصع تجربة الاستاذ عبدالرحمان اليوسفي السياسية والحزبية والحقوقية والحكومية، فإنه يكفيه التقدير والاحترام الذي ناله من الامة والشعب بسبب نظافة يده من المال العام، ودوره الريادي في توسيع رقعة الممارسة الديموقراطية وتحديث الضوابط والضمانات السياسية والتنظيمية، والتي من شأنها كفالة الحقوق والحريات العامة وتحريك وعي الجماهير ودفع شرائح عريضة من الجماهير الغاضبة واليائسة للانغماس في خضم العمل السياسي العام حتى يتحولوا من مجرد الة للتصويت تابعين وغير مبالين الى مواطنين نشطاء فاعلين بإمكانهم التأثير في ديناميات اتخاد القرار السياسي … مما يعني ان مرحلة التناوب السياسي التي قادها الاستاذ عبد الرحمان كانت مرحلة للتحديث السياسي بمعناه العام وفي جوهرها كانت بداية مرحلة لتشييد صرح الديموقراطية ( ان تجربة التناوب تشكل بداية «السياسة الحقيقية» انها مرحلة مدخلية للديموقراطية باعتبار ان التجارب السابقة ينظر اليها على انها تشكل «ما قبل تاريخ ديموقراطيتنا» ومن ثمة لا يمكن مقارنة الذي لا يمكن مقارنته) –عبد لله ساعف .
واذا رحل عنا هذا الرمز، فإنه سيبقى في ذاكرتنا وتاريخنا ووعينا ولا وعينا من المشاعل المضيئة التي تنير دروب الساحة السياسية النظيفة، كما سيبقى مثلا يحتذى به لكل مناضل غيور على وطنه وامته سالكين دربه ولن تخيفهم قلة سالكيه.
تغمده لله بواسع رحمته …. وإنا لله وانا اليه راجعون
الكاتب : ذ: محمد بادرة - بتاريخ : 03/06/2020