عبقرية الصبر من ضجيج المعارك إلى «العبقرية الصامتة».. تتويج لعقيدة النفس الطويل المغربية ضد عقيدة التصلب الجزائرية
نعيم كمال تـ:المقدمي المهدي
يُعد الخطاب الملكي ليوم 31 أكتوبر 2025 تتويجاً لمسار تاريخي طويل: مسار مغربٍ مثابرٍ، واستراتيجيٍ، ووفيٍّ لمبادئه. فخلف هذا التقدم الدبلوماسي، يكمن نصف قرن من النضالات متعددة الأبعاد وضبط النفس اللامحدود. في هذا العمود، يسترجع نعيم كمال أصداء معارك الصحراء وضجيجها، ودبلوماسية «النَّفَس الطويل» المغربية.
حُمّى الاستعداد
للمسيرة الخضراء
قد يَصعب على الأجيال التي رأت النور في الثمانينيات، وبالأحرى جيل «زد» (Gen Z)، أن تستوعب عمق المسار الذي قُطع، وحقيقة التوترات التي سادت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي أحاطت بالمسيرة الخضراء وتلت تلك الملحمة. إلا أنهم بلا شك صاروا يعرفون الرواية، إذ تلقوا أصداءها، وعاشوا أحداثها من خلال الصور والأناشيد الوطنية التي خلدتها.
لكنهم لا يملكون فكرة دقيقة عما واجهه المغرب، والذي يشبه فصول رواية حرب خاضتها المملكة ضد حزمة من القوى المعادية. فنادراً ما كانت كثافة الأحداث المأساوية التي تخللت المعارك في الصحراء موضوعا لسرديات ملحمية. كما لم يتم يوما التلويح بعدد الشهداء وأراملهم وأيتامهم كغنائم تُشرعِنُ مغربية الصحراء.
العبقرية الصامتة لسياسة النَّفَس الطويل
ما الذي تعرفه هذه الأجيال، على وجه الدقة، عن كل المعارك التي خاضتها القوات المسلحة الملكية لتعقّب وطرد ميليشيات البوليساريو من الصحراء؟ تلك الميليشيات المدججة بالسلاح من الجزائر وليبيا، والتي تلقت التدريب والتأطير من كوبييّ كاسترو، والمدعومة بلا هوادة من الكتلة الشرقية وجميع توابعها الأيديولوجية في العالم؟
ما الذي يعرفونه عن المجهود الحربي لتأمين الصحراء، وبناء الجدران الدفاعية، وصد الغارات المعادية، دون أن يدع اليأس يتسلل إليه، ودون أن يتجاوز أبدا ما تقتضيه ضرورة تأمين مغربية الصحراء؟ باستثناء حادثة إجلاء ميليشيات البوليساريو من الكركرات – الأقرب إلينا زمنيا – ما الذي يعرفونه أيضاً عن معارك أمغالا عام 1976، وعن مؤامرة التنازل عن وادي الذهب عام 1979 للجزائر عبر البوليساريو، وهي كلها محطات حاسمة في المسار الطويل لاسترجاع الصحراء، والتي تغلب عليها المغرب دوما بحزم وعزم وضبط للنفس في آن واحد!
لطالما طرحتُ السؤال من حولي، لكنني في الغالب لا أجد سوى شذرات من المعلومات ومعرفة مجتزأة. ومع ذلك، ففي مساء 31 أكتوبر، كانت هذه الأجيال هي التي نزلت إلى شوارع المغرب لتعيش «مسيرتها» الخاصة، بصيغة أخرى، وتستمع لخطابها الملكي، بنبرة مختلفة، والذي جاء كثمرة لربع قرن من التقويم الدبلوماسي الذي بني بـ «عبقرية الصبر».
إنها عبقرية صامتة تجلّت على مدار ربع قرن من الجلد والبصيرة، جعلت من المثابرة فنا من فنون الحكم. فعلى النقيض من الاستعراضات، اختار الملك محمد السادس التقدم خطوة بخطوة، دون أن يتراجع عن كلمته، أو يرضخ للاستفزازات، أو يتأثر بقعقعة السلاح، أو تضطرب بوصلته بسبب الحملات الكثيرة والمتكررة، التي استهدفت دفعه نحو الشك.
النداء المزدوج
إن خطة الحكم الذاتي، التي اقترحها المغرب قبل ثمانية عشر عاماً كحل وسط ومخرج مشرف، لم تجد في الجزائر سوى التشبث بمواقف متصلبة، وتصعيداً في اللهجة، وتكاثرا للاستفزازات، وهو ما لم يُثنِ عزيمة الرباط. وقد ذكّر بذلك وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة في مقابلته على القناة الثانية
(M 2) مساء السبت.
ففي أكثر من عشرة خطابات، دعا العاهل المغربي إلى التفاهم وتصفية الخلافات، لكنه لم يجد في كل مرة أمامه سوى «شريك» متعجرف لم ير في اليد الممدودة سوى «اعتراف بالضعف»، أو «مناورة للمماطلة» في أحسن الأحوال. واليوم، وقد ترسخت خطة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية بشكل صريح في روح ونص قرارات مجلس الأمن، فإن الملك، في الوقت الذي يُسجل فيه هذا المنعطف التاريخي، يأخذ على عاتقه إطلاق نداء مزدوج:
الأول، موجه لسكان الأقاليم الجنوبية ولأبناء الصحراء المغربية في تندوف، ليقول لهم بوضوح لا لبس فيه إن المواطنة حق طبيعي غير قابل للتصرف للمغاربة من طنجة إلى الكويرة، في مساواة تامة في الحقوق والواجبات. والثاني، موجه للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وهو تجديد للدعوة إلى «حوار أخوي وصادق» لطي صفحة المواجهات العقيمة وإعادة تسجيل المنطقة في أفق بناء الصرح المغاربي.
إن خطاب 31 أكتوبر، هو أكثر من مجرد احتفال، إنه بمثابة النواة لمنطقة تنعم بالسلام والتنمية المشتركة. لكن الرباط تدرك تماما أن هذه الخطوة، مهما كانت حاسمة، لا تضمن المعاملة بالمثل. وهنا مرة أخرى، ستتجلى «عبقرية الصبر» لتؤتي أكلها: أن نترك للزمن وقته ليقوم بعملية «الترسيب»، حتى لا يؤرخ هذا الحدث لقرار أممي فقط أو يسجل لحظة حماس وطني، بل ليصبح ميلادا جديدا للروح المغاربية، ومن المؤكد أن الأمر لن يكون سهلا ولن يكون مكسبا مضمونا سلفا.
(عن Quid.ma)
الكاتب : نعيم كمال تـ:المقدمي المهدي - بتاريخ : 05/11/2025

