عن التاريخ والإيديولوجيا والسياسة

عبد السلام رجواني

 

بعض العبارات من قبيل « نهاية التاريخ» و«موت الإيديولوجيا» تسحر كثيرا من العقول، فترددها الألسن في غباء كما لو أنها حقائقُ غير قابلة للنقض ولا تحتاج إلى برهان. ربما تستمد مثل هذه الأحكام القطعية سحرها من بنائها اللغوي أو من معناها التراجيدي.على المنوال نفسه، لا تتوقف بعض الأصوات عن الهتاف وبنوع من الانتشاء: «ماتت السياسة»، دون التساؤل عما تعنيه السياسة وما دلالتها.
خطاب النهايات التراجيدية للتاريخ والإيدولوجيا والسياسة عار من الصحة، ولا يخلو من نفحة أسطورية. إنه خطاب لا تاريخي، ينقض ذاته باعتبار أنه يؤسس لإيديولوجية جديدة، جوهرها تتفيه الفكر لفائدة التقانة، وتبخيس القيم الإنسانية الكبرى لصالح قيم التسليع، كما يؤسس لمنظور جديد للسياسة باعتبارها آلية للتسلق الاجتماعي والاغتناء الشخصي على حساب الشعب والمجتمع.
لو فكر دعاة النهايات مليا في ما تعنيه مفاهيم «التاريخ» و«الإديولوجيا» و«السياسة»، لما أعلنوا موتها؛ فهي ليست كلمات جوفاء، لا مدلول لها، وإنما هي مفاهيم لها ما يقابلها من أحداث ومؤسسات وممارسات واقعية، تطبع حياة الناس، وتشكل وعيهم، وتحدد أوضاعهم.
التاريخ، حسب هيجل، حركة منطقية جدلية، تستخدم فيها الشعوب أدوات لتحقيق النمو والتطور نحو الحرية، ويحكمها مبدأ التغيير،إذ لا شيء خالد. ويتجسد التاريخ عند ماركس في الصراع الاجتماعي أو الطبقي الذي يؤدّي إلى التحول من نمط إنتاج إلى آخر أكثر تقدّماً وتطوّراً. ويرى جان بول سارتر أن التاريخ ليس قدَراً أو قُوى تتحكّم في الإنسان، وإنّما الإنسان هو من يصنع التاريخ ويُحوّله عمليّاً ونظرياً عن وعي وإرادة. وقبلهم اعتبر ابن خلدون التاريخ صيرورة العمران البشري. عملا بكل هذه التحديدات، يبدو تهافت أطروحة «نهاية التاريخ». نعم، قد تتبدل أحوال العمران، وقد تنهار دول وتتفكك كيانات، وتباد حضارات، لتفسح المجال لأحوال جديدة، ودول صاعدة، وحضارات أخرى؛ وذاك هو التاريخ في واقعيته و«مكره» الذي لن ينتهي. إنه الحياة في كنهها وتجلياتها، بالفعل والقوة، واقعا ووعيا. وما دامت الحياة دام التاريخ.
أما «الإيديولوجيا «، فهي ليست «مفهوماً عادياً يعبّر عن واقع ملموس فيوصف وصفاً شافياً، وليس مفهوماً متولداً عن بديهيات فيجد حداً مجرداً، وإنما هو مفهوم اجتماعي تاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة. إنه يمثل «تراكم معانٍ»، مثله في هذا مثل مفاهيم محورية أخرى كالدولة أو الحرية أو المادة أو الإنسان» (عبد لله العروي). وهي حسب المفكر الفرنسي دي طراسي، «علم الأفكار الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس. هذه الأفكار التي تُبنى منها النظريات والفرضيات، التي تتلاءم مع العمليات العقلية لأعضاء المجتمع».

الإديولوجيا هي إذن مكون من مكونات الثقافة، وأكثرها ارتباطا بالسياسة. لذا لا يمكن تخيل مجتمع لا تخترقه إديولوجيات، بغض النظر عن مرجعياتها الفلسفية، وانحيازاتها الاجتماعية، وأبعادها السياسية. إن من يتحدثون عن موت الإديولوجيا كمن يتحدث عن موت الثقافة في معناها الانثربولوجي، والتي تعد المقوم الأساس لتمايز المجتمعات واختلاف الحضارات.
ومن الواضح، أن القول بموت الإديولوجيا قول إديولوجي زائف، يسعى –أساسا- لطمس الصراع الفكري بين اتجهات فلسفية وقٌوى اجتماعية تتبنى رؤى متناقضة للمجتمع والإنسان، وهو بذلك يستهدف صنفا من الإديولوجيات، التي تدعو إلى التغيير وتتأسس على مفهوم التقدم.
نهاية الإيديولوجيا مقولة غارقة في الإديولوجيا في معناها السلبي، لأنها مقولة مضللة وخادعة، غايتها طمس الصراع الفكري، من أجل تكريس هيمنة الليبرالية المتوحشة، من خلال اغتيال الفكر النقدي وتقويض كل ثقافة مناهضة لقيم السوق.
من الطبيعي أن تتهاوى إديولوجيات وتزدهر أخرى، لكن مهما تعددت الإديولوجيات، فإنها لن تخرج عن رؤيتين متقابلتين للإنسان والتاريخ والمجتمع والحياة: رؤية تقدمية، تؤسس للحرية والإنصاف والمساواة والسلم، ورؤية رجعية تؤسس للاستبداد والتوحش والتطرف والكراهية.
نفس القول يصدق إلى حد بعيد على السياسة فكرا وممارسة، بل يمكن الجزم بأن السياسة أكثر حضورا في الحياة العامة لكل الناس من التاريخ والإديولوجيا معا. الإنسان حيوان سياسي بقدر ما هو حيوان ناطق ومفكر، ما عاش أبدا خارج دوائر السياسة وآثارها، مهما كان موقعه من مراكز القرار ومفاتيح السلطة.
ومما لا ريب فيه، أن السياسة باعتبارها علما نظريا حول السلطة وأنظمة الحكم، وفنا تدبيريا لعلاقة الدولة بالمجتمع، تصبح شأنا عاما كلما تقدم مجتمع ما في اتجاه إرساء دعائم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فتتسع مساحات التواصل السياسي بغض النظر عن عدد المنخرطين في الأحزاب، وعن حجم المشاركة الفعلية في الانتخابات، وهما مؤشران مهمان على متانة الديمقراطية ورسوخها.
ومهما يكن موقفنا من السياسة ومؤسساتها، سلبا أم إيجابا، فإنه من الوهم إنكار قوة حضورها في كل مجالات الحياة، في رسم السياسات العمومية وتحديد الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية وتدبير الشأن السياسي العام، فضلا عن تدبير الشأن المحلي. ويمكن الجزم بأن السياسة تملك من الأقنعة ما يمكنها من التسرب خفية إلى تفاصيل حياتنا اليومية، واختياراتنا الخاصة، وأمورنا الأكثر حميمية ، من خلال وسائط خادعة لاسيما في عصرنا هذا، عصر الصورة الساحرة والعوالم الافتراضية المثيرة. كل قضايا العصر أضحت سياسية بدءا بالقضايا الكبرى من قبيل التنمية والتخلف، الحرب والسلم، البيئة وتدبير المجال، القوانين ومؤسسات الدولة، وانتهاء بأنماط العيش وتدبير الوقت الحر الخ…
من البديهي أن تتغير السياسات تبعا للشروط التاريخية التي تنتجها، وارتباطا بالإيديولوجيات التي تؤطرها، وحسب رهانات الفاعلين السياسيين أنفسهم وما يحملونه من مشاريع مجتمعية. وبما أن التاريخ صيرورة غير قابلة للثبات، كما أن التغير ديدن المجتمعات والثقافات، فإن السياسة أيضا، وبالضرورة، متغيرة سواء من حيث مضامينها الاقتصادية والاجتماعية أو من حيث أشكالها التنظيمية وصيغها العملية، وكذا من حيث أهدافها المرحلية وشعارات كل مرحلة.
التاريخ والإيدولوجيا والسياسة، مفاهيمُ عقلية لها ما يقابلها في الواقع الحي، تتغير بتغير الواقع بقدر إسهامها في تغييره، عبر جدلية لا تنتهي قوتها الأساسية الفاعلية الإنسانية الواعية. ولذلك، فإن القول بنهاية التاريخ، وموت الإديولوجية، واندثار السياسة، مثل القول بموت الإنسان ونهاية البشرية.

الكاتب : عبد السلام رجواني - بتاريخ : 06/03/2019