فاجِعة الصويرة..الفقر الذي يزأر كأنه وحش فتّاك

عبد الله النملي / كاتب وباحث

 

فاجعة الصويرة التي أودت بحياة 15 امرأة من أجل قفة دقيق، ومحاولة البعض البحث لها عن أكباش فداء، وأسباب تافهة مرتبطة بسوء التنظيم والتدافع لحظة توزيع مساعدات غذائية من طرف أحد المحسنين، وبالتالي محاربة العمل الخيري وأعمال البر والإحسان، (فاجعة) تُسائل في العمق سياسة المغرب في التنمية البشرية التي صرفت عليها الدولة حوالي 20 مليار درهم، منذ 12 سنة من انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي جاء تقرير الأمم المتحدة حول مؤشر التنمية البشرية لسنة 2016 الصادر في 21 مارس 2017 ليفضحنا جميعا، حين صنّف المغرب في المرتبة 123 عالميا من بين 188 دولة شملها التقرير الأممي، وراء جارتيه الجزائر وتونس، بل وتتقدم عليه دول مثل ليبيا والعراق التي تعيش حروباً، و أكثر من ذلك اعتبر التقرير المغرب الدولة الأكثر تخلفا في التنمية البشرية على مستوى البحر الأبيض المتوسط. فالأمر أعمق من مجرد ازدحام وتدافع، بل هو فشل للنموذج التنموي وارتفاع ملحوظ للفقر القابع في مغربنا العميق والذي يزأر في أعماق الفقراء كأنه وحش فتاك ينغرز في النفس البشرية فيعذبها ويحرقها في جحيم العوز والحرمان. وإن عزمنا أن نُعَدّد مظاهر الفقر وأسبابه بالمغرب ما انتهينا، ونصبح ساعتها كمن تنوح على ميت، فلا الميت براجع ولا العزاء بمُنْته.
وقد أكدت الإحصائيات أن 13 مليون مغربي يعيشون في وضعية الفقر، منهم 08 ملايين تحت عتبة الفقر، لا يتجاوز دخلهم اليومي 10 دراهم، كما يعرف المغرب تناقضا صارخا بين فئة تمثل 1% تستولي على 80 % من خيرات البلاد، وفئة عريضة من الشعب تعيش فقرا مدقعا. غير أن الفقر الذي يُصَنف بموجبه المغرب في مؤخرة دول المعمور، ليس راجعا إلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية وسوء توزيع الثروة والفوارق الفاحشة في الأجور فحسب، بل يعود بالأساس إلى مظاهر النهب التي يتعرض لها المال العام منذ عقود بسبب غياب الشفافية والمساءلة في المجتمع، أو عدم خضوع السلطات السياسية والإدارية والجماعات الترابية لضوابط معينة، تمكن من ممارسة الرقابة عليها، أو بسبب جهل المواطن لحقوقه، أو خوفه من السلطات. ومن تبعات الخلل، أصبحت بعض المهن والمهام في المجتمع، لا تُحيل عن المهنة في حد ذاتها، وإنما تُحيل على الغنى الفاحش. وقد نشرت بعض الصحف، الكثير حول حالات الفساد، والكثير حول أرقامه وحجمه، كما نشرت الكثير من أسماء المتورطين فيه. وإذا كان المتابعون في قضايا الفساد المالي يُسَرحون، فإن الأشخاص الذين يفضحون الفساد يتعرضون للمضايقات، بل وحتى المتابعات، بالرغم من الشعارات المرفوعة. و جاء في مقدمة مجلة « أمل « عدد 31/32، أنه منذ حصول المغرب على استقلاله « استغلت طوائف من الناس فرحة المغاربة في المستقبل، كما استغلت جهل الأغلبية وسذاجتها لتعوض الفرنسيين والاسبان في مراكز الاستغلال والاستنزاف، وبطريقة أكثر بشاعة وأقل رحمة من الاستعمار نفسه (..)، وابتدأ التأسيس للخلل والفساد والنهب، في مغرب ما بعد الحماية منذ سنة 1956 ، وَ تفاحش في مغرب الستينيات من القرن العشرين، ليصبح حالة طبيعية في مغرب السبعينات، وذكاء ومفخرة في الثمانينيات، وليتورط فيه مطلع التسعينيات وبداية الألفية الثالثة عناصر سياسية ونقابية (..). وفرضت بعض التحولات الطفيفة التي يعرفها البلد بضغط خارجي -وليس نتيجة قناعات حقيقية -إقامة عدد من المحاكمات لبعض المتورطين، إلا أن النتائج لم تخرج عن إطار اللامعقول الذي حكم الخلل والفساد نفسه..»
وفي السنوات الأخيرة، طفحت إلى السطح جرائم نهب المال العام بالمغرب، حتى أصبحت عبارة « دَارْ عْلَاشْ يْوَلي « مثلا سائرا، مما جعل حركة 20 فبراير بالمغرب ترفع شعارا مركزيا يُؤَطر كل احتجاجاتها ومسيراتها « الشعب يريد إسقاط الفساد «. ولا غرابة في ذلك إذا ما علمنا، أن دراسات سبق أن قام بها عدد من الأطر المُختصة في المبالغ المُخْتَلَسة، توصلت إلى أن الاختلاسات تمثل حوالي 14 مرة الاحتياطي المغربي من العملة الصعبة لسنة 2001، كما تشكل 34 % من الناتج الداخلي الخام. وقد قَدّر البنك الدولي الخسارة التي يتكبدها المغرب بسبب الفساد المستشري في الصفقات العمومية ب 3.6 ملايير درهم خلال سنة 2007، أي ما يعادل 0.5 من الناتج الداخلي الخام. وسبق لعبد العالي بنعمور رئيس مجلس المنافسة أن صرح بأن الاقتصاد المغربي يفقد سنويا ما قيمته 20 مليار درهم، وهو ما يجعل المغرب يخسر حوالي نقطة ونصف من نسبة النمو بسبب اقتصاد الريع غير المشروع وغياب المنافسة الشريفة، مضيفا أن التصدي لظاهرة الفساد كفيل بأن يربح المغرب نقطتين من معدل النمو سنويا.
واعتبر تقرير سابق صادر عن منظمة الشفافية الدولية، أن المغرب مازال مُتَخلفا في محاربة الفساد، سواء في محيطه العربي أو الإفريقي، حيث احتل المرتبة 91 من بين 175 دولة جرى تصنيفها ضمن مؤشر إدراك الرشوة، بعدما كان يحتل المرتبة 88 من بين 182 دولة شملها التصنيف، وهي مرتبة أسوأ من مالاوي وزامبيا وبوركينا فاسو. وسجل تقرير مجلس أوروبا لتشخيص مكافحة الفساد، أن الرشوة مازالت منتشرة في المغرب، رغم التدابير التي اتخذت لمكافحة الظاهرة، كما خَلُصَت الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة «ترانسبرانسي» المغرب، في أحد تقاريرها أن المغاربة لا يُبَلغون عن الرشوة، لأنهم لا يثقون في مدى فعالية اللجوء إلى الهيئات الإدارية والقضائية، كما أن الواقع المغربي أثبت بما لا يدع مجالا للشك أننا بعيدون عن ثقافة تدبير المال العام، حيث تطالعنا الجرائد يوميا عن مسؤولين يتصرفون في بعض الإدارات والمؤسسات بمنطق الضيعة والبقرة الحلوب، وهو المنطق الذي كان يتصرف به السُيّاب في خزينة الدولة إبان العصور الخالية، فهم كُرماء أكثر من حاتم الطائي نفسه في صرف المال العام وتبذيره على أتفه الأمور، أما الهاتف والانترنيت والنسخ والأقلام وغيرها من الأدوات المكتبية فحدث ولا حرج، وهناك آخرون يطمعون حتى في أوراق المرحاض ومسحوق الغسيل و مواد التنظيف..
وبالعودة إلى دستور المغرب، نجده يُنيط مسؤولية الرقابة للمجلس الأعلى للحسابات للتحقق من سلامة مداخيل ومصروفات الأجهزة الخاضعة لرقابته، وتقييم كيفية تدبيرها، ويُعاقب عند الاقتضاء، كما أسند المشرع مسؤولية حسابات الجماعات الترابية وهيئاتها للمجالس الجهوية للحسابات، وأتاح للبرلمان تشكيل لجان نيابية مؤقتة لتقصي الحقائق، تقوم بجمع المعلومات في وقائع معينة، فضلا عن تأسيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة في 2008 كمؤسسة للتوعية واقتراح التوجهات لمحاربة الرشوة، غير أن كل هذه المؤسسات ضعيفة الفعالية، والسبب راجع لغياب الإرادة السياسية في تقديم الجُناة للمحاكمة. وقد أثبتت تجارب سابقة تم فيها إحداث لجان تقصي، كما حدث سنة 1995 حول المخدرات، عندما عمدت الدولة إلى قيادة حملة سميت زورا ب «حملة للتطهير «، غير أنها لم تكن بدافع البحث عن الحقيقة، بقدر ما كانت حملة لتقديم بعض الأكباش الصغيرة فداء للحيتان الكبرى. ثم إن القانون المعروف من أين لك هذا؟ الخاص بالتصريح بالممتلكات ظل حبرا على ورق.
وقد تتبعنا جميعا في الصحافة الغربية كيف قوبلت المستشارة الألمانية «ميركل « بوابل من الانتقادات الحادة، لمجرد أنها توجهت إلى جنوب إفريقيا في طائرة خاصة لتشجيع منتخب بلادها في كرة القدم، حيث اعتبرت الخطوة هدرا للمال العام، والأمر نفسه عندما توجه ولي العهد البريطاني إلى قمة «كيوطو» حول الاحتباس الحراري،حيث ووجه بعاصفة من الاحتجاجات.أما عندنا بالمغرب فيتعرض المال العام منذ الاستقلال لعمليات نهب واختلاس وتبذير، وتُقَدر المبالغ المُخْتَلسَة بعشرات الملايير من الدولارات، إما مهربة إلى الخارج أو مُسْتَترة خلف أسماء الأقارب والزوجات والأبناء، أو يتم تبييضها في مشاريع أخرى للتمويه، ولاتزال عملية سوء التدبير مستمرة إلى اليوم. ولعل أعظم إنجاز مطلوب تحقيقه هو حربنا على الفقر ومسبباته، وبناء نظام للرعاية الاجتماعية والصحية الشاملة، يكفل حقوق المحتاجين، ويوفر لكل مواطن حياة حرة وكريمة، لكي يستعيد المواطن كرامته وعزته وشعوره بقيمة المواطنة. فما جاع فقير إلا بما مُتِّعَ به غني، لأن كل غني يَثرى على حساب آخر يُفقر. وإذا علمنا أن للفساد تكلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية باهظة على البلاد، فإن محاربته تصبح مصلحة جماعية.

الكاتب : عبد الله النملي / كاتب وباحث - بتاريخ : 27/11/2017