في الحاجة إلى الصوم والصيام في الدين والشؤون العامة …

بقلم : مصطفى المتوكل

يقول الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ..” سورة البقرة
قال تعالى: ( ..فـكلي و اشـربي و قـرّي عيناً و إمّـا تـرينّ من البشـر أحـداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صـومـاً فلن أكلم اليوم إنسيا ) سورة مريم
..يقول مصطفى صادق الرافعي :” .. لم أقرأ لأحدهم قولاً شافياً في فلسفة الصـوم وحكمته ، أما منفعته للجسم ، وأنه نوع من الطب له وباب من السياسة في تدبيره ، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك .وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبّة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة،وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم .. “،
من الأيام المباركة عندنا يوم الجمعة ومن الأشهر شهر رمضان حيث يتعامل المسلمون معها تعاملا خاصا يطال المظاهر والسلوك بمسحات “روحانية” قد لانجدها في باقي أيام وأشهر السنة بل قد تكون مناقضة لها ..كما لايستبعد أن تكون كل تلك المظاهر عند البعض تصنعا وشكلية للتماهي مع المحيط المنسجم المتناقض مع نفسه وجوهر ثقافته وعقيدته كشكل من أشكال التقية آو النفاق ..باعتبار توظيف الدين للاستغلال المادي آو السياسي و…
والصيام في اللغة يدل على الإمساك والركود …وشرعا : قيام وفعل من المكلفين والمكلفات يتم بموجبه الامتناع عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله …
وهو امتناع وضبط للسان والأفعال بتجنب ما يتسبب في التعارض مع جوهر وروح الإيمان والتقوى، ولهذا فهو يصلح في قياس مدى احترام الناس بعضهم بعضا و معرفة مستوى التعقل والوعي حكمة وتهورا ليس في صيام الركن آو صيام التطوع فقط بل في باقي الأيام التي يفطر فيها الإنسان …
إنه يعني عدم الإقدام على أي فعل آو قول يجعل الصيام مجرد جوع وعطش ليس إلا .. كما يجعل العبادات عبارة عن حركات و”طقوس” تقتضيها ضرورات مصلحية واجتماعية إمعانا في الكذب على النفس والناس من باب النفاق والخداع والتضليل .. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم) .
إنه في حقيقته ضبط وعقلنة لنية الإنسان مع وقوله و فعله ..بواجب الامتناع عن الاستغلال البشع للفقراء والطبقة العاملة والتمادي في ظلم الناس وانتهاك حرماتهم ..
انه لايتحقق مع الأنانية والغرور والتكبر والمكر والكيد والتضليل وقول الزور والكذب وقلب الحقائق …قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه “..
إنه امتناع عن إرضاء الأنا والنفس المغترة التي لا ترى إلا أنها الأصلح ..وأن ما يصدر عن غيرها هو الضلال يمشي على رجلين ..فلا رأي إلا ما ترى ولا فهم إلا ما تشرحه وتقوله بل اعتقاد أنه لا تصح أفعال الآخرين إلا بالارتكاز على مدى قربها واحتضانها وتبنيها بالنية أو بالإظهار ” لأي أنا “لدرجة افتراض عدم جواز وجود أي مستوى من مستويات المخالفة ناهيك عن التعارض كما الحال عند غلاة بعض الشيعة وبعض أهل السنة والجماعة، حيث يصبح الولي والفقيه والشيخ وآراؤهم وحتى هرطقاتهم وشطحاتهم أكثر قداسة من النصوص الصريحة بالكتاب والسنة …
إن مراجعة النفس وتقويمها لايكون إلا بالقدرة على التأمل والقراءة والمراجعة المتأنية والمتعقلة بالأفكار عند إنضاجها قبل طرحها في الواقع وبنية الأفعال قبل وقوعها ..وهذا هو دور الصيام ..حيث يرقى بالعقل والنفس إلى مستوى يبتعد عن النزعة الحيوانية العدوانية … فبحجب الرغبات ويكبح جماح الفعل والقول الخالي من الأدب والحاط بالأخلاق ..وجعل التعقل والنضج والحكمة عملة رئيسية ووحيدة في كل أنواع التعامل والعلاقات …
ومن التساؤلات التي تطرح ونحن نتحدث عن الصيام … هل الأمية والجهل والفقر المعرفي وجه من أوج الصيام الإجباري في علاقته بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسات المؤطرة له ؟ ..وهل انعدام أو صعوبة الحصول على العلاج والدواء صيام عن العلاج والاستشفاء ؟ وهل السكن غير اللائق أو بافتراش الأرض صوم عن ضرورات العيش في حدودها الإنسانية الضامنة للكرامة ؟ وهل وجود البطالة والعطالة والبطالة المقنعة صوم عن العمل ..؟ .
هناك فرق هائل بين من صام بالتوقف عن الأكل والشرب من الفجر إلى غروب الشمس وهو القادر على تناول كل ما يحب ويشتهي ويمتلك من الأموال ما يسد خصاص عشرات أو الآلاف من الفقراء …وبين من لايجد قوت يومه وسنته وعمره منفردا أو مع أسرته ولباسا كافيا ولا سكنا تتوفر فيه الحدود الدنيا للاستقرار والسكينة و…
من هنا يمكن القول إن العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج لاتستقيم إن لم تروض وتضبط وتوجه بشكل سليم روحيا وماديا وعقليا كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال وقرارات ..ولا يستثنى من هذا كل الناس كانوا سياسيين أو علماء أو مفكرين أو تجار وحرفيين ..أي عامة الناس وخاصتهم ..
إننا لن نستطيع فهم المطلوب منا من الكتب المقدسة إلا باستحضار قوي للسنن النبوية الصحيحة من أفعال وأقوال وتقريرات الرسل والأنبياء، حيث بعصمتهم وعصاميتهم واستقامتهم يسهل عليهم استقطاب الناس لاعتناق الدين .. وبالسنن يكتمل الدين فنعرف فلسفة الصيام وأركانه وسننه ومندوباته …كما نعلم عدد الصلوات وركعاتها وأوقاتها المفروض وغيره …ونعرف كل ما يتعلق بالحج والزكاة وكل ما يلزم ليقوم الإيمان والعمل على تقوى وصلاح …
ومن الدروس القوية التي نقتبسها من تاريخنا الإنساني المشترك أو تاريخ ديننا ..أن ما نجح به السابقون المعروفون بعدالتهم ومساهماتهم القوية والرائدة في تاريخ الشعوب وتاريخ البشرية ..مطلوب من الأحياء جميعا حتى تكون المصداقية والثقة حاضرة في كل شيء وتكون الجدية خدمة للصالح العام حاضرة في كل مناحي الحياة ..وإلا لأصبح كل شيء في حكم الفاسد والباطل والمشكوك في صحته ولضاعت الأمانات و مصالح الناس التي بين أيديهم أو حتى التي يتوقون لتحقيقها لأنفسهم أو لأبنائهم ..
قال – صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»؛ رواه البخاري.
… إن من يملك زمام نفسه، ويضبط فرحها وغضبها هدوءها وانفعالها يمتلك شخصية قوية تؤهله لامتصاص الصدمات وتجنب الانزلاقات والأخطاء بصومه عن القيل والقال وإمساكه عن مبطلات التعقل وامتناعه عن مسببات الإفلاس المادي والمعنوي … إن الصوم / الامتناع تعبير عن وجود إرادة وعزيمة قويين ..تخول لصاحبها القدرة على تهذيب نفسه وتقويمها وتحصينها وتطهيرها ليصبح قادرا على إدارة نفسه وتوجيهها نحو الصلاح ومن ثم ليكون قدوة لغيره …
إن الذين يرفعون رؤوسهم نحو السماء لتتبع رؤية الهلال وكأنهم في قمة الاستعداد لبداية عهد جديد ..هم في نفس الآن أكثر حزما وعزما للعودة إلى ما نهوا عنه ولو ادعوا أنهم عاهدوا الله وأنفسهم على التوبة ..ماضون إلى إفساد صيامهم وعقيدتهم …
لهذا عندما تحدث الله عن الصيام وربطه بالتقوى التي هي لغة ” الستر والصون والحذر” و”شرعا حفظ النفس مما يؤثم وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي تبعا لشرع النبي صلى الله عليه وسلم” أراد أن يخبر بأن الطريق إلى الإصلاح والتغيير يبدأ بالنفس وتجلياتها كأفعال وأقوال وممارسات في جميع مجالات الحياة الإنسانية ..
قال تعالى : ” إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ” سورة الرعد
قال سفيان الثوري رحمه الله. “إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.”
تارودانت : الأربعاء 10 ماي 2017

الكاتب : بقلم : مصطفى المتوكل - بتاريخ : 12/05/2017