في الذكرى الثالثة عشر لرحيله ..أبراهام السرفاتي: فلسطين والمسألة اليهودية
عزيز قنجاع
على إثر عودة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الواجهة بعد عملية 7أكتوبر الجريئة لحركة المقاومة الإسلامية بقيادة حماس، انتصبت أصوات عديدة تقودها بعض الزعيمات والزعماء السياسيين، محاولين اللعب على الشعور الديني للشعب المغربي ودغدغة أصواته لنيل مقعد أو مقعدين بالبرلمان، مثيرين ضغائن وأحقادا مبطنة لليهود المغاربة، ضاربين بعرض الحائط كل المسار التاريخي الكفاحي للشعب المغربي وإنجازاته التاريخية في إرساء دعائم الأمة المغربية الحديثة، فاتحين الباب أمام متسولي الثورات والدماء لاستجداء الفوضى وزرع الشك في جسم أبناء المغرب بكل تعدداته العرقية والدينية.
وردا على تشككات العديدين في قيمة المساهمة الفكرية لليهود المغاربة في حلحلة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ارتأينا بمناسبة حلول الذكرى 13 لوفاة أبراهام السرفاتي ( 18 نونبر 2010 ) أحد زعماء اليسار المغربي أن نقدم قراءة في فكر النخبة اليهودية المغربية وطريقة تفكيرها في المسألة اليهودية في علاقتها بفلسطين من خلال كتاباته الفكرية والسياسية.
في تشكل الجماعة البدائية
ينطلق أبراهام السرفاتي في تناوله للمسألة اليهودية من وجهة نظر مؤسِّسة تعود إلى التاريخ الأول لتشكل المجموعات الإنسانية انطلاقا وحدة النوع البشري وتنوعه ومن خلال الوحدة الأصلية، فيما ينظر إلى تنوع الأصل الأول من خلال القاعدة المادية للتطور الملموس، أي على قاعدة الجماعة الزراعيةspatio agraire وهي الجماعة التي على أساسها طورت الجماعات تصورها الثقافي وهويتها. فالسرفاتي من خلال هذا المنظور المادي للتاريخ، ينطلق من أسس تاريخية – مادية لا تبحث عن المشترك الإنساني ومن خلاله اليهودي في الحق الإلهي الماورائي أو من خلال الوعد الرباني للشعب المندرج تحت الاسم اليهودي الجامع، بل يحاول أن يقرر حصول التميز الهوياتي من خلال الأحداث التاريخية الكبرى المتمثلة في الحرب أولا ، ثم اللغة ثانيا .
فمع بداية تكون الفائض الاقتصادي بسبب الاستقرار والزراعة، ظهر الغزو في خضم الدائرة الجهنمية للحروب وبرز أناس عبروا عن قيم إنسانية وأجادوا التعبير عن الحساسية العميقة لتلك الجماهير سموا بالأنبياء، وقد عمل هؤلاء حسب أبراهام السرفاتي الى مواجهة النزعات القبلية الاحرابية tribalisme belliciste بمُثُل قيمية إنسانية تحيل الى المشترك الإنساني كالسلم والإخوة والعدالة. هذه المبادئ العامة في نظره والتي شكلت المادة الأساسية للديانات، ستخترقها حركة التاريخ المتعددة الأشكال، وسوف تخترقها كذلك وقائع التطورات والتحولات الذاتية في القاعدة المادية للجوهر الإنساني.
في تشكل الجماعة القومية
لا يخرج السرفاتي هنا عن نقد ماركس لبرونو باور في كتابه «المسألة اليهودية «، لكنه يدعم استنتاجاته بأبحاث إنجلز حول دور اللغة في التاريخ، فيقرر بالتالي أنه، على هامش وبالتوازي وتشكل الجماعة القومية الدينية المشتركة، ستبرز اللغة وستعرف انتشارا وتقلصا يتعدى حدود الجماعات، فانطلقت منها وتشكلت قوميات تخترقها أشكال ثقافية فوق قومية. وهنا يقدم ابراهام السرفاتي تعريفا عميقا لعلاقة الدين بالثقافة والقومية. فبالنسبة له الديانة باعتبارها عقيدة تسمو ما فوق العقل لها طابع فوق – قومي، فإن تجسيدها كشكل ثقافي هو بالضرورة «قومي» بالمعنى التاريخي الملموس للقومية، وليس بالمعنى الأسطوري الصهيوني بالطبع كما يقول ابراهام السرفاتي. فالهوية القومية اليهودية قومية تشكلت في التاريخ من خلال التفاعل والانفعال مع الشروط المادية لوجودها وليس من خلال نصوص أسطورية تُجوهر القومية اليهوديةـ وتجعلها قومية متعالية.
ويقرر السرفاتي بناء على ذلك أنه لا توجد ثقافة مسيحية ما فوق قومية رغم وجود ديانة مسيحية كونية. وبذلك تبدو المسيحية ملحق بالقومية وليست جوهرا، فلا يمكن بالتالي القول بفرنسي مسيحي إلا عند التمييز عن ديانات أخرى، أو فرنسي كاثوليكي إلا عند التمييز داخل الديانة الواحدة. فالفرنسي يبقى فرنسي، بعيدا عن تلونات العقيدة الدينية .
لا يجيب هنا ابراهام السرفاتي على الصهاينة المؤمنين بالأرض المقدسة الموعودة، بل يوجه كلامه هذا مباشرة إلى الاشتراكيين اليهود الذين دعموا الفكرة الصهيونية، وهو بذلك لا يتورع في نقدهم من خلال ممثلهم الأبرز بيير بوروخوف هذا الذي أسس حزب «يوعالي صهيون»: «عمال صهيون» سلف حزب العمل الاسرائيلي. وهو بهذا يرد على أحد الاشتراكيين الذين صهينوا الاشتراكية. قائلا «أما أن يصطنع اندماج وثيق بين الشعب اليهودي المزعوم أرض فلسطين، فإن حقائق وقتنا الحالي قد تحكمت على هذيان بير دوف». ويذهب السرفاتي بعيدا في نقد فكرة القومية اليهودية بمبررات صهيونية. فبالنسبة له، فكما أنه لا وجود ليهودية كثقافة في ذاتها ولا بالأحرى كقومية، فلا وجود لسفردية كثقافة فوق قومية لجزء من يهودية ما مجردة في ذاتها. فاليهودية الإيبيرية القروسطية قد تنوعت حسب الظروف التاريخية فاندمج جزء الأكبر منها في العروبة، واندمج جزء آخر في يهوديات أوروبا الرأسمالية الصاعدة، وجماعات متوسطية غير عربية، مما جعل اليهودية تتحول وتندمج مع ثقافات أخرى تشكل لحمة الهوية الوطنية الواحدة وليس العكس كما رأينا حين نقده لاشتراكية بيير بوروخوف. وفي هذا السياق نفهم تعريف ابراهام السرفاتي للديانة، باعتبارها «عقيدة تسمو ما فوق العقل لها طابع فوق – قومي، فأن تجسيدها كشكل ثقافي هو بالضرورة قومي». وهنا نفهم الفرق بين الفهم التاريخي الملموس للقومية اليهودية عند السرفاتي، وشكلها الأسطوري العنصري الصهيوني بالطبع. فحسب السرفاتي الدين واللغة يلعبان دورهما في الغالب في التشكيل القومي لكنهما ليسا نواة هذا التشكل لهذا يمكن أن يوجد حول هذه النواة تنوع نسبي على مستوى المجيمعات الثقافية دون ان تبدد مع ذلك الوحدة الجوهرية القومية
وسط الهوية القومية تتبلور مجيمعة ثقافية سماها السرفاتي بجماعة ثقافية مندمجة في المجموع القومي Communauté culturelle partie integrante de l’ensemble national هكذا يمكن الحديث عن فرنسيين يهود، كما يمكن الحديث عن حساسيات خاصة لفرنسيين مسيحيين وأمريكيين وعرب مسيحيين لا أكثر وفي نفس السياق يعرف اليهودي المغربي بقوله « اليهودي المغربي مغربي بنفس الدرجة لأنه يغوص بهويته في نفس الجدور الثقافية للتراث المغربي، إلا انه يعبر عن شكل خصوصي من الحساسية المغربية». ومن داخل نفس التحليل المادي للتاريخ يرى السرفاتي أن اليهود المغاربة لا يعتبرون فئة خاصة في الصراع الطبقي. فهم يعتبرون جزء لا يتجزأ من صراع الطبقات التي هم جزء منها وينتمون اليها، وأولوية يتبنونها دون أن تتدخل حساسيتهم الخاصة في هذا الميدان. وانسجاما مع هذا الطرح الفلسفي الماركسي يرى السرفاتي أن على اليهود أن يساهموا في تحرير اليهود العرب المضطهدين في إسرائيل وفي الثورة الفلسطينية.
يبدو هنا التحليل غير منسجم لدى السرفاتي لذا وجب علينا العودة لفهم موقف السرفاتي من الصراع العربي الاسرائيلي ومن دولة إسرائيل عموما.
في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
لم يكن السرفاتي رجل الغموض، بل كان واضحا إلى درجة لا يخلخل وضوحه سوى استباقيته للأحداث، سوى رؤاه. فالرجل وإن كان يعتبر أن فلسطين أرض للفلسطينيين، فإنه يقول وسأنقل هنا قوله كاملا دون تدخل «فالمطروح، إذن بالأولوية تبعا لهذه المعطيات، هو الحق الثابت للشعب الفلسطيني في استعادة أرضه كامل أرضه، لكن مع الإضافة إلى ذلك حق المستعمرة الاستيطانية التي استقرت على هذه الأرض وارتبطت بها في أن تحظى بالعيش فيها على أساس احترام خصوصياتها التاريخية».
يبدو أن النخبة المغربية المفكرة إبان تلك المرحلة ضمنها الملك الراحل الحسن الثاني اختارت منذ البداية حلا اتفقت عليها جميعها وهو حق بقاء اليهود الدين هاجروا الى فلسطين ضمن جماعتهم اليهودية، وهو الموقف الذي نقله الملك الحسن الثاني بوضوح إلى القادة العرب قبل حرب 67 شارطا اياه بالاندماج اليهودي داخل أرض فلسطين، وهو الموقف الذي تم رفضه في حمأة فوران الحمية القومية المتبلدة، وهو الموقف الذي سيدافع عنه ابراهام السرفاتي حتى ما بعد اجتياح بيروت سنة 1982 حين يكتب أن حق المستعمرة اليهودية في العيش يجب أن تتم شريطة : «أن تعرف كيف تندمج في الحركة العامة للشعب –المضيف وتنزع عنها كل مخلفات الاستعمار وبالتالي مخلفات العنصرية، وأن تقطع كل علاقة سياسية مع القوى الاستعمارية القديمة» هنا الفارق الأساسي للنظرة المغربية وللنخبة المغربية يهودية ومسلمة يمينية ويسارية للصراع العربي الاسرائيلي حيث يقول السرفاتي «فبهذا المعنى يكون اليهود الذين قدموا إلى فلسطين في إطار الاستعمار الصهيوني يعتبرون أنفسهم إسرائيليين فلسطينيين في الواقع بمقدار ما يتشبثون بهذه الأرض وليس بأسطورة» أي أنهم إسرائيليون على أرض فلسطين، حيث يقول السرفاتي، بواضح العبارة، أن يكون الاسرائيليون «فلسطينيين كما يقر بذلك الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطيمنية».
ويطالب ابراهام السرفاتي أن تتم عملية تجسيد هذه الرؤية على مراحل وازالة الحواجز التي اقيمت في هذا الصراع تبعا لمصالح القوى الخارجية فيقترح مرحلة انتقالية تتجاوز خلالها الضغائن و الظنون السيئة ويقول لكن لتحقيق هذا « يجب ان ينزاح ثقل القوى الخارجية الذي يعيق هذا الحل العادل».
لقد بقي اليهود المغاربة دائما في الصف التقدمي للدفاع عن مصالح المغرب ولا يزالون في الداخل أو في الخارج. وكل عملية لمحاولة إدراجهم ضمن الصورة النمطية لثقافة قروسطية بائدة يجعل من ابناء الوطن الواحد أعداء، فهذا أمر غير محسوب العواقب.
الكاتب : عزيز قنجاع - بتاريخ : 04/12/2023