في تفاعلية العرض المسرحي

د. أسامة السروت (*)
لطالما كان استقراء العرض المسرحي مسألة عويصة في التناول النقدي، فالطبيعة الزائلة لهذا العمل الفني الحي تنبئ دائما بدراسة مقتصرة على النص الدرامي عوض النص الركحي، ومن هنا نجد أن مقاربة أي عرض مسرحي هي مقاربة لبقايا الأثر الفني العابر : صور ، فيديوهات، نص درامي، كراسة المخرج ..إلخ.
لقد ارتكز النقد المسرحي لأمد طويل على بلورة المفاهيم الأرسطية في معالجة المستجدات المسرحية نصا كان أم عرضا، وحتى مع بزوغ فجر العهد الملحمي لم ننتقل إلا إلى سياق عكس-درامي لتبرير التصورات البريختية، والواقع أن بزوغ مسرح المخرج ثم مسرح السينوغراف قد أسس لمجال فرجوي جديد تفرض التقنية الركحية الجديدة فيه جماليتها وتتحقق بالتالي شعريات جديدة تختلف عن تلك القديمة، مع الأخذ بعين الاعتبار عامل التجدد في الرؤية الإنسانية للعمل الفني دون أي إمكانية للقطيعة .
الشعر و الشعريات الحديثة:
لقد كتب أرسطو كتابه « بويتيقا» مستحضرا نماذج الدراما و الملحمة و الديثرامب و اعتمد فكرة المحاكاة كأساس حاسم لأي مقاربة للفن الشعري فهو في نظره :» محاكاة تتسم بوسائل ثلاث قد تجتمع وقد تنفرد وهي : الإيقاع و الانسجام و اللغة «. تتحدد فكرة الشعرية إذن كمنظومة «ضبط لإيقاع الخطاب الأدبي وتحديد هويته وطرائق تعبيره» ، وقد تم بلورت استثمار هذا المفهوم في استعمالات نقدية متنوعة لا يتسع المجال لحصرها، وحتى لا نغوص في الاستثمارات الأدبية للمفهوم سنستحضر في دراستنا هاته، قيمته العملياتية في إبراز وتجويد الفعل الفني داخل السياق المسرحي .
يرد في سياق الشعرية والمسرح من خلال جلال أعراب أنها « عمل علمي يسم أشغاله بمهمة ضبط وإبراز قوانين وقواعد العمل الإبداعي حتى يتسنى للإبداع امتلاك هويته ومفرداته وخصوصيته» .
إن الشعرية تقترح نفسها كأداة تقنية للتعبير عن الهوية الفنية للعمل المسرحي و تأكيد مفرداته الإبداعية الركحية، حيث تؤسس إنجازاته البصرية لخصوصيات تعبيرية حية.
يشكل الحديث عن الشعريات المسرحية الحديثة محفزا مهما لسبر أغوار التمظهرات الركحية الجديدة والبحث عن لغة واصفة تحيط بالمعروض الحاضر من التجارب والأداءات المسرحية الجديدة وهو ما يدفعنا لاقتراح أحد هذه الشعريات المعاصرة.
ما التفاعل:
عندما يتم الحديث عن التفاعل كمصطلح علمي يتداوله النقد المسرحي وجب التأكيد أنه مصطلح لا وجود له في معظم المعاجم، مثل المعجم الموسوعي لميشال كورفان Michel corvinلكنه يحل بالتأكيد مصطلحا مهما في النسخة الأخيرة من سلسلة معاجم المسرح لباتريس بافيس Patrice Pavis، والحديث هنا عن «معجم الأداء والمسرح المعاصر«.
يَردُ التفاعل في المعجم من خلال مصطلحinteractivité أو التفاعلية حيث يتم تضمين الإشارة للتفاعل. إن الفعل بين شخصين اثنين داخل سياق مسرحي و الحاصل بين الممثل والجمهور يمثل أساس العلاقة المسرحية، ولفهم مستجدات هذه العلاقة نستقرئ ما عرف به باتريس بافيس التفاعلية حيث يقول: «التفاعلية هي العلاقة بين نظام معلوماتي و بيئته، التفاعلية تَكُون ‘se fait ‘ مع عامل بشري أو غير بشري». يستعير بافيس في تعريفاته بعد ذلك وخاصة عند طرح مصطلح les arts interactif الفنون التفاعلية تعريفا مأخوذا من كتاب «l art numerique « للكاتب ادموند كوشوEdmond Couchot ويأتي في التعريف ما يلي « التفاعلية هو مفهوم ديناميكي لا حدود له ، يدفع للحصول من الكمبيوتر على إجابات أكثر دهشة ‘subtile’ و فورية».
لقد تم تحديد التفاعلية كخاصية معاصرة انطلاقا من مجموع الخبرات الناتجة عن التطور التكنولوجي وخاصة الثورة الرقمية المعاصرة وهذا ما جعل بافيس يستعين برؤية كاتب متخصص في الفن الرقمي ليقوم بغرس المفهوم، كمصطلح نقدي مسرحي يساير التطورات الحاصلة في أشكال الفرجة المسرحية المعاصرة.
إن ما يثير الدارس في تصنيف باتريس بافيس هو تجاوزه للاسم ‘تفاعل’ و تركيزه على ‘التفاعلية’ كخاصية تفيد الدارس والناقد المحترف، وهذا في حد ذاته يمثل جزءا من فهم فكرة التفاعل في العرض المسرحي أو الفرجة الحية، ذلك أن الخاصية تكون أقرب للصيغ الجديدة التي قد ترفض المعيارية.
نلتمس انطلاقا من ما سبق طريقنا للفهم الصحيح لفكرة التفاعل من خلال استيعابنا لفهم خاصيته. إن التفاعل علاقة بين طرفين قد تختلف طبيعتهما (بشرية أو غير بشرية) وتتجلى في توصيف محدد يتمثل في ثلاث كلمات /مفاتيح : الدينامية غير المحدودة والإدهاش والفورية .
إن استعارة هذه الكلمات كمداخل لقراءة التجارب المسرحية المعاصرة سيكون مجديا لأبعد الحدود وخاصة أمام الفرجات التجريبية و ما بعد الدرامية، فالمسرح المعاصر بحساسياته وتجاربه يتخذ فعلا سبيل «التفاعلية» بدون أدنى شك ، بل ويتخذها كخاصية فنية ، وشعرية أساسية لتحقيق جمالياته .
التفاعل والدراماتورجيات الجديدة:
يشكل الحديث عن الشعريات المسرحية الحديثة محفزا مهما لسبر أغوار الجماليات الركحية الجديدة والبحث عن لغة واصفة تحيط بالمعروض الحاضر من التجارب و الفرجات المسرحية .
يحضر التفاعل في شعريات الدراماتورجيات الجديدة وخاصة تلك التي تقترح تلقيا شذريا لعلامات العرض المسرحي. يقول رولان بارت في سياق وصفه هذه العلامات المسرح :
«ما المسرح ؟ إنه نوع من الآلة السيبرنية ، تختبئ وقت الاستراحة، خلف الستارة. وما أن ترتفع هذه الأخيرة حتى تبدأ هذه الآلة ببث الرسائل إليك، ولهذه الرسائل خصوصية التزامن رغم اختلاف إيقاعها «. إن العرض المسرحي كنموذج لآلة سيبرنية على حد وصف بارت تثبت حضور التفاعل عبر مكونات الخاصية التفاعلية فنجد العرض المسرحي مرسلا محوريا لكتلة من الرسائل اتجاه المتفرج.
فكما أن العرض المسرحي هو تركيب معقد لأنظمة علاماتية، فهو يضم رسائل متداخلة تتشابك في لحظة تلق واحدة، فهناك نظام التعبير الإيمائي، نظام التعبير الحركي ، نظام الزي ، نظام الإضاءة ، نظام الصوت والمؤثرات الصوتية ، نظام المؤثرات البصرية ثم النص المنطوق أي النظام اللغوي وكل حقائق الركح ، نص الكاتب ، لعب الممثل ، الصورة المشهدية هي حقائق تمثل حقائق أخرى.
إن هذه الحقائق لا تتحقق إلا في لحظة تحقق العلاقة المنتجة للعرض المسرحي أي فترة التفاعل ومنه فحزمة العلامات لا تكاد تتجزأ بل إنها تتماسك وتتكامل بطريقة غريبة يولد بعضها بعضا و يعطي بعضها المعنى للبعض الآخر وقد يكون أحدها أساسيا لعمل الآخر.
تظهر خاصية ‘التفاعلية ‘ جليةعبر مكوناتها : الدينامية اللامحدودة ، الفورية و تتحقق فور تحقق فعل العلاقة (فرجة/ متفرج)، أما الضلع الثالث لخاصية التفاعلية والمتعلق بالإدهاش فهو متعلق بمعطى آخر يمثل عصب أي فرجة، و هو الخاصية المميزة للفرجة المقدمة ، فالمعروض كلما أجاب عن تحقق الفرجوية فقد حقق التفاعلية.
الفرجوية وتحقيق التفاعل:
يرد في سياق فهم الفرجوية ما طرحه حسن يوسفي حول الإحاطة بالمفهوم حيث يقول» وقد استعمل الفرجوي بمعنى ما يعرض أو يقدم للمشاهدة بكيفية مثيرة وغير عادية « . إن انفتاح الفرجوي على سياقات عديدة في الحياة اليومية يتخذ صفة إيجابية وتارة سلبية حسب سياق تواجد المعروض الفرجوي، وفي علاقة الفرجوي بالمسرحي نجد الفرجوي محددا بكونه « كل لحظة تنتج أثر صدمة بصرية ، مسموعة أو عاطفية تستغرق المتفرج أو تبتلعه، ليس بواسطة ما يقول النص وإنما بواسطة الطريقة التي يقال أو يعرض أو يتم إخراجه، بها». إن النتيجة المرئية الظاهرة على المتفرج تحدد الأثر ومدى الانتشار أو المحدودية للمعروض الفرجوي.
وهكذا وبترادف خاصية الفرجوية وارتباطها بالتفاعلية عبر رابطة الإدهاش نتمكن من الإحاطة بكل الأضلع المكونة للمفهوم المدروس أي التفاعل، ليتأكد لنا أنه أداة مهمة لتناول العديد من التجارب المعاصرة في فنون الأداء لكونها تنبني على المثلث المقترح (الدينامية غير المحدودة و الإدهاش والفورية)، ومدى قدرة مفردات الخاصية التفاعلية على الإحاطة بالأشكال الفرجوية الجديدة.
(*) كاتب وباحث مسرحي
الكاتب : د. أسامة السروت (*) - بتاريخ : 16/04/2025