في حالتِنا، وأساليبِ التضليلِ و”تَقْنِيعِ” الأعداء… !
محمد الفرسيوي
لفظةُ “التَقْنِيع” هي هنا بمعنى وَضْعُ القِناعِ على حقيقةٍ ما، من أجلِ إخفاءِ هذه الحقيقةِ وتعويضها بواقعٍ مُزَيفٍ وزائفٍ وبحالةٍ كاذبةٍ وهمية، تلاعباً بوجدانِ وعقلِ وفِطنةِ الناس، أفراداً ومجموعاتٍ ودولاً وشعوباً، وذلك بغايةِ التوْهيمِ والتضليلِ والتغريرِ بهم وتوجيههم التوجيه والطريق الخطأ.
في حياتنا المعاصرة، تطورتْ أساليبُ ووسائلُ “التقْنِيعِ” والتضليلِ بصفةٍ مدهشة، جراءَ التطورِ والانتشارِ الواسعِ الذي تعرفه تكنولوجية الاتصالِ والتواصلِ، الصورة والإعلام، وتسخيرها بمعيةِ العلمِ لخدمةِ أهدافٍ غير الأهدافِ الأصلية، النبيلةِ والإنسانية للمعرفةِ والعلم… وكثيراً ما قد نَسقطُ كمحسوبين على مجالاتِ الفكرِ والثقافةِ والفعلِ الحقوقي والنضالِ عموماً في فخاخِ هذه الاستراتيجياتِ المُحْكمة، فَنُحَولُ من الفاعلِ إلى المفعولٍ فيه والمفعولِ به، ومنْ مُنَورِين إلى مُضللين ومُخَطئِين، للناسِ بعد أنفسنا…
لذلك قال عمر: ” التضليلَ أَشَد أنواعِ القمع”، ولذلك نقولُ عَنْ مَنْ يَتَسرعُ ولا يَتَبَصر، أو مَنْ يرى الأمورَ بعينِ غير العقلِ والحكمة؛ “شَفْ الربيعْ وْمَشَفْشِ الحافه”، ولنا في ما عُرِفَ بالربيع العربي الدرس البَلِيغ !
ولذلك أيضاً، طَورَ “أصحاب المال والمصالح” والحكامُ الفعليون في الدولِ والعالمِ أساليبَ التضليلِ وتكنولوجياته، وحشدواْ لها الوسائلَ والتنظيماتِ والجامعاتِ والتكويناتِ والتمويلاتِ السخيةَ عبر أرجاءِ العالم، باستعمالِ ما يسمى بالمجتمعِ المدني والكياناتِ السياسيةِ وحقوقِ الإنسانِ ومراكزِ الخبرةِ والأبحاثِ، وكذا التنظيمات العابرة للقارات…
في بدايةِ القرنِ الماضي وأواخرِ ما قبله، أُخْضعتْ دولُ وشعوبُ ثلاث قاراتٍ في كونِنا المشتركِ والمُتشاركِ، بواسطةِ “الاستعمارِ المباشر”، تحت قِناعِ الحمايةِ والمساعدةِ على اللحاقِ بركبِ العصرِ ونقلِ الحداثةِ والديموقراطيةِ، بينما توضحَ أن الهدفَ كان هو إخضاع هذه الشعوب واستعبادها، نهب ثرواتها وخيراتها، تسخيرها أسواقاً مربحةً ويداً عاملةً رخيصة، واسْتْدامَةِ ضُعفها وتخلفها وتبعيتها…
إبانَ الاستقلالاتِ وبعدها، منتصف القرنِ الماضي، عمدت القوى الاستعمارية الغربية بالقيادةِ الصاعدةِ لأمريكا والسابقةِ لبريطانيا وغيرها، إلى جولةٍ أخرى من التسلطِ والتقْنيعِ والتضليل، بواسطةِ “الاستعمار غَيْرِ المباشر” في الدولِ والمناطقِ التي أكتفتْ بالاستقلالاتِ الشكليةِ، ومن خلالِ التدخلاتِ المسلحةِ والانقلاباتِ العسكريةِ في دولٍ كثيرةٍ من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخصوصاً منها تلك التي كانت قد شرعتْ في إنجاز مهام التحررِ الوطني وتأميمِ الدولةِ والثرواتِ الوطنيةِ لصالحِ أوطانها ومجتمعاتها وشعوبها… وذلك بالتزامنِ مع زرعِ الكيانِ الصهيوني بخصرِ المنطقةِ العربيةِ والنظام العنصري بجنوب إفريقيا، ومع تغذيةِ وتفجيرِ النزاعاتِ العرقيةِ والدينيةِ والأهليةِ والهوياتيةِ بالعديدِ من الأقطار، والتي هُيئتْ أسبابُها وعواملُها ومداخلُها لهذا الغرضِ من خلالِ “البَلْقَتَة” و التقسيمِ والتفتيت الثقافي والجغرافي والإضعافِ المُمنهج.
أواخرَ القرنِ السابقِ وبدايةِ الألفيةِ الحاليةِ، تواصلتْ سياساتُ واستراتيجياتُ الإخضاعِ والهيمنةِ ذاتها، ومعها أساليب تضليل الدول والشعوبِ والسطوِ المُقَنع والواضحِ على خيراتها وسيادتها، مُحينةً ومُطورةً، وخصوصاً بعد استفرادِ أمريكاً و”أصحاب المال” بالعالم… وهكذا تحولَ القناعُ إلى تخريجاتٍ تحت عناوين جذابةٍ كالحريةِ والديموقراطيةِ وحقوقِ الإنسان وحق تقريرِ مصيرِ الشعوبِ والإثْنيات.
إن منطقتنا الممتدة من أقصى المغربِ الكبيرِ إلى أقصى الشرقِ العربي، وهي فوق بُركانِ الحروبِ الحاصلةِ أوِ الكامنةِ باسمِ الهوياتِ الدينيةِ والعرقيةِ، تخضعُ لذاتِ استراتيجياتِ الإخضاعِ والإضعافِ ومُخططاتِ العنفِ البَيْنِي… ومما لا شك فيه، أننا في الوقتِ الذي نُواصلُ فيه التطلعَ إلى استعادةِ التحكمِ غي زمامِ أمورنا واسترجاعِ مكانتنا وإشعاعنا الحضاريين، ليس أمامنا سوى أنْ نعي وندركَ جيداً فخاخَ هذه المخططات، وأنْ نتيقن أنْ لا أحد سيحك جلدَنا غير ظفرنا، وأن أولى أولوياتنا تبقى دوماً؛ رفع تحدي إنجاز استحقاق ومهام التحرر الوطني، بالتزامن مع إطلاقِ ثورةٍ ثقافيةٍ، علميةٍ ومؤسساتيةٍ شاملةٍ، تُوَطدُ قيمَ التحررِ والعقلانيةِ والإبداع وقواعدَ وبُنْيانَ الديموقراطيةِ الحقةِ ومجتمعَ الإنصافِ والمساواةِ وتكافؤَ الفرصِ والمواطنةِ المتساويةِ ودولةَ الحق والقانونَ، وذلك مع النزوعِ التواقِ والمُثمرِ إلى التكاملِ والوحدةِ والتناغمِ داخل الأوطان، وبين أوطان منطقتنا، من أقصى المغربِ الكبير إلى أقصى الشرق العربي.
وفي كل الظروفِ والأحوالِ والسياقاتِ؛ الذئبُ لا يرعى الغنمَ أبداً، ولنْ نحصدَ إلا ما زرعنا ونزرع… !
الكاتب : محمد الفرسيوي - بتاريخ : 10/10/2017