في حوار مع صديق.. شذرات في المسألة الديمقراطية (الحلقة 1)

الحبيب الطالب
في حوار طويل مع صديق لي، اعتدت مرارا، ولأسباب صحية، أن ألتقيه في مقهى بجوار سكني. وكما كان متوقعا منه، خلال الأسبوع الأول لسقوط النظام في سوريا، أن يطرح علي سؤاله المنتظر: لا أراك فرحا بما حدث في سوريا؟ وأجبته اختزالا :
– كيف لي أن أفرح، رغم كل خلافاتي مع النظام السابق، والنابعة من منظوري الاشتراكي لدواخله الاجتماعية أساسا، وقد أضحت سوريا الحبيبة بثقلها الحضاري والعروبي المعروف تاريخيا، بلدا شبه محتل في الشمال، وانضاف اليه احتلال مضاعف من اسرائيل لما بعد الجولان، ومنه «جبل الشيخ» المطل عسكريا على دمشق ولبنان والأردن؟
– كيف لي أن أفرح، وسوريا التاريخية، لا النظام وحسب، ينهش جسدها اليوم أكثر من طامع، إقليمي ودولي، لعله يأخذ قطعة نفوذ دائم له، من «الصيدة» التي فلتت من بين أياديهم، بتعبير أحد الوزراء العرب السابقين والنافذين في الأزمة السورية ،وها هي «الصيدة» تسقط بعد أن أثخنت جراحا.
– كيف لي أن أفرح، وسط هذه الحملة الإعلامية العالمية تحت شعار الحرية والديمقراطية في سوريا تحديدا، وكأن المسألة قد حلت في كافة بلدان العالم، سواها. وبينما نحن نشاهد، على مرأى ومسمع المجتمع الدولي، يوميا مجازر الإبادة الفائقة الوحشية للشعب الفلسطيني، ولا من يكترث بنفس الحمية والحماسة من تلك الدول المنافقة.
– كيف لي أن أفرح، وفي اللحظة نفسها، تجرؤ اسرائيل على تدمير كل القدرات التسليحية للجيش الوطني، ويطال احتلالها مصادر المياه وأزيد من 400 كلم مربع، ولا من ينبس بكلمة إدانة تحذيرية جدية من كل اولئك الذين يقيمون اليوم مآتم الحرية وحقوق الانسان في سوريا لوحدها.
* * *
اكتفيت بهذا القدر اليسير والمؤلم مما يحدث في سوريا والمنطقة عامة.إلا أن صديقي استمر في أسئلته: وإذا كان الوضع على هذه الحال، فكيف نفسر ما جرى الى اليوم؟
ولأني أسهبت قليلا في جوابي على هذا السؤال، مبتدئا بتقديم تصوري العام للمسألة الديمقراطية، ارتأيت في صياغة هذه المقالة، وكما جرت شفهيا،أن أكتفي بقسمها الأول، وعلى حلقتين، وأترك ما تعلق منها بتفسير الأحداث والمواقف بين كافة القوى الفاعلة في سوريا اليوم، والمنطقة عامة، وكذا المآل العام للحرب الدائرة هناك، إلى صياغة أخرى قادمة وهذا ما جاء في ردي الأول:
ليس سهلا علي أن أركز كل ما تعلمته وعرفته عن هذا البلد الشقيق. وأنت تعرف أني فضلت في النصف الأول من الستينيات الالتحاق بالجامعة في سوريا على أية امكانية جامعيه أخرى. ودافعي كان سياسيا بالدرجة الأولى بعدما قرأت صدفة كتاب «في سبيل البعث» لصاحبه زعيم الحزب «ميشيل عفلق» والبعث كان في أشهره الأولى على رأس السلطة. وقررت فورا الذهاب الى سوريا لمعاينة التجربة البعثية في ميدانها. وعمري لم يكن حينها يتجاوز 18 سنة. وهذه حكاية تفصيلية تعرفها، ولا ضرورة لسرد استخلاصاتي منها.
ولهذا،أستسمحك لأبدأ باختزال القول في تقديم تصوري العام للمسألة الرئيسة في هذا الموضوع، والمتعلقة بالحريات والديمقراطية في تجاربها المختلفة،وبالأصح لبعض أوجهها الرئيسة. وعلى الرغم من معرفتي،أن هذا الموضوع تتفاعل فيه عوامل عدة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وبكلمة جامعة تتفاعل فيه كلية مجتمعية تاريخية ومرحلية أيضا.
ولا أستثني منها الموقع الجيوبوليتيكي في صراع المصالح العالمية. قصدي من كل ذلك،أني لا أرى الديمقراطية مجرد آليات لحكم متعارف عليها، يمكن اقتباسها في أي بلد وفي أية لحظة كما صار شائعا لدى العديد من القوى العربية خصوصا، وإنما هي نتاج لصيرورة ما عبرت عنه بتفاعلات الكلية المجتمعية . ومصيرها الأمثل، أن تستولد النموذج الذي يفضي إلى امتلاء التعريف الكلاسيكي اليوناني ،» حكم الشعب لنفسه وبنفسه» بمضامين مطابقة له قولا و فعلا .
وهذا مشروع اجتماعي – إنساني مازالت أبوابه مشرعة حتى في البلدان المتقدمة على المستوى العالمي. و لذلك ، سأكتفي الآن بالملاحظات التالية :
أولا: ينبغي أن نتذكر جيدا مكانة سوريا الخاصة في تاريخنا العربي الإسلامي عامة. فهي من أمهات الحضارة الإنسانية وقلب العروبة النابض إلى اليوم. وهذه ليست مفاضلة مجانية أو اعتباطية – و إنما لكي ندرك بعيون صاحية حجم الخسارة الفادحة، إذا ما خضعت سوريا للاحتلال أو التقسيم أو حتى لمجرد الوصاية الإسرائيلية. ومن هذه الزاوية التاريخية الاعتبارية، ألا يثيرك اليوم ما يجري على أرض سوريا تحت حكم هجين سمي دوليا ولأول مرة ، استثناء، باصطلاح « سلطة الأمر الواقع» ، لا بحكومة الثورة ولا بحكومة انقلاب عسكري، كما اعتدنا في اصطلاحات كافة التجارب السابقة، إذ مهما كانت خطابات سلطة الأمر الواقع إيجابية ومطمئنة، فإن التحليل الجيني لن يجد لها نسبا مع ما كان يسمى بالثورة الشعبية ضد الاستبداد. ولأنها ليست أكثر من وليد مشوه الأعضاء والملامح لوصايات خارجية متنافرة المصالح . وسأترك الآن التشخيص السياسي التفصيلي لما بعد. لكني أحيلك إلى ما كتبته من مقالات سابقة خلال أزمة ما سمي بالربيع العربي، وأخص منها بالذكر المقالين المنشورين بجريدة الاتحاد الاشتراكي ( دوخة الثورات العربية ورسالة مفتوحة إلى المناضل المعارض الدكتور هيثم مناع ) لأني أعتبره المعارض الأكثر استقامة مبدئية، وهو الذي أخد مسافة نقدية وصريحة من تدحرج المعارضة للعمل المسلح ، وبلجوئها إلى التعويل على تحالفات خارجية مشبوهة،إقليمية ودولية غربية . وأترك هذا الموضوع الشائك الى ما بعد .
ما يهمني في هذه اللحظة، أننا سنلاحظ حتما، أن معظم الدول العربية الكبرى، باتت تشكو، ولو بتفاوت بينها، من ويلات الانقسامات المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية، وحتى من أدلجة اختلافات الأصول العرقية، وغيرها من الحزازات المحلوية في الوطن الواحد. وأبرز ما في ذلك : من جهة، نكوص الوعي الديني التحرري المجتمعي لدى فئات واسعة في المجتمع.ومن جهة ثانية، تضخم انعزالية المثقفين الحداثيين بجميع شرائحهم التخصصية،لسيطرة المفاهيم النيولبرالية عليهم . وفي المقابل، توسع دور المثقف العضوي التقليدي في هرمية المجتمع .ولا يمكننا في هذا الواقع التراجعي أن نغفل عن دور الدولة وخياراتها، وما نجم عنه من نظام عربي وتعاون إسلامي مفلسين، والأكثر دقة لولا اختيارات النظام العربي الرسمي المستميتة على التبعية والعديمة الحرص على تنمية الأمن القومي العربي المشترك من جميع أوجهه المتكاملة، لما وصلت المجتمعات العربية الى هذا الدرك الأسفل من التفكك والفتنة الأهلية الداخلية والبينية القطرية معا. ولا ينقصني في هذا الصدد قرائن دامغة طيلة عقود ومراحل سالفة. ولو عدنا بذاكرتنا الوطنية الى الوراء، لاستذكرنا أن تصنيف الصراع العربي الاسرائيلي كان في الماضي ،على أنه «صراع وجود لا صراع حدود».إلا أن الوقائع قد بينت جازمة،أن الذي جعل صراعه بجد ومثابرة صراع وجود، كان ولا يزال اسرائيل ،بينما كان الانشغال الدؤوب للنظام العربي الرسمي، هدر كل مؤهلات أمنه القومى المشترك، والانكباب المحموم على استثمار الخلافات والتطاحنات والمصالح الضيقة البينية، إلى أن انحدر صاغرا لفتح الحدود العربية أمام إسرائيل .
أردت القول مما سبق من تكثيف مبتسر بالضرورة، أننا لو عدنا إلى حال المجتمع السوري خصوصا، لوجدناه، وهو تحت الانتداب الفرنسي (اي الاحتلال) يرفض بمقاومته للاحتلال (كما كانت الحال في كافة المجتمعات العربية) في العشرينيات من القرن الماضي، وبكافه مكوناته المذهبية والطائفية والإثنية، محاولات المستعمر الرامية إلى تقسيم وحدة الوطن في كيانات مفردة. وحينها ومن جميع المكونات موحدة صدح بالشعار العلماني (بلا حاجة لهذا الاصطلاح)»الدين لله والوطن للجميع». وبالمناسبة، من أكبر المعضلات اليوم في ظل السلطة الجديدة الموقف من دور ومكانة المرأة على كافة المستويات المجتمعية.أليس مخجلا أن يكون هذا الانحدار دراميا في الزمن المعاصر، وفي مجتمع أقرت نخبته حق التصويت الانتخابي للمرأة المتعلمة في العشرينيات من القرن الماضي، ثم أقرته لعامة النساء في النصف الاول من الخمسينيات، وهي البلد الذي أنجب العلامة عبد الرحمن الكواكبي الفاضح لطبائع الاستبداد والداعي لتحرر المرأة في تاريخ سابق .
هذه المقارنة بين ماض مبكر وبين حاضر ملتبس وما تنبئنا به من تراجع دراماتكي في الحركية المجتمعية، أستخلص منها بالبداهة التي لا تحتاج لمجهود فكري،أن العشائرية والمذهبية والطائفية والميولات المحلوية وحتى ذات الأصول العرقية، وهي علاقات اجتماعيه موروثة ، تتفاوت فيما بينها في أي مجتمع، تبقى قابلة لسيرورة التقدم ، إن لم تتحول إلى معتقدات صلبة وصراعات تناحرية انقسامية .كيفما كانت العوامل المركبة الفاعلة في تطورها سلبا أو إيجابا. وأهمها قوة العامل الاقتصادي التحديثي المعاصر. ومع ذلك، لا يبقى لنا في نهاية التحليل سوى التشديد على تقدم أو نكوص الوعي المجتمعي العام باعتباره الضمانة الواقية من أي نكوص محتمل، وإلا كيف نفسر أن المجتمع السوري( وغيره) كان أشد ارتباطا بهويته الجامعة الواحدة، وقد كان مجتمعا تقليديا بأغلب المعاني، وكان أقل تحديث اقتصادي واجتماعي، ثم تراجع الى الخلف في وقت أضحى فيه أكثر حداثة من عدة وجوه (والأسرة النووية اليوم إحداها).وبهذه المقارنة لا شك لدي في أن الوعي الجمعي قد تأخر نسبيا عن ماضيه الباكر. ولأن هذا التأخر النسبي لا أفق له، فلا مناص من عودة الغلبة إلى الوعي الوطني التحرري الجامع.
ثانيا : ربما للمقدمة السابقة على عموميتها، ما يفيدنا في العودة إلى المسألة الأهم بما هي مسألة الحريات والديمقراطية، وسأكون صريحا معك في هذه المسألة تحديدا . ولا أخفي عليك أن فشل ما سمي بالربيع العربي قد خفف إلى حد ما من أحكامي المسبقة والمطلقة على المسارات الممكنة والأكثر موضوعية لتجاربنا في هذا الصدد .ولكي لا أضيع في قضايا نظرية ما زالت بحاجة إلى تعميق وبلورة فكرية أكثر شمولية ودقة، أطرح عليك بعض الملاحظات لا غير، وقد تبدو مبعثرة لكنها في رأيي يجمعها ناظم مشترك، أقله أنها تخفف من أحكامنا المتسرعة على المكانة المطلقة للديمقراطية بكامل أركانها في تحقيق التقدم الممكن موضوعيا، كما تفتح أبصارنا على الاجتهاد في الأشكال الممكنة لتقدم الديمقراطية دائما .
أولا :من وجهة تاريخية ، ما زالت التجربة الناصرية المجهضة الأكثر تقدما على التجارب العربية التي رافقتها أو جاءت بعدها. ومن ذلك،أنها كانت ذات شعبية عفوية كاسحة في عموم الوطن العربي ، وتحديدا لأنها تخطت الرؤية المصرية المحلوية، وكانت سائدة في النخبة المصرية وقتها، ولأنها ربطت أساسا بين تحررها الوطني والتحرر الجمعي العربي والعالم الثالثي، وبين التحرر الوطني ومستلزماته في السيادةالوطنيةالاقتصاديةوالسياسية، وبين قدر ملموس من التقدم الثقافي النهضوي والعدالةالاجتماعية . وللمفكر إلياس مرقص وهو ناقد موضوعي للتجربة الناصرية، فكرة ثاقبة في هذا الشأن، تقول ما معناه: أن عبد الناصر كان حلقة وصل فاعلة جمعت وحركت في السياسة جماهير الفلاحين المغيبة في (الأرياف)، وجماهير المدن التي كانت تطالها الحياة السياسية. ولكي ندرك الكنه العميق لهذه الفكرة، علينا أن نستحضر كيف كان الفلاحون يعيشون حياتهم بلا كرامة تحت كرباج العمدة والإقطاع، وبالتالي كيف كان الفلاح وقتها يفكر في المعنى الملموس للحرية والكرامة لديه، ومع أن شكليات الديمقراطية الليبرالية كانت قائمة قبل مجيء عبد الناصر .وليس صدفة،أن قيادات الحزب الوطني الكبير في مرحلته الأخيرة(حزب الوفد) كانت قد شهدت تغيرات لصالح قيادات ذات منشأ إقطاعي .
ومن الواضح ،أن التجربة الناصرية كان الشخص فيها مركزيا، وأكبر في رؤاه من محيطه السلطوي، وأداته الحزبية في التأطير الشعبي، وتلك كانت مكمن ضعفها العضال إلى أن أجهضت مساره التجريبي الذي كان عليه، وهو يتلمس ويتجذر في اختياراته الى أن وافته المنية على حين بغثة . فانكشف الضعف البنيوي في التجربة… وما كان الورثة على مستوى رؤاه واختياراته .
ثانيا: نعم، لقد انتقلنا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره إلى سطوة مطلقة لنظام عالميأ القطب الواحد . ولذلك، ما كان متاحا في زمن القطبين من هامش للمناورة الهادفة للتحرر والاستقلالية، ضاق إلى أقصى الحدود. ولنقل،إنه بات باهظ التكلفة، وبلا بديل آخر سوى الرضوخ للتبعية، فيما أصطلح عليه بنظام العولمة. وما تغير في الجوهر،أن النظام الرأسمالي الأمبريالي ازداد توحشا في التلاعب بمصائر الشعوب الضعيفة القدرات أو الناهضة، سواء بالتدخل العسكري أو بالحصار المالي والاقتصادي، أو باختراقاته الافتراسية الإعلامية والأيديولوجية للتناقضات المجتمعية الداخلية، وبالأخص لما يعرف بالمجتمع المدني. والفرق هنا في هذه الوسائل عما كان في الماضي، أن جميع تلك التدخلات ،الشرسة والناعمة، تتم كالمعتاد بحجة مقاومة الاستبداد والدفاع عن قيم الديمقراطية الليبرالية،إلا أنها، في زمن العولمة بقطب واحد، صارت بغطاء دولي إما من قبل مجلس الأمن الذي فقد إلى حد كبير توازنه التقليدي، وإما من خارجه، من قبل تحالف واسع للمعسكر الغربي وأتباعه . وقد أضحت هذه التبعية الغربية لأمريكا سمة ملازمة لكافة الأزمات، وأضافت إليها أمريكا هيمنتها القائمة على التبادل النقدي في العالم، مما جعل سلاح العقوبات والحصار الاقتصادي، مع الافتراس الاعلامي ،أكبر ظاهرتين مستجدتين في هذه العولمة ذات القطب الأمريكي الأوحد. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة وتكاد تكون معروفة ، أخص منها بالذكر،` ما جرى في منطقتنا العربية من تدخلات عسكرية مباشرة في العراق وليبيا والسودان وسوريا واليمن ناهيك عن الدعم المطلق للاحتلال الإسرائيلي. والدافع الأسمى لهذه الشراسة الهيستيرية الأمريكية الغربية الاستثنائية ضد الشعوب العربية، حماية إسرائيل وتمكينها من التفوق والسيطرة على المنطقة بتجويف دولها والقضاء المبرم على أي إمكان لتوحدها ونهوضها .
وينبغي أن نعترف أن أكبر نجاح حققته الإمبريالية العالمية في سطوتها الانفرادية، انتصار سيولة أيديولوجيتها النيوليبرالية لدى نخب وفئات واسعة من كافة المجتمعات، مما أوقع الأخيرة في شرك الانجذاب لما تقدمه تلك الايديولوجية من مغريات تحض على نمط العيش الاستهلاكي، و مما غيب لديها جميعا البدائل الاجتماعية الاقتصادية التحررية وما قد تحتمله من تكاليف ضرورية .
ومما زاد الطين بلة في منطقتنا، استغلال الأمبريالية، وبتواطؤ دائم وقديم، مع محمياتها من الأنظمة العربية، للتناقضات المجتمعية المذهبية والطائفية وغيرها . ولا يغيب عنا هنا، أن منشأ ما سمي بالقاعدة وتفرعاتها، كان بفعل تحشيد ديني إسلاموي قتالي في حرب أفغانستان على الاتحاد السوفياتي ، واستمر بعدها استحلاب هذه التناقضات المذهبية والطائفية إلى يومنا هذا .
وليس خافيا استثمار الغرب الأمبريالي لاختراقاته الأيديولوجية للمجتمعات المدنية في العالم، وأمثلة ذلك عديدة في كل بؤر التوتر الجارية حاليا، ولا يستثنى منها تلك التي تعتمد مؤسساتها في الحكم على انتخابات ديمقراطية ليبرالية، وشعبية الحكم فيها انتخابيا تفقأ العين، كما هي الحال في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية الساعية إلى الاستقلال والسيادة الوطنية، وأخص منها على سبيل المثال فنزويلا، والتي أصر الغرب على حصارها وتنصيب حاكم عليها من خارج القواعد الديمقراطية التي يزعمها .
ثالثا : وما يلفت النظر في هذا الوضع الدولي، أن المؤسسات الديمقراطية في الغرب نفسه، لم تعد لها نفس الدينامية المجتمعية المنتجة للعدالة الاجتماعية و الدافعة للتحرر من التشيؤ و استلابات الرأسمالية . و لذلك ، أضحينا نرى انفصاما متفاقما بين مؤسسات منتخبة شكلا و بين سلطة فعلية متحكمة يُعرفها التداول الإعلامي بـ « الدولة العميقة» ، وهو اصطلاح كما نبهت مرارا ، يهدف إلى إخفاء الطبيعة الطبقية لمكونات الرأسمالية المهيمنة ، وإلى إضفاء قدر من الشرعية الموضوعية على هذه الهيمنة بتغليفها بشيء من بداهة شرعية الدولة لدى المجتمع .
وبالتلازم مع تلك الظاهرة التي لم تعد خفية، تزداد الفروقات الطبقية اتساعا في غير صالح المكونات الشعبية الأوسع. وكما الحال في أزمات النظام الرأسمالي الإمبريالي، عندما تكون استلاباته مهيمنة بقوة، تتفاقم النزعة القومية الشوفينية الانكفائية ذات المصالح المتحجرة والعنصرية في أغلب الحالات ، وتوا علينا أن ننتبه إلى أن رائحة المكارثية الأمريكية القمعية السابقة، تفوح من جديد في دول التحالف الأمريكي- الغربي ، ومن ظواهرها الرئيسة العسْف على كل مقومات حرية التعبير، وهي من أبجديات الديمقراطية الليبرالية ، كما تجلى ذلك في محاربة تلك الدول لكل مظاهر الاعتراض على مواقفها المحابية لإسرائيل ، وغيرها من الأساليب والإجراءات اللا ديمقراطية في أجواء التصعيد المتوتر الذي تمر منه دول التحالف الغربي سواء في حرب اوكرانيا أو في هوسها المتجذر من الهجرة ومن مواطنيها ذوي أصول عرقية أخرى .
وخلاصتي الرئيسة من هذه الصورة العامة لأزمة الديمقراطية الليبرالية في بلدانها الأم ، ليس أكثر من أن المؤسسات الديمقراطية عندما تضمحل ديناميتها الاجتماعية المؤنسنة، تنتكس إلى مجرد أدوات شكلية لإدامة سيطرة أقلية مالكة وحاكمة فعلا . والأمر عندي في هذه المسألة ، ليس كما هو مشاع في أن النخبة الحاكمة المعاصرة في الغرب، أزمتها أنها أقل كفاءة وثقافة من سابقاتها ، ولا كما عند البعض،أنها الثمرة المرة لما يسمونه بعصر التفاهة . ربما في هذا التوصيف بشقيه شيء من الحقيقة، لكنه لا يضع الأصبع على مكمن الداء في طبيعة النظام الرأسمالي الإمبريالي نفسه . ولست بحاجة الى ضرب أمثلة من هذا الوضع الراهن في أمريكا خصوصا وأوروبا عموما. لكني أدعو فقط الى التأمل في انتخاباتها الأخيرة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا والقادمة في ألمانيا، ومعها الانتخابات الأخيرة لبرلمان الاتحاد الاوروبي. ولا شك لدي أن حصيلتها المأزومة في أجمعها ، كونها لم تعد تعبر في كل منها عن سيادة مصالح اجتماعية شعبية كبرى ، ولا هي في الخارج تعبر عن قيم إنسانية عليا .
وما أزعمه في هذا الاستخلاص العام، والذي أعي أني لم أسنده بوقائع عديدة متوفرة ( وقد يثير بعضها الهلع في امريكا خصوصا من فتنة أهلية راكدة إلى حين). أن الديمقراطية الليبرالية في بلدانها الأم ،والتي تأسست عبر قرون ، لم تعد أدواتها الإجرائية كافية ، لتحافظ الديمقراطية على مضامينها الأعمق في سيادة الشعب قولا وفعلا . وزعمي هذا ، وفي عصر العولمة وتسارع التطور التكنولوجي التواصلي ، يفترض من القوى الاجتماعية التقدمية مراجعات نقدية لمحدودية الهيكلة المؤسسية للديمقراطية الليبرالية نحو تصحيح أعطابها البنيوية العديدة ونحو تطعيمها بأشكال من الديمقراطية المباشرة .إنه المدخل الضروري لإضعاف هيمنة الاستلابات الرأسمالية والذي سيرتبط حتما بتطلعات اجتماعية اقتصادية أكثر جذرية، وكذلك للخروج من مآزق التيبس الطبقي للنظام الرأسمالي وديمقراطيته. وتوقعي أن التطور التكنولوجي الرقمي الذي دخل كافة الميادين إلا ميدان الهيكلة المؤسسية الديمقراطية ، سيحفز لا محالة على مثل هذه المراجعة مهما طال زمنها وصعبت مشاقها .
وزعمي الآخر،أن العولمة تطور حضاري ملموس، بصرف النظر عن موقفنا المعارض لنظامها الدولي القائم ، لأنها أشمل وأبعد تطورا تاريخيا منه، في الماضي والمستقبل . حقا ان العولمة ولدت ونمت عبر التاريخ البشري في أحضان صراعات إمبراطورية ما قبل نشوء الدول القومية، ولا يزال الصراع مستمرا بعدها في وضعية حضارية، اقتصادية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية، صارت أكثر وحدة واندماجا بين قدرات وتطلعات كافة الشعوب . وليس من مسار مستقبلي آخر أمام البشرية للبقاء والتقدم، سوى أن ما بين أياديها اليوم من أسلحة الدمار الشامل لوجودها وقطع نفسها سيكون هو المفر الحتمي الأخير لعصيانها وفوضويتها . وما يعنيني في هذا الأمر الإشكالي،أن الديمقراطية في عصرنا الحضاري والمعولم، لم تعد تقاس بمعايير تطبيقاتها القومية المحلية وحسب ، وهي نفسها على أهمية طفرتها الكبرى الفكرية والعلمية والإنتاجيةالمادية ، جرت تاريخيا بموازاة مع قتل الملايين والملايين من البشر في حروب إبادة واستيطان إحلالي،واستغلال لتمدد الأخطبوط الاستعماري، وإحياء دام ومفرط التوحش للرق ، وحربين عالميتين كان دافعهما الرئيس تقاسم النفوذ …وفي اقتتال آخر لا يقل مأساوية في حروب أهلية وأخرى وطنية بينية وصراعات طبقية ومذهبية دينية وعنصرية في أوطانها ذاتها أو مع خارجها .
ينبغي إذن، في هذا الوضع الحضاري الجديد عالميا، أن نقلص في أذهاننا من تلك الأحكام المطلقة المبهورة بسمو أخلاقي مزعوم لجنس بشري تكذبه وقائع التاريخ، لكي نعيد الاعتبار للمضمون الاجتماعي الإنسي الأعمق لمفهوم الديمقراطية وطنيا وعالميا. وعطفا على ذلك، فالمعيار الاجرائي للديمقراطية وطنيا، ليس وحده كافيا، اذا ما فقد ، مثلا، بعده الإنسان الأممي التحرري، وإذا ما عارض أو انتهك حق الشعوب الأخرى في التقدم وتقرير مصيرها. وإحياء من هذه الزاوية لقول مأثور،أي شعب يضطهد شعبا آخر، ليس شعبا حرا . وبهذا المعنى، يكون انضمامنا الى جبهة الصراع من أجل نظام عالمي أكثر عدلا وإنسية هو الموقف الديمقراطي الحق .
الكاتب : الحبيب الطالب - بتاريخ : 03/02/2025